تحل -بعد أيام- الذكرى العشرين لعيد العرش المجيد، وهي فرصة -أولا-تسمح بالركوب على صهوة التاريخ، ليس من باب النوستالجيا التاريخية أو الحنين للماضي، ولكن من أجل تشريح ما تحمله الذكرى من أبعاد وطنية ودلالات تاريخية عميقة، ويكفي القول، أن الاحتفال بعيد العرش، شكل في زمن الحماية، إحدى الوسائل النضالية للحركة الوطنية الناشئة مطلع الثلاثينيات، لما لذلك من رمزية ودلالات متعددة المستويات، عكست وقتها، رؤية متبصرة وقناعة راسخة في أن النضال ببعديه السياسي والعسكري، لا يمكن أن يحقق الأهداف والمقاصد المرجوة، إلا في ظل الوحدة الوطنية، التي لايمكن تصورها إلا بالالتفاف حول السلطان “بن يوسف”، وصون اللحمة بين العرش والشعب بكل أطيافه وانتماءاته، في ظرفية حرجة، كانت تفرض “التعبئة” و”الوحدة” والبعد عن نعرات التفرقة والتشرذم. ومن ثمار التفاف الشعب بالعرش كرمز للوحدة الوطنية واستمرار الدولة، ما أبداه السلطان “بن يوسف” من دعم للحركة الوطنية في نضالاتها من أجل الاستقلال، وإبدائه لمواقف إيجابية في أكثر من محطة، دفاعا عن وحدة البلاد وسيادتها، ورفضه توقيع الظهائر الماسة بسيادة المغرب، وما عبرت عنه الحركة الوطنية ومن خلالها الشعب المغربي، من رد فعل سريع، بعد مؤامرة نفي السلطان والأسرة الملكية ومحاولة تنصيب سلطان بديل، حيث اندلعت “ثورة الملك والشعب” (20 غشت 1953) التي شكلت مرآة عاكسة لما يربط بين العرش والشعب، من “عروة وثقى” حبلى بقيم الوطنية والتضحية والوفاء ونكران الذات، دفاعا عن وحدة البلد وسيادته، ولم تخمد نيرانها إلا بعودة السلطان الشرعي من المنفى وإعلان بزوغ فجر الحرية والاستقلال .. وهي فرصة -ثانية- تفرض توجيه البوصلة نحو ما عرفه المغرب خلال العقدين الأخيرين، من تحولات عميقة وإصلاحات وأوراش كبرى كان الملك محمد السادس، مهندسها ومحركها الأساسي، وبما أن المقام، لايسمح للمقال باستعراض زخم من المنجزات التي يتقاطع فيها القانوني والحقوقي والمؤسساتي والاقتصادي والسياسي والاجتماعي والتربوي والتضامني، لامناص من الإشارة إلى أبرزها وأقواها وأكثرها تأثيرا في بناء صرح الدولة وتقوية لحمة المؤسسات ، وتحريك عجلة التنمية الاقتصادية والاجتماعية .. -هيئة الإنصاف والمصالحة : إرادة قوية للقطع مع ماضي الانتهاكات. لن يكون المنطلق، إلا عبر إرادة الملك الشاب، في تنزيل “مفهوم جديد للسلطة” شكل رؤية متبصرة في القطع مع “المفهوم القديم للسلطة” وطي ماضي الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان، وهذا التوجه، سوف يتم تنزيله على أرض الواقع، عبر إحداث “هيئة الإنصاف والمصالحة” (7يناير 2004) التي أسندت لها مهمة النظر في ملف ماضي الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان ( من 1956 إلى 1999) عبر إجراء أبحاث وتحريات حول الانتهاكات، وعقد جلسات الاستماع إلى شهادات عدد من الضحايا وأهاليهم وموظفين ومسؤولين في أجهزة الدولة، واستثمار أرشيفات الدولة، وكل المعطيات والإمكانيات المتاحة التي من شأنها الكشف عن حقيقة ما وقع من خروقات وانتهاكات جسيمة لحقوق الإنسان. وجبر الأضرار من خلال التعويض المادي للضحايا، وذوي الحقوق وإعادة التأهيل والإدماج واقتراح مشاريع تنموية للمناطق التي طالها النسيان والتهميش لاعتبارات وخلفيات سياسية. ورغم المؤاخذات التي سجلها البعض عن الهيئة (عدم تحريك الدعاوى القضائية ضد مرتكبي الانتهاكات، العجز عن كشف مصير شخصيات بارزة …)، فقد شكلت منعطفا حاسما في العهد الجديد، لما حملته من إرادة في المكاشفة والإنصاف والمصالحة، في اتجاه القطع مع ما عاشه المغرب في ظل ما اصطلح عليه بسنوات الرصاص، وقد أمكن للهيئة صياغة تقرير ختامي، تضمن خلاصات وتوصيات، شكلت محركا ودفعة قوية لتنزيل جملة من الإصلاحات التشريعية والمؤسساتية، التي تحكمت فيها الرغبة في تعزيز حقوق الإنسان وتجويد صورة البلد على المستوى الحقوقي. -تدعيم مكانة المرأة وحمايتها: على المستوى القانوني، يمكن الإشارة إلى تبني “مدونة الأسرة” كخطوة تشريعية في اتجاه حماية حقوق المرأة والطفل والتأسيس لأسرة مغربية مبنية على قيم التعاون والتشارك والمساواة والإنصاف، ومنح الجنسية للطفل من أم مغربية، وحماية المرأة من كل أشكال العنف، عبر تنزيل “قانون محاربة العنف ضد النساء”، وتدعيم وضعيتها الاجتماعية والمهنية بما يضمن مساواتها مع الرجل، بتعزيز حضورها في المشهد السياسي وعلى مستوى تحمل المسؤوليات الوزارية والديبلوماسية والقضائية والإعلامية والحقوقية، وتمكينها من بعض المهن التي كانت حصرية للرجال، كما هو الحال بالنسبة لخطة العدالة. -منظومة القضاء في صلب الإصلاحات: منذ اعتلائه العرش سنة 1999، حرص العاهل المغربي في عدد من الخطب، على إثارة موضوع الإصلاح الشامل للقضاء، لما له من صلات بإرساء دولة الحق والقانون، ومن تأثيرات مباشرة على حقوق المتقاضين، وقد شكل دستور 2011 محطة بارزة في مسار إصلاح منظومة العدالة، بعدما جعل من القضاء “سلطة مستقلة عن السلطتين التشريعية والتنفيذية”، وهي مكانة بارزة، استلزمت تكريس استقلالية السلطة القضائية، عبر تأسيس المجلس الأعلى للسلطة القضائية واستقلالية مؤسسة النيابة العامة عن وزارة العدل، فضلا عن الانخراط في مسلسل التحديث الإداري والتقني لقطاع العدل، بما يضمن تحقيق السرعة والشفافية والفاعلية والجودة، وهي إصلاحات وغيرها، جاءت استثمارا للعمل الذي باشرته “الهيئة العليا للحوار الوطني حول الإصلاح الشامل والعميق لمنظومة العدالة”، والتي تم تنصيب أعضائها من قبل صاحب الجلالة بتاريخ 8 ماي 2012. -الرهان على تطوير الاقتصاد وجعل المغرب وجهة جذابة للاستثمارات الخارجية: تعززت المكانة الاقتصادية للمغرب خلال العقدين الأخيرين، بتحسين مناخ المال والأعمال، والرهان على بناء المنشآت الاقتصادية واللوجيستية الضخمة، كما هو الحال بالنسبة للمركب المينائي طنجة المتوسط الذي يعد من أكبر المنشآت المينائية في إفريقيا وفي المجال المتوسطي وتوسعة وتأهيل ميناء الدارالبيضاء، والاهتمام بتهيئة المناطق الصناعية واللوجيستية وتقوية الشبكة السككية وتدعيمها بالقطار الفائق السرعة وشبكة الطرق السيارة والوطنية، وبناء وتأهيل محطات القطار والمطارات، والاستثمار في الطاقات المتجددة وتأهيل الرأسمال البشري …، مما شكل بيئة جذابة، سمحت وتسمح باستقطاب رؤوس الأموال الأجنبية خاصة في مجال صناعة السيارات والطائرات، وهو واقع اقتصادي من شأنه تدعيم القدرات الاقتصادية للمغرب وإنعاش سوق الشغل وفتح آفاق واعدة، أمام الشباب خرجي الجامعات ومؤسسات التكوين المهني.. -تأهيل المجالات الحضرية وجعلها رافعة للتنمية المندمجة: ظل هاجس التنمية الحضرية ولايزال حاضر ا في صلب الإصلاحات الملكية، بفتح أوراش كبرى ساهمت في الارتقاء بمستوى عدد من المدن وجعلها رافعة للتنمية، كما هو الحال بالنسبة لمشروع تهيئة ضفتي وادي أبي رقراق بالعاصمة، ومشروع الحسيمة منارة المتوسط، وتهيئة بحيرة “مارتشيكا بالناظور”، وإعادة الاعتبار لعدد من المدن العتيقة في مدن كالرباط وسلا وتطوان وفاس ومكناس والصويرة والدارالبيضاء، وإيلاء عناية خاصة لمدن الصحراء التي سارت أكثر جاذبية، وإطلاق مشروع النموذج التنموي لجهة الصحراء، الذي من شأنه الرفع من وثيرة التنمية بالأقاليم الجنوبية والارتقاء بمستوى أنسجتها الحضرية .. -المبادرة الوطنية للتنمية البشرية : ورش ملكي لمحاربة الفقر والهشاشة وتحسين مستوى عيش الساكنة: انطلقت “المبادرة الوطنية للتنمية البشرية” رسمياً بعد الخطاب الملكي في 18 ماي2005، عاكسة رؤية ملكية متبصرة، تحكم فيها هاجس محاربة كل أشكال الفقر والهشاشة والإقصاء الاجتماعي وسط الفئات الفقيرة والمعوزة، وجعل المواطن في صلب رهان التنمية البشرية، وقد نجحت المبادرة في تحقيق العديد من الإنجازات التنموية، التي كان لها الأثر الواضح في تحسين مستوى عيش الساكنة خاصة في المجالات التي تحضر فيها مفردات الفقر والهشاشة والإقصاء، وحتى يتسنى إعطاء نفس جديد لهذه المبادرة، فقد أعطى الملك محمد السادس إشارة انطلاقة المرحلة الثالثة (2019-2023) وفق رؤى جديدة ترمي إلى “تعزيز مكاسبها وإعادة توجيه برامجها للنهوض بالرأسمال البشري للأجيال الصاعدة، ودعم الفئات في وضعية صعبة، وإطلاق جيل جديد من المبادرات المدرة للدخل و لفرص الشغل، وهي أدوار تنموية، تتعزز بالأدوار والمهام التضامنية التي تضطلع بها “مؤسسة محمد السادس للتضامن”، التي تتدخل بدورها في مجال التنمية البشرية والنهوض والارتقاء بمستوى عيش الساكنة على مستوى السكن والصحة والشغل والتعليم وغيرها.. -عودة مظفرة إلى “الاتحاد الإفريقي” : منذ اعتلائه العرش، جعل الملك محمد السادس “إفريقيا” في صلب سياسته واهتماماته الخارجية، وهي اهتمامات، عكستها العشرات من الزيارات التي قام بها لعدد من البلدان الإفريقية جنوب الصحراء، التي أثمرت توقيع اتفاقيات وشراكات اقتصادية وفق منطق “رابح رابح، مما عبد الطريق أمام المقاولات المغربية لولوج الأسواق الإفريقية الواعدة، وهذا الحضور الملكي الوازن في المشهد الإفريقي، اختزل ويختزل رؤية استراتيجية متبصرة، تؤسس لواقع إفريقي جديد، مبني على قيم التعاون والتشارك والتضامن والتآخي، بشكل يقطع مع مفردات النزاع والتطاحن والصراع والتناحر، الذي لم يكرس إلا الضعف والفقر والهوان والتشرذم، ويجعل من الاقتصاد، مدخلا أساسيا لبناء صرح قارة إفريقية موحدة وآمنة ومستقرة، وفي ظل هذا البعد التضامني مع بلدان إفريقيا، كان من الضروري النظر في وضعية المهاجرين الأفارقة القادمين من إفريقيا جنوب الصحراء، ليتم تبني سياسة للهجرة مبنية على الأنسنة والتضامن، فتحت المجال أمام عدد كبير من المهاجرين الأفارقة الذين كانوا يقيمون في المغرب بطرق غير مشروعة، لتسوية وضعياتهم القانونية فوق التراب المغربي، وإتاحة الفرصة أمامهم للاندماج وتحقيق الذات. وهذا الحضور الملكي الوازن في إفريقيا، شكل مدخلا تمهيديا، قبل الانخراط في صلب الموضوع الأساس، ويتعلق الأمر بالعودة المظفرة إلى الاتحاد الإفريقي (يناير 2017) بعد سنوات من الغياب، وهي عودة ميمونة، أربكت الخصوم وزحزحت التوازنات القائمة، ورسمت معالم واقع إفريقي جديد، استعادت من خلاله الأسرة الإفريقية، أخا وصديقا وفاعلا إفريقيا رئيسيا، قادرا -ليس فقط- أن يسخر كل إمكانياته وقدراته لتنمية إفريقيا، ولكن، في أن يكون صوتا للوحدة والتضامن والسلام، وقنطرة عبور “إفريقيا” نحو أوربا والعالمين العربي والإسلامي.. -استقبال تاريخي لبابا الفاتيكان : موازاة مع الإشعاع الإفريقي، فقد تجسد الإشعاع الدولي للملك محمد السادس، في استقبال بابا "الفاتيكان" بالعاصمة الرباط نهاية شهر مارس 2019، وهي زيارة تاريخية اختزلت الإرادة المشتركة في تعزيز ثقافة "الحوار" بين الأديان وتحديدا بين الإسلام والمسيحية، وتعزيز لحمة القيم الإنسانية المشتركة من محبة وتعاون وتضامن وتساكن وسلام، في عالم زحفت وتزحف عليه، مفردات "العنف" و"التطرف الديني والإرهاب العابر للدول والقارات، تهيمن على رسائله، خطابات "الحرب" و"الدم" و"الخراب" و"الدمار" و"الإقصاء"، وشيوع الثقافة المغذية للحقد والكراهية في إطار صراعات خفية ومعلنة، يتقاطع فيها "هاجس" الدين بعبث السياسة وجشع الاقتصاد الأعمى …زيارة أتت بعد الزيارة التاريخية التي سبق أن قام بها البابا "يوحنا بولس الثاني" للمغرب منذ حوالي 34 سنة (1985)، لاشك أنها ساهمت في تعزيز إشعاع المملكة المغربية، كأرض للحوار واللقاء والتواصل والعيش المشترك بين الديانات الثلاث عبر التاريخ، وهي قيم رسخها التاريخ الممتد، وكرستها الجغرافيا التي جعلت من المغرب على مر العصور، أرضا للتلاقي والعبور، مما أسس لدعامات ثقافة مغربية متعددة الروافد، مفعمة بقيم التسامح والتساكن والاحترام التام للآخر، باختلاف معتقده أو لونه أو عرقه أو لغته … زيارة تاريخية، توجت بإصدار وثيقة تاريخية بشأن مدينة القدس الشريف، أطلق عليها إسم "نداء القدس" وقعت من قبل جلالة الملك محمد السادس، أمير المؤمنين ورئيس لجنة القدس، وقداسة بابا الفاتيكان "فرنسيس"، نداء مشترك تضمن دعوات متعددة المستويات، تقاطعت مضامينها حول المحافظة على مدينة القدس الشريف، باعتبارها مدينة للسلام وتراثا إنسانيا مشتركا وأرضا للقاء ورمزا للتعايش والتساكن بين أتباع الديانات التوحيدية الثلاث، وعكست إرادة لا لبس فيها، في ضرورة تعزيز الطابع المتعدد الديانات والبعد الروحي والهوية المتميزة للقدس الشريف، وكذا الدعوة إلى حرية ممارسة الشعائر الدينية والولوج إلى الأماكن المقدسة بالنسبة لأتباع الديانات الثلاث .. -تبني دستور جديد فتح أفقا لتحديث الدولة وتعزيز الحقوق والحريات .. : يبقى الحدث البارز الذي طبع المسار السياسي المغربي خلال العقدين الأخيرين، هو وضع دستور جديد (2011) جاء في سياق ما اصطلح عليه ب”الربيع العربي” وما أفرزه من تداعيات على الشارع المغربي، واستجابة فورية لما رفع من شعارات مطالبة بالكرامة والحرية ومحاربة الفساد وتحقيق العدالة الاجتماعية …إلخ، وقد شكل الدستور الجديد، منعطفا بارزا في مسلسل استكمال بناء صرح دولة الحق والقانون وتعزيز المؤسسات الديمقراطية وتوطيد الحقوق والحريات، وإرساء مبادئ ومؤسسات الحكامة الجيدة، وتوفير شروط المواطنة الكريمة والعدالة الاجتماعية، لما حمله من مستجدات، منها على سبيل المثال لا الحصر، تعزيز الوضع الاعتباري لرئيس الحكومة كثاني شخصية في هرم السلطة بعد الملك، والارتقاء بالقضاء إلى مستوى “السلطة القضائية المستقلة عن السلطتين التشريعية والتنفيذية” والإقرار برسمية اللغة العربية والاعتراف باللغة الأمازيغية كلغة رسمية باعتبارها رصيدا مشتركا لجميع المغاربة بدون استثناء، ودسترة مؤسسات وهيئات الحقوق والحريات والحكامة، وإحداث المحكمة الدستورية، وتقوية أدوار البرلمان في التصويت على القوانين ومراقبة عمل الحكومة وتقييم السياسات العمومية، وإيلاء المعارضة البرلمانية مكانة متميزة، تتيح لها مجموعة من الحقوق، من قبيل “حرية الرأي والتعبير والاجتماع”، و”الاستفادة من حيز زمني في وسائل الإعلام الرسمية يتناسب مع تمثيليتها” و”رئاسة “اللجنة المكلفة بالتشريع” بمجلس النواب …إلخ. -الدعوة إلى بلورة “مشروع تنموي جديد : رغم زخم الإصلاحات المتعددة المستويات، ورغم المجهودات التي بدلت وتبدل على أكثر من صعيد، في سبيل الرفع من قدرات الاقتصاد الوطني ومواجهة كل أشكال الفقر والهشاشة والارتقاء بمستوى التنمية البشرية، فقد حضر صوت الاحتجاج في عدد من المدن المغربية من قبيل الحسيمة وجرادة وزكورة …، واشتدت شوكة الاحتقان في عدد من القطاعات المهنية وعلى رأسها “التعليم”، كما حضرت مفردات الفقر والهشاشة والإقصاء في عدد من المجالات الحضرية والريفية، بشكل ساءل ويسائل مختلف البرامج التنموية المعتمدة، التي أصبحت متجاوزة ولم تعد قادرة على الاستجابة للحاجيات الاجتماعية المتزايدة في مجال الشغل والسكن والتعليم والبنيات التحتية والمرافق والتجهيزات العمومية، مما جعل الملف الاجتماعي يحضر بشدة في أغلب الخطط الملكية، وفي محاولة لإعطاء نفس جديد للتنمية الاجتماعية والاقتصادية، فقد بادر الملك محمد السادس، إلى الدعوة للانخراط في التفكير في بلورة “مشروع نموذج تنموي جديد” قادرا على تجاوز الأعطاب التنموية وإيجاد الحلول الناجعة للمشاكل الاجتماعية، بشكل يضمن تحقيق التنمية البشرية المأمولة، ويساهم في تحقيق العدالة الجهوية ويقلص من الفوارق والتفاوتات السوسيومجالية في ظل ورش “الجهوية المتقدمة”.. وبخصوص أصوات “الاحتجاج”، فلايمكن نكرانها أو تجاوزها أو التعامل معها بنوع من العبث والاستخفاف، وهذا يستدعي مواكبة وتتبع الأوراش الملكية الكبرى المفتوحة في أكثر من مستوى بما يضمن شروط الشفافية والجودة والفاعلية، والحرص على تخليق الحياة العامة بمحاربة كل ممارسات الفساد والرشوة واستغلال النفوذ، وربط المسؤوليات بالمحاسبة، والسعي المستدام إلى تحسين وتجويد مناخ المال والأعمال، والقرب من السكان والاستماع إليهم، وحسن الاستجابة لتطلعاتهم ومطالبهم، وإيجاد الحلول الناجعة لمشكلاتهم، وتنزيل سياسات عمومية”مواطنة” تستحضر المصلحة العليا للوطن، وتضع “المواطن” في صلب استراتيجياتها، والارتقاء بمستوى الممارسة الحزبية، بما يضمن استرجاع الثقة في السياسة، وييسر سبل انخراط المواطنين في الشأن السياسي، مع الحرص على التعامل الرصين مع الحركات الاحتجاجية بكل مستوياتها، بروح من المسؤولية والمواطنة، وفي إطار احترام القانون، دون المساس بمنظومة الحقوق والحريات، التي تعززت بالوثيقة الدستورية الجديدة … على أمل أن يتم طي الملفات ذات الصلة بالحركات الاحتجاجية بمناسبة الذكرى المجيدة، من أجل رسم الفرحة في قلوب المعتقلين وأسرهم، وبناء جو من الثقة، في وطن لايمكن تصوره إلا “رحيما ” و”متسامحا” مع كل أبنائه … -عيد العرش : دلالات وعبر: عيد العرش إذن، ليس فقط مناسبة للاحتفال واستعراض المنجزات وبسط الخطوط العريضة للسياسة الداخلية والخارجية، بل هو أيضا، مناسبة وطنية لها رمزيتها وقيمتها ومكانتها في قلوب المغاربة، شكلت عبر السنوات، “عروة وثقى” ربطت وتربط بين “العرش” و”الشعب”، تتأسس عليها قوة الوطن ولحمة المواطنة، وتذكي في النفوس، مشاعر المحبة والوفاء وأحاسيس التضحية والسخاء، حبا في الوطن ودفاعا عن قضاياه .. “عروة وثقى لا انفصام لها” .. تجسد منبعا يذوب فيه ما قد يعيش بين ظهرانينا من اختلافات عرقية أو إثنية أو فكرية، تحرك جليد الطائفية والاحتقان في عدد من البلدان .. وبالقدر ما نثمن ما أنجز خلال العقدين الأخيرين، من منجزات وإصلاحات قانونية وحقوقية ومؤسساتية وسياسية واقتصادية واجتماعية، فإن “الذكرى المجيدة” بما تحمله من دلالات وعبر، تفرض طرح الخلافات الهدامة ولفظ الأحاسيس السامة، والتخلي عن لغة الأرقام والحسابات السياسوية الضيقة، والإنصات إلى بعضنا البعض بمحبة وصدق ووفاء، والتفكير الجماعي الرصين، في تقديم الحلول والمبادرات المواطنة، التي من شأنها الإسهام في معالجة ما يواجهنا من مشكلات تنموية متعددة المستويات، وما يتربص بنا من مخاطر وتحديات، في محيط إقليمي ودولي يعيش على وقع الاضطرابات .. عيد عرش سعيد، لابد أن يستوعبنا جميعا، بكل اختلافاتنا وتناقضاتنا، وما قد يعشش في ذواتنا من أحاسيس الحمق والعبث والأنانية المفرطة والانحطاط، لنعيش في وطن يسكننا ونسكن فيه.. “وطن” أوصله الأجداد إلينا بلدا “حرا” سليما معافا، ووضعوه “أمانة” في أعناقنا، ومن واجبات ومسؤوليات المواطنة الحقة، أن نصون الأمانة، بالإخلاص للوطن ووحدته الترابية ولثوابت الأمة، وعدم التراخي في مضايقة العابثين وتعقب الفاسدين وكشف سوءة المنتهكين وفضح الخائنين والمتربصين .. عرش مجيد لامناص من الالتفاف حوله، كما التفت حوله الحركة الوطنية والشعب المغربي زمن الحماية، لأنه بمثابة تلك المظلة التي لا مفر منها، القادرة وحدها دون غيرها، أن تقينا حر “الاختلاف” في بلد “التعدد” و”الاختلاف”، وأن تقوي ‘اللحمة ” وترفع الشأن والهمة، وتفتح أمامنا على الدوام، أفقا رحبة للعيش المشترك، في وطن يسع الجميع، نتطلع سويا، أن يكون حرا، مشرقا، يمشي قدما نحو التقدم والرخاء والازدهار، بعيدا عن عيون العبث وسواعد الفساد .. [email protected].com