وقف توفيق الحكيم، وهو وكيل للنيابة أثناء التحقيق في قضية مقتل مواطن مصري في ثلاثينيات القرن الماضي، محتجزا بين دفات ملف شائك لا يكاد يعرف أول الخيط فيه من آخره.. بالقرب منه جلس الجميع: مأمورا، وكاتب محكمة، وغفرا يتابعون تفاصيل القضية بمن فيهم الشيخ عصفور، وقد أخذ النوم بتلابيب تركيزهم وتفكيرهم.. ثم سأل توفيق الحكيم العمدة عمن يتكفل بالعجوز أم الضحية، فأجابه بأن الأمر يتعلق ببنية صغيرة، ذهب مسرعا ليأتي بها لتحكي ما تعرف من تفاصيل، بناء على طلب وكيل النيابة.. ولم تمض سوى لحظات حتى عاد العمدة بالبنية الصغيرة، فإذا بها قطعة جمال قدت من جمال.. طار النوم من عيون المحقق والمأمور وكاتب المحكمة وأعضاء الضبط ومن عين الشيخ عصفور نفسه.. عبر توفيق الحكيم عن هذه اللقطة التي كشفت الجميع بتعبير جميل قال فيه إن البنت ريم كانت بمثابة ريح جميلة هبت على فيافي عواطف قاحلة مقفرة ! هذا ما يحدث للإنسان عندما يستمع لأغاني نبيلة معن.. رأيتها على شاشات التلفاز قبل سنوات طويل طفلة صغيرة وسمعتها تؤدي بعضا من أغاني موجودة.. وبالنسبة لي وقتها كانت طفلة تؤدي أغاني جميلة ليس إلا.. ثم مضت السنوات، وهرمت وغرقت في تفاصيل الحياة التي تأخذ من نفوسنا كل شيء جميل بسبب متطلباتها الكثيرة، فقطّعت لها ما شاءت من أحاسسينا وأحلامنا وطموحاتنا، وصيرتنا مجرد هياكل من لحم ودم وواجبات.. ورأيت مثلما رأى كثيرون أن الساحة الفنية في المغرب باتت خاوية على عروشها، وسيطرت طقطوقات البانوراما وأغاني المهرجانات واليوتيوبيات عليها، مع ما يتطلبه المشهد من كلام فاقد للمعنى، والكثير من المؤخرات شبه العارية، والمؤثرات الصوتية الميكانيكية، وأسلوب "الزقاق" في نقاش المواضيع العاطفية تحديدا.. طغت الصورة والمشهد المثير جنسيا على مؤسسة الأغنية المكونة من كلمات ولحن وصوت جميل، يحفظ لبلادنا الجميلة هيبتها في دنيا الفن.. بل ابتدعت مخيلة عدد من المغنين وسيلة للاشتهار بطرق غريبة لإثارة الجدل بكلمات ساقطة، أو صور فاضحة، أو حتى بتضمين الفيديوكليب شخصا مثيرا للجدل الشعبي لاختياراته السلوكية أو الأخلاقية.. وبين هذا وذاك لم يعد بإمكاننا اقتراح أسماء مغربية في مجال الغناء تصلح لأن تكون صاحب منهج فني يضمن لك الطرب والترفيه والاستمتاع بالكلمة الجميلة الخفيفة، واللحن المطرب، والصوت الشجي.. غدت الخيارات ضيقة جدا، وجلها يعاني من إعراض سوق المنتجين الذين يفضلون اللهاث وراء عبدة الغرائز.. وانظروا ما يعانيه الفنان نعمان لحلو.. وذات مساء من مساءات ديسمبر الباردة الجميلة في الدوحة، وبينما أستمتع وغيري بزخات المطر الباردة التي تكاد تخرج أنفسنا من الفرحة لدى نزولها بعد طول لهيب، صادفت على يوتيوب صوتا جميلا يؤدي أغنية جميلة.. فقد تعودت وأنا أحرر بعض الأخبار الاستماع إلى الموسيقى، وعادة ما أترك الفرصة لمقترحات يوتيوب على صفحته الرئيسية قبل أن أبحث عما أريد.. وتلك الليلة، رأيت عنوانا جميلا لأغنية تؤديها نبيلة معن، بعنوان "حين قالت".. وجدت أن الأمر يتعلق بشابة ما شاء الله، ولم يعد الأمر يتعلق بتلك الطفلة التي رأيتها قبل سنوات.. وفضلا عن أن المشهد أقنعني مرة أخرى أنني هرمت، فقد لفت انتباهي إلى أن المغنية الشابة لها مسار غنائي ما بعد مرحلة أداء ما صنعه الآخرون.. وما إن بدأت الاستماع للأغنية الأولى، حتى أخذت بتلابيب عقلي، ثم انطلقت نحو الأغنية الثانية فالثالثة.. كلمات خفيفة جميلة، وألحان رائعة، وخامة صوتية أخاذة.. قفزت بي الفنانة نبيلة معن إلى سنوات طويلة مضت، إلى مرحلة ما قبل أن يدق صاحب الإيجار بيتي طالبا لمبلغ الإيجار وغرقي في تفاصيل الحياة.. مرحلة كنت أزعم فيها أنني أكتب الشعر، وأعشق الأدب، وأحفظ المعلقات وغير المعلقات، وألتهم ما تقع عليه يدي من دواوين الشعراء وشروحاتها.. مرحلة كانت لدي فيها وبعض أصدقاء تلك المرحلة طموحات لا حصر لها في مجال الأدب والفن الجميل.. داعبت مخيلتي وأنا أستمع لأغاني نبيلة صور وتفاصيل كلها هدوء وسلام داخلي ورغبة في العيش الهادئ على ضفاف الكتاب والفكرة والقصيدة واللحن.. وحتى عندما عدت لواقعي بعد انتهاء أول أغنية وانخراطي في تفاصيل معارك هناك، ومعاناة لاجئين هنا وهناك، ومقتل هذا وصراعات أولئك، كنت أحس بشعور من السعادة انقدح في داخل نفسي.. الفن الجميل يكون أثره على نفسك جميلا بالضرورة، وأن ينجح في فتح نافذة صغيرة لك بدواخلك على الماضي ولحظاته السعيدة، فهو فن جميل كذلك بالضرورة.. ومثلما ورد في تعبير توفيق الحكيم رحمه الله، فنبيلة معن هي ريح الصبا التي هبت على فيافينا الغنائية القفرة.. شكرا نبيلة على هذه القفزة الزمنية الجميلة.. ويسعدني أن أقول لك، واصلي فقد انضاف عضو جديد لنادي متابعيك ..