إن الخطوة التي أقدمت عليها الحكومة عن طريق تنزيل الفصل 9 بمشروع قانون المالية لسنة 2020 بمبرر ” ضمان استمرارية المرفق العام و تجنب الحجز مقابل تنفيذ قرار فردي على أموال و ممتلكات الدولة و الجماعات الترابية ” هو حق أريد به باطل بل هو جرم يطال قدسية الأحكام القضائية و يحرض على تحقيرها و يسعى إلى ضرب المكتسبات التي تم تحقيقها على درب بناء دولة القانون . لقد كان حريا بالحكومة أن تبحث عن الحلول من خلال معرفة الأسباب التي جعلتها عاجزة عن تنفيذ أحكام قضائية صدرت أغلبها نتيجة أخطاء في التدبير , لأن منطق المسؤولية الإدارية لا يعتمد تبرير أخطاء المرفق العام بقدر ما يبدع في بلورة حلول إستباقية للمشاكل الهيكلية و هي وصفة سبق للمجلس الأعلى للحسابات أن أوصى بها الوكالة القضائية بحتها على عدم التركيز في التدبير فقط على الجانب ألمنازعاتي بل يتعين عليها أيضا إيلاء الأهمية لاستشراف الأزمات و هو ما تفتقده الوكالة المذكورة . لقد نص الفصل التاسع على أنه ” يتعين على الدائنين الحاملين لسندات أو أحكام قضائية تنفيذية نهائية ضد الدولة ألا يطالبوا بالأداء إلا أمام مصالح الآمر بالصرف للإدارة العمومية.و في حالة صدور قرار نهائي اكتسب قوة الشيء المقضي به يدين الدولة بأداء مبلغ معين , يتعين الأمر بصرفه داخل أجل أقصاه 60 يوما ابتداء من تاريخ تبليغ القرار القضائي السالف ذكره في حدود الاعتمادات المالية المفتوحة بالميزانية ” . و تضيف المادة ” يتعين على الآمرين بالصرف إدراج الإعتمادات اللازمة لتنفيذ الأحكام القضائية في حدود الإمكانات المتاحة بميزانياتهم , و إذا أدرجت النفقة في اعتمادات تبين أنها غير كافية , يتم عندئذ تنفيذ الحكم القضائي عبر الأمر بصرف المبلغ المعين في حدود الاعتمادات المتوفرة بالميزانية , على أن يقوم الآمر بالصرف باتخاذ كل التدابير الضرورية لتوفر الاعتمادات المتوفرة بالميزانية , على أن يقوم الآمر بالصرف باتخاذ كل التدابير الضرورية لتوفر الاعتمادات اللازمة لأداء المبلغ المتبقى في ميزانيات السنوات اللاحقة .” كما أضافت المادة المذكورة : ” غير أنه لا يمكن بحال من الأحوال أن تخضع أموال و ممتلكات الدولة للحجز لهذه الغاية ” . فالمقتضيات المذكورة بكل صراحة هي حشو و تشويه يطال مشروع قانون المالية العامة un cavalier budgétaire , أي أنه عبارة عن مقتضيات تشريعية غير مالية محظورة و لا يمكن أن تدرج بمشروع قانون المالية . بل إن زرعه بتلك الطريقة هو استخفاف بذكاء المغاربة بكافة مكوناتهم الاجتماعية و ضرب لمصداقية القضاء و العدالة ككل و هي خطوة إلى الوراء تستهدف تهميش القضاء و منح صلاحياته لأعوان الإدارة . إن الخطوة التي أقدمت عليها الحكومة لا تستحق أن تنعت فقط بكونها مخالفة للدستور أو لقوانين المسطرة المدنية أو للقوانين التنظيمية بل هي مهزلة تقتضي من العقلاء الترفع عنها , لأن أعمال العقلاء منزهة عن العبث كما أن الخوض في البحث عن مشروعيتها يمنحها قيمة لا تستحقها . إنها بكل بساطة محاولة للعودة إلى منطق ” الدولة المحقة ” سبق للحكومة أن مارستها سنة 2015 و لم تنجح في تمريرها , و بالتالي ما هي قيمة الأحكام الصادرة عن المحاكم ؟ أليست أغلب الأحكام القضائية التي تحاول الحكومة مراوغتها عبر التحكم في تنفيذها مرآة لسوء تدبير الإدارة ؟ و هل يعقل أن تبحث الإدارة عن حلول لمشاكلها على حساب المواطن. و لعل السؤال المحوري الواجب طرحه هو : ماذا وفر كل قطاع وزاري من اعتمادات مالية بهدف تسوية هذا المشكل المتراكم والمتزايد والذي من شأنه أن يستفحل إذا لم يفتح بشأنه نقاش شجاع و عميق ؟ بكل بساطة سيتسبب في اختلال الموازين بين السلطات الثلاث ويضرب في العمق مبدأ تعاون السلط المنصوص عليه دستوريا حينما تجد السلطة القضائية تنفيذ أحكامها بيد سلطة أخرى , و و قوانين السلطة التشريعية قد تغير جوهرها و ملامحها بشكل يختلف عما تمت المصادقة عليه و الحكومة فاقدة لآلية تنفيذ سياستها بواسطة قانون المالية ؟ الكرة الآن بيد كل غيور على حماية مؤسسات الدولة من برلمانيين و قضاة و محامين و غيرهم للحيلولة دون نفاذ هذا الحشو و التشويه الذي يتهدد الأمن القضائي ويضرب عرض الحائط مقتضيات الفصل 126 من الدستور التي تنص على أن ” الأحكام النهائية الصادرة عن القضاء ملزمة للجميع . يجب على السلطات العمومية تقديم المساعدة اللازمة أثناء المحاكمة, إذا صدر الأمر إليها بذلك,و يجب عليها المساعدة في تنفيذ الأحكام ” . * محام و باحث في القانون