يتميز الإنسان على باقي الكائنات الأخرى بكونه كائن ثقافي واجتماعي بطبعه، فهو في حاجة ماسة إلى فعل التبادل كآلية للتعامل ونسج علاقات مع الآخرين لأجل تحقيق الاستمرارية، وهذا ما يجعله يلجأ إلى فعل التبادل باعتباره وسيلة للتواصل وفهم الآخر المختلف ، لهذا إذن فالإنسان في حاجة إلى التبادل، والمتأمل في تاريخ البشرية سيجد أن الإنسان عمد إلى فعل التبادل من الطابع التقليدي البدائي وصولا إلى الطابع السريع المعاصر . و قد عرف المجتمع المغربي تحولات عميقة في بنياته التقليدية والتي مست ثقافة الإنسان المغربي ، فلم يعد المجتمع المغربي” لحمة” متماسكة ، والشاهد على ذلك أن كل شيء لم يعد جماعيا وإنما أصبح هناك نزوع نحو الفردانية، فلم يعد التضامن الجمعي والجماعي كما كان بالأمس، الشيء الذي جعل الانسان يتطور ويبدع بحثا عن وسائل جديدة لتطوير حياته ومعاشه عبر مر التاريخ ، والتبادل بهذا المعنى هو مبدأ يتم فيه إعطاء شيء مقابل شيء آخر وقد يكون مكافئا أو غير مكافئ له، فهو أخد وعطاء في نفس الوقت ، ولهذا فمهماتنا نحن كباحثين يجب أن نبحث في الأشياء اللامرئية، أي القيام بالحفر في جذور التاريخ والمجتمعات وفهم التحولات والديناميات التي مست الإنسان وآثرت بشكل أو بآخر في سلوكه وتصرفاته وعلاقاته، وهذا ما يطرح العديد من التساؤلات حول مفهوم التبادل في العلاقات الاقتصادية سواء في المجتمعات القديمة أو في المجتمعات الحديثة : فما المقصود بالتبادل خاصة في المجال الاقتصادي والسياسي ؟ هل لازال التبادل يحافظ على بقائه وخصائصه كما كان في الماضي؟ وكيف يشكل فعل التبادل فارقا بين المجتمعات التقليدية والحديثة؟ ماذا عن فعل التبادل في هذا الراهن في ظل هذا الإنفجار المعلوماتي؟ وكيف أصبح مفهوم التبادل موضوعا ومفهوما مركزيا في حقل العلوم الاجتماعية خاصة الأنثروبولوجيا الاقتصادية وعلم الاجتماع ؟ إن التبادل باعتباره خاصية إنسانية لا يتأسس على العاطفة أو الشفقة أو الرحمة، بل يتأسس على مبدأ العطاء والأخذ مادام الإنسان اجتماعي بطبعه، فهو يحتاج إلى ربط ونسج علاقات مع الآخرين وتبادل الخيرات، من أجل ضمان حاجياته وضمان استمراريته في الحياة ، ولهذا فالإنسان حين يقدم خدمة للآخرين فإنه ينتظر منه خدمة مثلها أو أحسن منها وفي هذا الصداد نستحضر مقولة “أدام سميت ” الذي يقول ،”أعطيني ما أحتاجه منك وسأعطيك أنت ما تحتاجه مني “، وهكذا فالإنسان يرغب ويطمع فيما يمتلكه الآخرون من حوله، وبالتالي يتم الحصول على الخدمات النافعة والضرورية بين الناس من خلال فعل التبادل على كافة مستوياته وأبعاده . و التبادل هو تداول السلع أو الخدمات (أو الاثنين معاً) في السوق أو المنطقة الجغرافية المعينة أو التنازل عن المنافع التبادلية للحصول على منافع استعمالية بصفة مباشرة لكن أنواع التبادل مختلفة ومتعددة. وتجدر الإشارة هنا إلى أن التبادل لا يقتصر على ما هو اقتصادي بل هناك أنماط أخرى للتبادل والمتمثلة في الروابط الاجتماعية، فالمجتمع المغربي باعتباره مجتمع يمتزج فيه ويتداخل التقليدي والحديث، نجد فيه وجودا وبشكل كبير تجذر لروابط وأواصر القرابة والتضامن عن طريق الأخذ والعطاء ، ولمعرفة سيرورة وكرونولوجية التبادل في تاريخ المجتمع المغربي، لابد من الحديث عن أشكاله من أجل معرفة تجذر فعل التبادل في البنيات المغربية، ومعرفة كيف كان التبادل خاصة في المجالات القروية أو الريفية وكيف أصبح في هذا الراهن، على اعتبار أن المجتمع المغربي عرف ويعرف أشكال وأنماط من التبادل منها ما هو محافظ على ثباته وحضوره، ومنها ما عرف تغير وتبدل في أشكاله وصيغه. وهذا النوع من التبادل هو ما يصطلح عليه بالتبادل الثقافي بالإنجليزية : Transculturation) )هو مصطلح صاغه عالم الأنثروبولوجيا الكوبي فرناندو أورتيز في عام 1947 لوصف ظاهرة اندماج وتقارب الثقافات، ويشمل التبادل الثقافي أكثر من مجرد الانتقال من ثقافة إلى أخرى؛ فهو لا يتكون فقط من اكتساب ثقافة أخرى، وهذا ما يعرف بالتنوع الثقافي لكنه بدلا من ذلك، فإنه يقوم بدمج هذه المفاهيم ويحمل بالإضافة إلى ذلك فكرة ما يترتب على ذلك من خلق الظواهر الثقافية الجديدة، وأشار أورتيز أيضا إلى الأثر المدمر للاستعمار الإسباني على الشعوب الأصلية في كوبا باعتباره “تبادل ثقافي فاشل”. ويمكن أن يكون الانتقال الثقافي في الغالب نتيجة للغزو والاستعمار، ولا سيما في حقبة ما بعد الاستعمار، حيث يكافح السكان الأصليون لاستعادة إحساسهم بالهوية. ومن اللافت للنظر أنه عندما نتحدث عن أشكال التبادل يتبادر إلى الذهن أن أول أشكال التبادل هي المقايضة لأنها أسبق أشكاله تاريخيا، في الأول كانت المجتمعات القروية أو ما تسمى بالبدائية لا تعرف البيع في الأسوق، ولازالت المقايضة حتى يومنا هذا لكن بنسبة قليلة اليوم، والمقايضة هي مبادلة المرء غيره بما يفيض عن حاجته بما هو في حاجة إليه، فمثلا في عالمنا القروي المغربي كانت تتم المقايضة ب (أن من يتوفر على إكتفاء ذاتي وأن له كمية كبيرة من الشعير ولم يكن لديه قمح فهنا تتم مبادلة القمح بالشعير من الأخرين، وهي عادة معروفة في مجتمعاتنا القروية وغيرها من القرى الأخرى أو كما العادة يتم تقديم ذلك الفائض كمساعدة للآخرين المحتاجين لذلك وبدون مقابل وهذا ما يسمى بأن المجتمع القروي القديم هو لحمة متماسكة ومتضامنة فيما بينهم. وفي مستوى آخر ظهرت بعد ذلك الهدايا ، وغالبا ترتبط بالمواسم فالهدية تعتبر بنظر المهدي والمهدى إليه دينا واجب الوفاء به، ولم تقتصر على الجوانب المادية فقط، بل تمتد آثارها إلى الروابط والصلات الاجتماعية، وهذا ما أشار إليه مارسيل موس في دراسته لنظام البوتلاتش عن بعض قبائل الهنود الحمر ، ولاحظ أن النظام الاجتماعي يرتكز في أساسه على أن يقوم الشخص من ذوي المكانة بتوزيع نوع من الأغطية الصوفية على الضيوف، وهكذا حتى في مجتمعنا المغربي بأن من له مكانة ويتوفر على رأسمال اقتصادي فهو يقوم بإعطاء مكان خاص مجهز بكل الأغطية والأفرشة للأخرين في إطار المساعدة، وتتم هذه العملية خاصة في المناسبات والأفراح أو في حفل جماعي وهناك هبات أخرى تعطى ويتم إرجاعها . فالهدية والعطية والهبة في المجال القروي تحديدا، لم تندثر فقد دخلت عليها تعديلات خاصة على مستوى الممارسات والسلوكات، لذلك نجدها أصبحت تعطى بأشكال أخرى، فمثلا في القديم عند ما يزداد مولود ما في أسرة معينة يتم تقديم ملابس تقليدية تركت لهم من طرف الأجداد كوصية لإعطائها لأهل المولود . ولا يتم إرجاعها فهي من العادات ا لثقافية في المجتمع القروي، علاوة على ذلك نجد الصداقة مثلا كفعل تضامني إحساني بين أفراد المجتمع ، يتم إعطاء قطعة أرضية للمساكين والمحتاجين إليها فهي عملية من عملية الصدقة أو ترك أرض معينة لبناء (مسجد، دار للقرآن ، مدرسة . دور الأطفال اليتامى ) كصدقة أيضا من طرف شخص ترك وصية، لكن اليوم لم يعد مثل هاته الأشياء في مجتمعنا . بل أصبحت النقود كبديل عن الأشكال التقليدية التضامنية للتبادل . بعد ذلك ظهرت النقود وتؤدي وظائف محددة فقط في المجتمعات الغربية، لأنها تمثل معيارا واحد للقيمة بالنسبة لكل أنواع السلع ، لكن انعدام النقود في المجتمعات البدائية لا يعني أنه ليس هناك بديل لها ففي كثير من جماعات الهنود الحمر في كاليفورنيا نجد العقود الصدفية تمثل قيمة محددة أو مقننة نسبيا ويمكن تخزين هذه العقود بوصفها ثروة متراكمة وتم استخدمها في شراء بعض أنواع السلع الأخرى . إن النقود وسعت نظام التبادل حيث لم يعد حكرا على الأفراد والأسر العشائرية ، بل امتد حتى شمل المجتمعات المحلية .أي أن النقود اصبح لها دور فعال في المجتمع الرأسمالي وان الهدف من ذاك في العالم الرأسمالي هو الربح ، والاستشمار وليس الاكتفاء الذاتي ، وان النقود اصبحت تتبادل من دولة إلى دولة أخر أو من مجال إلى مجال آخر . للحديث عن المجتمعات البدائية وعلاقتها بالتبادل ، فلا يمكن أن نجد مجتمع خال من التبادل، لكن القيمة التبادلية التي كانت عن طريق المقايضة وتبادل الهدايا لم تعد اليوم نظرا لظهور النقد، وأن المجتمعات البدائية ببنياتها وبساطتها كانت تعتمد على الصيد، وهذا ما يجعل النظم الاقتصادية تختلف وأن هاته المجتمعات لا تعرف التخصص في الإنتاج لأن التبادل يلزمه تخصص في الإنتاج وتقسيم العمل . ومع المجتمعات الحديثة الأمر مختلف كذلك، حيث أصبح الربح والكسب الشخصي في هاته العملية ، وأصبحت التجارة عملية اقتصادية . علاوة على ذلك ظهور السوق وظهور عملية التسويق للمنتوجات وأيضا ظهور الشركات المتعددة الجنسية ، الاستثمار في العولمة وسيطرة الدولار ، وظهور الاحتكار والاستلاب ، ولهدا فالتبادل يرتبط بوجود التجارة وبتقسيم العمل ،والتخصص في الإنتاج وقد كان النمط السائد للتبادل في المجتمعات القديمة هو التبادل المتكافئ حيث يتم تبادل سلعة بسلعة أخرى تساويها في القيمة . خلاصة القول ، إن الحديث عن موضوع التبادل و أشكاله من المناسب التعرف على توضيح مصطلحات هامة مثل الاقتصاد الطبيعي السلعي ، ففي الاقتصاد الطبيعي اللاتبادلي يتم توزيع واستهلاك المنتجات من قبل المنتجين مباشرة دون أن تخضع للتبادل، وقد كان الاقتصاد الطبيعي هو الطابع الغالب في المجتمعات الاقتصادية القديمة ، وهذه المجتمعات التي كان يسود فيها الاقتصاد الطبيعي ، كانت تعيش في ظروف الاكتفاء الذاتي، أما الاقتصاد السلعي والبضاعة يقصد به الاقتصاد التبادلي ، حيث أن المنتجات في هذا الاقتصاد لا تستهلك في غالب الأحيان من قبل الأفراد الذين يقومون بإنتاجها، وإنما تخضع للتبادل بمنتجات الأخرين ، وعن طريق تبادل المنتجات يتم تبادل إشباع الحاجات المختلفة عوض عن إشباع الحاجات مباشرة ، كما هو الحال في الاقتصاد الطبيعي وكما هو ملاحظ فإن الاقتصاد السلعي الذي يسود في المجتمعات الاقتصادية الحديثة، حيث تخضع معظم المنتجات إلى عملية التبادل في السوق.. ولهذا تراجعت أشكال التبادل اليوم كالمقايضة والهبة واصبحت النقود هي الشيء الأهم اليوم .ما يجعلنا نتسأل هل بالفعل استطعت المجتمعات القروية أن تتخلص من أشكال التبادل القديمة في ظل التغيرات التي حدثت اليوم واصبحت هاته المجتمعات تمتلك روح أشكال التبادل الجديدة في المجتمعات المعاصرة ؟ * طالب باحث بماستر سوسيولوجيا المجالات القروية والتنمية جاري النشر… شكرا على التعليق, سيتم النشر بعد المراجعة خطأ في إرسال التعليق المرجو إعادة المحاولة