لعلّه قد بات في حكم المعلوم أن المبادرة إلى إصلاح مجموعة القانون الجنائي تندرج ضمن أحد أهم إجراءات تنزيل توصيات الحوار الوطني لإصلاح منظومة العدالة. وهو الإصلاح الذي شكّل واحدا من استحقاقات تفعيل المستجدات التي حملها دستور 2011 في تجاوبه مع العديد من الانتظارات المجتمعية والتطلعات الشعبية لمناهضة الفساد والاستبداد. إذ جاء نص الدستور الجديد قائما على العديد من المبادئ، والتي يمكن أن نذكر من بينها: إقرار الحقوق والحريات، وتدعيم سلطات البرلمان والحكومة، ودعم استقلالية القضاء وضمان سبل المحاكمة العادلة، وبناء نظام متكامل للحكامة الجيدة، وإرساء ثقافة النزاهة والشفافية ومكافحة الفساد… إلى غيرها من المبادئ والقيم والتدابير. وكم كان طموح المغاربة كبيرا أملا في أن يفضي ورش إصلاح العدالة إلى نتائج تؤكد صدق شعارات الإصلاح وحسم الإرادة في الدمقرطة، خاصة مع عدد المشاريع التي جاء بها، من قبيل: القوانين التنظيمية المتعلقة بالمجلس الأعلى للسلطة القضائية أو النظام الأساسي للقضاة أو مشروع القانون التنظيمي المتعلق بالدفع بعدم الدستورية أو مشروع قانون التنظيم القضائي أو قانون نقل صلاحيات رئاسة النيابة العامة أو مشروع تعديل القانون الجنائي…. أو غيرها من المشاريع التي لم يكتب لها، لحدود زمن الناس هذا، أن تُحال على البرلمان. وبالفعل، فإن مسار تشريع كل هذه النصوص بقي، في عمومه، مسارا عاديا وطبيعيا، حيث انخرط أغلب الفاعلين والمهتمين في مناقشتها والتداول بشأنها وفق ما ترتبه مقتضيات المسطرة التشريعية من ترتيبات، وذلك بالرغم مما قد يُسجّله البعض من تأخر حاصل في إخراجها، لا سيما مشروعي الدفع بعدم الدستورية والتنظيم القضائي. ولم يشذ نص مشروع القانون 10.16 المتعلق بتعديل القانون الجنائي عن هذا الطابع العادي بداية الأمر، حيث شهدت لجنة العدل والتشريع بمجلس النواب مناقشات عامة وتفصيلية عادية وطبيعية لمضامينه طيلة الثلاثة عشر (13) اجتماعا للجنة، والتي افتتحت بتاريخ 06/07/ 2017 وانتهت بمناقشة تفصيلية متم يوم 02/07/2019. غير أن المرء ليأسف، بعد هذا المسار الطبيعي لتعديل القانون الجنائي رغم تباطؤ وتيرته، وهو يرقب مقدار التشويش والكمّ الهائل من المعطيات المغشوشة التي ما فتئ البعض يروّجها لتغليط الرأي العام والاندراج به في متاهة نقاش إيديولوجي عام، ممكن أن يكون مهما، لكن المؤكد أنه لا علاقة به بهذا المشروع. وأغرب ما في الأمر، أن تنخرط جهات ومؤسسات في مسلسل التزييف هذا، في اللحظة التي كان المطلوب تظافر جهود الجميع من أجل أن ينتهي مآل هذا القانون، كما باقي القوانين، للنشر في الجريدة الرسمية، حتى نستطيع أن نتقدم في المراكمة عليه من خلال التصدي لمشروع قانون المسطرة الجنائية الذي ليس ممكنا تعديله إلا بعد أن يتم تعديل قانون الموضوع الجنائي، وأن أي ارتباك يشهده تعديل القانون الجنائي من شأنه أن ينعكس إرباكا على غيره من المشاريع الأخرى. 1. مشروع قانون رقم 10.16: قصة نص تشريعي تناوبه ثلاثة وزراء يشكل القانون الجنائي أحد أهم النصوص القانونية التي تسترعي اهتمام وتتبع عموم المواطنات والمواطنين، وذلك بالنظر إلى كونه يُعتبر ركناً أساسياً لكل سياسة جنائي فهو ووسيلتها الرئيسة في التجريم وأداتها الحاسمة في العقاب، وهي وسائل وأدوات قد تمس في الكثير من مقتضياتها أهم ما يحوزه الإنسان، حياته أو حريته. لذلك، حدا الجميع أمل كبير، خاصة بعد انتهاء الحوار الوطني لإصلاح العدالة، في أن تتكاثف الإرادات اللازمة وتتوافر الظروف المناسبة لتعديل قانون من قيمة القانون الجنائي تعديلا عاما ومعالجة شاملة. خاصة وأن الحاجة إلى هذا التعديل الكلي والشامل يرجع سببه إلى تقادم العديد من مضامين هذا النص الذي يعود تاريخ وضعه إلى سنة 62 من القرن الماضي. هذا النصف قرن من الممارسة الجنائية كشف عن العديد من أوجه القصور وجوانب الاختلال التي اعترت إمكانية مجاراة التشريع الجنائي الوطني لتحولات المجتمع وحاجات الدولة ومتطلبات المواطن. لا سيما وأن التعديلات التي عرفها هذا القانون ظلّت في أغلبها تعديلات جزئية وظرفية، مما جعلها تعرف تفاوتات كبيرة بين سياقاتها ومضامينها وتوجهاتها. الأمر الذي أفقد هذا النص كثيرا من عناصر انتظامه التصوري والتشريعي، وانعكس اضطرابا على السياسة الجنائية الوطنية، كاشفا عوار بعض جوانبها وضعف الكثير من مقتضياتها في معالجة مستجدات الحياة اليومية بما تفرزه من جرائم جديدة لم يكن للمشرع الجنائي سابق عهد بها، فظلت نصوص مجموعة القانون الجنائي على جمودها نصوصا متناهية في عددها ومضامينها، في حين ظلت الحوادث الجنائية والمستجدات الجرمية على طبيعتها اللامتناهية. ولهذا الاعتبار الأساسي، جاءت المحاولة الأولى لإجراء تعديل متكامل لمجموعة القانون الجنائي حين أعلنت وزارة العدل والحريات بتاريخ 31 مارس 2015 إنهاء صياغة مشروع قانون جنائي جديد يشتمل على 598 مادة. غير أن قرب الولاية التشريعية التاسعة، آنذاك، على الانقضاء دفع في اتجاه اختيار تشريعي آخر، يتم من خلاله انتقاء أهم التعديلات التي لا يبدو أنها تثير اختلافا فكريا ونقاشا سياسيا بين مختلف الفرقاء السياسيين. فتمت المبادرة إلى تقديم مشروع قانون 10.16، وهو في عمومه مشروع قانون لم يتضمن سوى أربعة مواد مست بالتغيير والتتميم والنسخ 84 مادة من مجموع فصول القانون الجنائي ال 612. وبخلاف الطابع “اللاخلافي” لهذا المشروع، إلا أن مساره التشريعي عرف تقاعسا كبيرا، فهو مشروع عُرض مرتين، أولاهما لحظة تولي ذ. المصطفى الرميد مسؤولية قطاع العدل والحريات، إذ تم تقديم المشروع أمام لجنة العدل والحريات بمجلس النواب في 28/06/2016، لتنهي اللجنة دراستها مواد المشروع في 14/07/2016، غير أنه مع كل الأسف لم يتم تتويج هذا المجهود التشريعي بالتصويت على مشروع القانون. وترشيدا للزمن التشريعي، اختارت الحكومة الحالية عدم سحب مشروع هذا القانون ضمن عدد من مشاريع القوانين الأخرى (38 نص) التي لم تسحبها. ليعود مجددا وزير العدل، حينها، ذ. محمد أوجار لتقديم مشروع هذا القانون في 06/07/2017، ليتلوها فيما بعد انعقاد متواتر لاجتماعات لجنة العدل والتشريع بمجلس النواب طيلة سنوات 2017 و2018 و2019، إذ بلغ عدد اجتماعاتها لمناقشة مشروع هذا القانون 13 اجتماعا، انتهت بآخر اجتماع في 02/07/2019. غير أن معطيات التعديل الحكومي انتهت بإعفاء ذ. محمد أوجار وتحميل مسؤولية القطاع لوزير آخر لم يكن سوى ذ. محمد بنعبد القادر، إلا أن اللجنة في تلك اللحظة كانت قد أنهت المناقشة التفصيلية لكل مواد هذا المشروع وحدّد مكتبها تاريخا لإيداع التعديلات. غرض المقالة من وراء هذا السرد ليس هو الاستغراق في تقديم مقالة تقريرية عن مسار هذا القانون بمجلس النواب، ولكن الهدف الأساس هو تبيان مقدار الجهد الذي بُذل وحجم الزمن الذي صُرف من أجل إخراج هذا النص للوجود، بما يجعل أي تراجع عن هذا المسار إهدارا حقيقيا لجهد وزمن بدون مبرر معقول. 1. مشروع قانون رقم 10.16: بين ضرورات الحاجة .. ومتاهات الأدلجة واقع الأمر أن مشروع القانون الذي بين أيدينا هو مشروع عادي بمضامين غير مختلف حولها، ولعل ذلك راجع إلى منهجية إعداده، حيث توجهت إرادة الحكومة آنذاك إلى انتقاء مقتضيات محدّدة ومستعجلة من ضمن المقتضيات التي جاء بها مشروع التعديل الشامل للقانون الجنائي، والذي سهرت وزارة العدل والحريات على إعداده لسنوات من الزمن. كما تعود طبيعته العادية، أو قل غير الخلافية، لكون أغلب مضامينه جاءت تفاعلا مع سياقات متفق عليها واستجابة لحاجيات أساسية متوافق بشأنه، علّ أهمها: أ) الملائمة الدستورية للتشريع الجنائي، خاصة وأن الدستور الجديد قد تبنى العديد من المبادئ والتوجهات التي تخصّ مجال العدالة الجنائية من قبيل حظر ومكافحة كل أشكال التمييز أو حماية السلامة الجسدية للمواطنين أو منع ممارسة التعذيب أو دعم النزاهة والشفافية بتجريم تضارب المصالح واستغلال التسريبات المخلة بالتنافس النزيه أو الانحرافات الماسة بالمال العام؛ ب) أو المواءمة مع الاتفاقيات الدولية التي صادق عليها المغرب والمرتبطة بمجالات حقوق الإنسان ومناهضة التعذيب والاختفاء القسري ومكافحة الجريمة المنظمة العابرة للدول ومنع الاتجار بالأشخاص وتهريب المهاجرين واتفاقيات أخرى تهم محاربة الفساد.. إلخ؛ ج) وأخيرا، إعمالا لتوصيات هيئة الإنصاف والمصالحة وتفعيلا لخلاصات الميثاق الوطني حول إصلاح منظومة العدالة. لذلك كله، جاءت مقتضيات هذا المشروع استجابة لحاجات ملحة من أجل تعديل القانون الجنائي، خاصة من خلال: * إدراج جرائم مستحدثة ضمن التشريع الجنائي الوطني استجابةً لاتفاقيات دولية أو تصدّياً لجرائم جديدة لم يكن القانون الجنائي الحالي ينص على عقوبات لها. ومن ذلك: تجريم الاختفاء القسري، وتجريم تهريب المهاجرين، وتجريم استفادة الغير بسوء نية من الجرائم المالية المتعلقة بالاختلاس والغدر والرشوة واستغلال النفوذ، وتجريم الإثراء غير المشروع، وتجريم رفض السماح لممثلي السلطة العامة بدخول المساكن أو تفتيشها طبقا للقانون، وتجريم منع أو عرقلة إجراء الامتحانات أو المباريات التي تنظمها المؤسسات التعليمية أو الإدارات، وإدراج جرائم الإبادة والجرائم ضد الإنسانية وجرائم الحرب؛ * مراجعة تعريف وأركان بعض الجرائم بما يتناسب مع التعاريف المصادق عليها دوليا أو بما تقتضيه الضرورات الواقعية، ويمكن ذكر بعضها على سبيل المثال لا الحصر: 1) مراجعة تعريف جريمتي التعذيب والتمييز بما يتساوق مع التعاريف المعتمد في الاتفاقيات الأممية المصادق عليها، خاصة اتفاقية الأممالمتحدة لمناهضة التعذيب وغيره من ضروب المعاملة القاسية واللا-إنسانية لسنة 1984، واتفاقية القضاء على جميع أشكال التمييز العنصري؛ 2) إعادة تنظيم جرائم الاختلاس والغدر والرشوة واستغلال النفوذ؛ 3) مراجعة مفاهيم العصابات الإجرامية وتمييزها عن المنظمة الإجرامية مع معاودة تعريف الأسلحة بما يواكب خطورة هذه الظاهرة التي باتت تستدعي مزيدا من الحزم والصرامة في معالجتها؛ 4) إعادة تنظيم جرائم الإجهاض بتوسيع حالات الإعفاء من العقاب لتشمل حالات الاغتصاب وزنا المحارم والتشوه الخلقي للأجنة وحمل المختلة عقليا، مع تحديد الشروط الواجب الالتزام بها لإجراء الإجهاض في هذه الحالات سواء ما تعلق بمدة الحمل أو بالإجراءات الأخرى الواجب اتخاذها. * تجديد تصور القانون الجنائي للعقوبة، لا سيما من خلال تسكين “بدائل العقوبات” (العقوبات البديلة) ضمن النسق الجزائي الوطني، أو بإضافة العديد من التقنيات الجزائية كالتوقيف الجزئي للعقوبات أو إعادة النظر في العقوبات المقررة للمحاولة أو التنصيص على المسؤولية الجنائية للشخص الاعتباري. وبخلاف موضوع الإجهاض الذي كان موضوع حوار وطني شاركت فيه العديد من القطاعات الحكومية والمؤسسات الوطنية والفرقاء السياسيين والمدنيين برعاية أعلى سلطة في البلاد. وهو الحوار الذي انتهى إلى إصدار بلاغ القصر الملكي يدعو إلى إعادة تنظيم جريمة الإجهاض وتوسيع حالات الإعفاء؛ ومن خلال هذا الاستعراض، يتضح بشكل جليّ أن نص المشروع القانون الجنائي لا يتضمن قضايا خلافية بالشكل الذي حاول البعض أن يوهم الرأي العام به، خاصة الادعاء بأن هذا المشروع يٌجرم الحريات الفردية ويضيّق عليها. ويبدو أن هناك جهات عديدة قد ساهمت في هذا التشويش بما فيها المجلس الوطني لحقوق الإنسان الذي انخرط في هذا المسار التزييفي بإصدار مذكرة ثانية تهم القانون الجنائي، وذلك دون طلب من أي جهة حكومية أو برلمانية، وبشكل مخالف للقانون رقم 76.15 المتعلق بإعادة تنظيمه حيث لم تعرض هذه المذكرة على أنظار أعضاء الجمعية العمومية، ودون هذا الموضوع كلام كثير. ومع كل الأسف، لا زالت هناك جهات محسوبة على النخبة المثقفة أو الحزبية أو الإعلامية تعزف على نفس الوتر، بالإصرار على تغليف الحقيقة بالزيف تلبيساً على الرأي العام وتدليساً على المواطنين بادعاء أن المشكل وراء عرقلة هذا المشروع هو ارتباطه بمشكل الحريات الفردية كمحاولة متعسفة لأدلجة النقاش سبيلا للحيد على النقاش الحقيقي الذي يرتبطه به هذا المشروع، وهي حقيقة تضمنه لمقتضيات من شأنها أن تعزّز من تدابير محاربة الفساد ومكافحة بعض مظاهره التي تضر بصورة مؤسسات الدولة وبسمعة الفاعل العمومي، وتهز ثقة المواطنين بهما. 1. جوهرة عقد قانون 10.16: تجريم الإثراء غير المشروع قرابة أربع سنوات، لا زال خلالهن مشروع القانون الجنائي يراوح مكانه دون أن يستطيع تجاوز مرحلته القراءة الأولى بمجلس النواب قبل أن تتم إحالته على مجلس المستشارين. مع العلم بأن النظام الداخلي لمجلس النواب قد سعى إلى عقلنة أداء لجانه الدائمة بترشيد زمن عملها التشريعي، حيث حددت المادة 183 من هذا النظام أجل نظر اللجان في النصوص المعروضة عليها في ستين (60) يوما، مع إمكانية فتح آجل إضافي للنقاش حُدد في ثلاثين يوما أخرى دون أن يجاوزها. غير أن حظ هذا النص كان سيئا، فالبرغم من أن مسطرة مناقشته كانت طويلة نسبيا، ربما بسبب الأجندة التشريعية عند بداية الولاية التشريعية العاشرة، زاد من طولها التناوب على تقديم طلبات إرجاء أجل إيداع التعديلات: ابتداءً من 29 شتنبر، مرورا ب 29 نونبر، ف 13 دجنبر، ثم 27 دجنبر من سنة 2019، وأخيرا 10 يناير 2020 حيث تم الإيداع الفعلي لمقترحات تعديلات الفرق. وللتغطية على توالي التعديلات، زُجّ بهذا المشروع في متاهة نقاش إيديولوجي لا شأن له به، فادُعي ظلما وزروا لزوم إثارة نقاش عمومي لتحرير الكلام في طبيعة تعاطي التشريع الجنائي مع مسألة الحريات الفردية. وهو إن كان نقاشا مقبولا في المجرد، إلا أن الذي لا يُقبل هو حالة العرقلة التي ما فتئ يتعرض لها هذا المشروع، بعد كل هذه الجهود التي بُذلت والأوقات التي صُرفت من أجل إخراجه لحيز الوجود. غير أنه شيئا فشيئا، ومع قرب آجال الإيداع الأخير وبعد استنفاذ إمكانية تأجيل ميعاد إيداع مقترحات التعديلات، بدأ يتبدى للعيان السبب الحقيقي وراء حالة “البلوكاج” الذي شهدها هذا القانون، وهو السبب المتعلق بتضمنه مادة خاصة بتجريم الإثراء غير المشروع كمقتضى يعضد آلية التصريح بالممتلكات والتي ظلت آلية شكلية فارغة من أي مضمون ومفتقرة لأي جزاء عقابي عند تورط المعنيين بالتصريح في مراكمة ثروات بطريقة غير مبررة تخالف ما سبق لهم التصريح به، مما يجعل ثرواتهم مشوبة بشبهة الإثراء غير المشروع. وواقع الحال أن إدراج هذه المادة يأتي في إطار إعمال اتفاقية الأممالمتحدة لمكافحة الفساد الموقعة بنيويورك متم 31 أكتوبر 2003، إذ نصت مادتها الخامسة على أن: “تقوم كل دولة طرف، وفقا للمبادئ الأساسية لنظامها القانوني، بوضع وتنفيذ أو ترسيخ سياسات فعالة منسقة لمكافحة الفساد تعزّز مشاركة المجتمع، وتجسد مبادئ سيادة القانون وحسن إدارة الشؤون والممتلكات العمومية، والنزاهة والشفافية والمسائلة……إلخ”. وهو ما عضدته المادة 20 من ذات الاتفاقية من خلال النص اسما على الإثراء غير المشروع، إذ تُوجب هذه الاتفاقية على كل دولة طرف: “النظر، رهنا بدستورها والمبادئ الأساسية لنظامها القانوني، في اعتماد ما قد يلزم من تدابير تشريعية، وتدابير أخرى لتجريم تعمد موظف عمومي إثراء غير مشروع ، أي زيادة في موجداته زيادة كبيرة لا يستطيع تعليلها بصورة معقولة قياسا إلى دخله المشروع “. كما أن المادة 4 من الاتفاقية العربية لمكافحة الفساد الذي وقعت عليها المملكة المغربي بتاريخ 12/12/2010، تنص على ما يلي: “مع مراعاة أن وصف أفعال الفساد المجرمة وفقا لهذه الاتفاقية يخضع لقانون الدولة الطرف، تعتمد كل دولة وفقا لنظامها القانوني ما قد يلزم من تدابير تشريعية و تدابير أخرى لتجريم الأفعال التالية:…….7- الإثراء غير المشروع …إلخ” . وعملا من المشرع الدستوري على تنزيل هذه المقتضيات نص الدستور المغربي على أن القانون يعاقب على الشطط في استغلال مواقع النفوذ والامتياز ووضعيات الاحتكار والهيمنة وباقي المسارات المخالفة لمبادئ المنافسة الحرة والمشروعة في العلاقات الاقتصادية. كما نص على ضرورة اعتماد مبادئ الحكامة الجيدة ودعا إلى إحداث مجموعة من المجالس والآليات لمحاربة الفساد والتي من بينها: المجلس الأعلى للحسابات، والهيئة الوطنية للنزاهة والوقاية من الرشوة ومحاربتها، ولجنة الطلبيات العمومية… وغيرها من المؤسسات والأجهزة الوزارية، فضلا عن المهام الموكولة إلى السلطة القضائية ومؤسسة النيابة العامة. غير أن وجه الاستغراب سرعان ما ينقدح في ذهن المرء وهو يرقب كل هؤلاء الذين ما فتئوا يملؤون الدنيا ملء فاههم للدعوة إلى ضرورة احترام الاتفاقيات الأممية، منصّبين أنفسهم للضغط من أجل تسكين الأوفاق الدولية مقاما سامقا ضمن هرم التشريعي الوطني، لأنها في عرفهم حاكمة ومهيمنة على باقي نصوص النظام القانوني الداخلي، في حين تجدهم سرعان ما يتوارون إلى الخلف حين يتعلّق الأمر باتفاقيات دولية أخرى، شأننا هنا شأن اتفاقية مكافحة الفساد، وكأن أمر دفاعهم على الاتفاقيات الدولية مقصور على الاتفاقيات الأممية ذات الطبيعة الإيديولوجية أو تلك التي لا تتعلق إلا بالحقوق الفردية والحريات الشخصية وحقوق الأقليات وقضايا المرأة والأسرة والقيم، في حين تخبو عنايتهم تلك بباقي الاتفاقيات الدولية، رغم أنها من جنس المواثيق والاتفاقيات الدولية المتعلقة بحقوق الإنسان وحقوق المرأة. بل الأدهى والأمرّ، أن البعض يجتهد وسعه لكي يتحوّل بمقتضى تجريم الإثراء غير المشروع إلى واقع مقتضى يرفع التجريم عن الإثراء غير المشروع، لا يهمّه بعد ذلك معدلات الفساد التي تنخر الوطن وتضر باقتصاده وتهدر عليه فرصا تنموية حقيقية، كما لا يعتريه أي إشكال اتجاه تضاؤل منسوب ثقة المواطنين في المؤسسات وفي الوطن. واليوم، لا يبدو أن هناك من سبيل لمواجهة هذا الكم من السلبية والمزاج السيء الذي يتسللان إلى وجدان ووعي شرائح واسعة من المجتمع، أو لاسترجاع الثقة المفترضة للمواطن في مؤسسات الوطن وهيئاته، إلا بالاستمرار على درب النضال من أجل استكمال مسار الإصلاح المأمول، والذي لن يتأتى لنا تحقيق جزء من أهدافه إلا بمكافحة الفساد ومحاصرة أسبابه المركَّبة، والحيلولة دون إمكانية استغلال الوظيفة العمومية أو المنصب القضائي أو النفوذ السياسي سبيلا لمراكمة الثروات وتحصيل المكاسب بطريقة غير مشروعة وغير منصفة.
جاري النشر… شكرا على التعليق, سيتم النشر بعد المراجعة خطأ في إرسال التعليق المرجو إعادة المحاولة