في مقالين سابقين عنوانهما “هل المغرب سائر إلى الانفجار؟” و”حل أزمة المغرب بالهروب من الإسلام السياسي والاشتراكية والمخزنية” كنت قد بينتأن المعارضة اليسارية الاشتراكية والمعارضة الإسلامية تحملان مشروعين كارثيين أسوء من الدولة المخزنية. وبينت أن الخلاص الاقتصادي للمغرب ليس مع الدولة وإنما هو مع الخوصصة والقطاع الخاص لأن الدولة فاشلة وكل ما تفعله فاشل جدا أو مكلف جدا. أما الأحزاب السياسية المغربية فهي مستحاثات (بالإنجليزية: fossils) وهياكل فاشلة منتهية الصلاحية. والشيئان اللذان يحميان هذه الأحزاب الفاشلة من التلاشي والاندثار هما: الدعم الريعي الهائل الذي تحصل عليه من المخزن بأموال الشعب المقهور المطحون، و”قانون الأحزاب” الذي صممه المخزن خصيصا لتصعيب ومحاصرة محاولات النشطاء والشباب في تأسيس أحزابشعبوية طازجة جديدة تطيح بالأحزاب الريعية الكرتونية الحالية التي يتخذها المخزن وسادة أو غطاء يحميه من بعض الصدمات. وبينت أنه يجب على المغاربة أن يرفضوا الدولة المخزنية وضرائبها وأن يرفضوا الفكر الدولتي البيروقراطي وأن يرفضوا الاشتراكية وأن يرفضوا الإسلام السياسي لأنها كلها مشاريع استبدادية، وأن يتجهوا إلى بناء مجتمع السوق الحرة والرأسمالية ودولة الحريات الأربع: – الحرية الاقتصادية Tilelli tadamsant – الحرية الفكرية Tilelli tawengimant – الحرية الدينية Tilelli tujjidt – الحرية السياسية Tilelli tasertant من أراد أن يفهم الفكرة بالتفصيل فليقرإ المقالين المذكورين أعلاه بتمهل وهدوء مع شي كويّس ديال اتاي. أما في هذا المقال فأنا أريد فقط أن أشير إلى فشل “النموذج النضالي” أو “المنهج النضالي” الذي يتبعه النشطاء والحراكيون والشعب المغربي عموما ونجاح الدولة و”طورنوفيسها” المخزني المحنك الفتاك في تفكيك كل الحركات الاحتجاجية واحدة تلو الأخرى دون أن تتغير الدولة المخزنية قيد أنملة. فمع هروب العشرات من نشطاء حراك الريف (Amussu Arifan) إلى إسبانيا وطلبهم اللجوء السياسي هناك، ومع اعتقال النظام المغربي العشرات من كبار مناضلي ونشطاء حراك الريف وأهمهم ناصر الزفزافي يكون حراك الريف قد انتهى فعليا وميكانيكيا برحيل رجاله وشبابه إما إلى سجون المخزن أو إلى إسبانيا وأوروبا. وهذا كله مع استكانة كاملة لدى المغاربة وقبولهم بالأمر الواقع الذي فرضه المخزن. حين يُعتقل أو يهرب رجال الحراك أو الثورة فلا يعود هناك … حراك ولا ثورة. هذه حقيقة فيزيائية بسيطة. أفرِغْ المنطقة من رأسمالها البشري فتخمد وتستكين، أو بلغة المخزن: “تستقر”. أفرغ الثورة من رأسمالها البشري بالاعتقالات والتصرفيقات والترهيبات التي تفضي إلى الهروب واللجوء إلى الخارج فينتهي أمرها، أو على الأقل ستخمد الثورة لخمس سنين أو لخمسين سنة. ويمكن اختصار اشتغال الطورنوفيس المخزني المتخصص في تفكيك الثورات والانتفاضات كما يلي: 1 – التجاهل (تجاهل الثورة أو الانتفاضة أو الحراك) والاكتفاء بالمراقبة الأمنية الخجولة. 2 – الحملة الإعلامية والإنترنيتية التشويهية ضد الحراك وتجنيد الأحزاب الريعية التابعة للمخزن. 3 – مع طول مدة الحراك أو الثورة يبدأ المخزن حركات تسخينية واحتكاكات جسدية مع الحراك. 4 – البدء في الترويج لمشروع بديل يخالف ما طالب به الشعب بشكل متزامن مع بدء التصرفيق والاعتقالات. (سياسة العصا والجزرة). 5 – مع وجوم وسكوت وقلة حيلة بقية الشعب، يستعيد المخزن ثقته الكاملة بالنفس ويبدأ حملة نهائية لمنع التظاهر واعتقال كل من تقع عليه يده. فينتشر الرعب في الشعب ويهرب من يهرب ويسكت من يسكت. الدولة عموما ليست في عجل ةمن أمرها والزمن يسير غالبا في صالحها لذلك فهي تتقن لعبة تضييع الوقت لإحباط المطالبين بالتغيير وجعلهم يتقاعدون أو يهربون إلى أوروبا. والدولة كذلك قوية لأنها تملك تدفقا ضخما ومنتظما من الضرائب الهائلة التي يدفعها لها الشعب راضيا خانعا. هذه الدولة إذن ذات نفس طويل ورجالها من بوليس وبيروقراطيين يقبضون الرواتب الشهرية ولديهم بيوت وكوزينات وثلاجات مليئة بالمأكولات والمشروبات وحياة مستقرة وينفذون الأوامر حرفيا للحفاظ على هذه النعمة المخزنية. أما الثوار والمتظاهرون والنشطاء فعاطلون جائعون مقهورون مقطعون مقطوعون، لا شغل لهم ولا مدخول ولا شقة ولا حياة مستقرة، وفوق ذلك هم مهددون بالقتل والاختطاف والتعذيب والسجن، ويخافون على عائلاتهم من الانتقامات والتحرشات. وفوق ذلك فالمثقفون ساكتون أو ديبلوماسيون أكثر من المخزن نفسه. وعاجلا أم آجلا سيتعب الثوار والمناضلون وسيملون ويسأمون ويضجرون ويخافون، وسيحتاجون حتما إلى الأكل والسكن والدواء والراحة النفسية وأشياء أخرى. ومع تخاذل بقية المغاربة وبقية المناطق وتخاذل السياسيين واختباء المثقفين وراء التصريحات الديبلوماسية الإنشائية وتخاذلهم عن الدفاع عن الحرية خوفا على مناصبهم أو خوفا من الظهور بمظهر الكافر بالإسلام أو بمظهر الانقلابي الثوريالمعارض للنظام سيخبو ويخمد الحراك الريفي أو الجرادي أو الزاكوري أو الفبرايري أو المغربي عموما. لا يحق لنا أن نلومثوارونشطاء حراك الريفأو غيرهم على الهروبإلى أوروبا، فمن حقهم ذلك 100%. ومن حقهم البحث عن اللجوء والأمان والحرية والشغل والمدخول المادي والحياة المستقرة في أوروبا ما دامت هذه الأشياء معدومة في الريف وبقية المغرب. والمخزن نفسه لا بد أنه يفرح فرحا عظيما حين يهرب النشطاء والثوار إلى الخارج لأنه يرتاح من صداعهم تماما بل يرث أرضهم أو منطقتهم التي تركوها له. وسيصبح هؤلاء الثوار والنشطاء واللاجئون السياسيون الآن عبئا على إسبانيا أو أوروبا التي سيكون عليها توفير المدخول والشغل والسكن لهم. إذن فالمخزن يقمع ثوار ونشطاء الشعب بينما الزمن وأوروبا يتكفلان بالباقي. وربما بعد عمر طويل سيعود هؤلاء الثوار واللاجئون من أوروبا إلى حضن الوطن ك”جالية مغربية مقيمة بالخارج” لقضاء العطلة وزيارة الأحباب محملين بالعملة الصعبة يدعمون بها الاقتصاد الوطني المغربي. إن الوطن غفور رحيم. إذن فهذه الوصفة المخزنية (“اقمع الشعب ودع الزمن وأوروبا يتكفلان بالباقي”) ناجحة جدا منذ 1956 على ما يبدو، بل إنها وصفة تعود على المخزن بالخير العميم على المدى الطويل. وهناك مقارنة لا تخلو من كوميديا وطرافة وهي: مثلما أن الدولة المغربية قد اعترفت بأن “نموذجها التنموي” قد فشل فشلا ذريعا، فإنه يجب على الشعب المغربي وعلى النشطاء والمناضلين السياسيين والحقوقيين المغاربة في الداخل والخارج أن يعترفوا بأن “نموذجهم النضالي” قد فشل. كل “الأساليب النضالية” التي تبناها ويتبناها الناشطون والمتظاهرون والثوار والحقوقيون المغاربة قد فشلت ونجح المخزن في تفكيكها تماما. – حركة 20 فبرايرAmussu en Simraw Yebrayerفشلت. – الحراك الريفيAmussu Arifanفشل. – حراك جرادةAmussu en Jradaفشل. – مقاطعة حليب سنترال وسيدي علي لعب دراري لا يخيف الدولة ولا يغير سياستها. – بهلوانيات اليسار وشعاراته الاشتراكيةالغبية فشلت. – الإسلاميون وبرنامجهم الكارثي الذي يشوش على الثورات لا يأخذه أحد بجدية كمشروع مجتمعي قابل للتطبيق وإنما يستخدم كفزاعة. – النقابات ومظاهرات المطالبين بالترقيات والتعويضات والتنقيلات والتوظيفات وتسويات الوضعيات أصبحتمملة ومضجرة للجميع. كل هذه الحراكات سواء أكانت حرياتية أم سياسية أم خبزية قد فشلت لأن ميكانيزماتها وآلياتها وشعاراتها لم تستطع الصمود أمام الطورنوفيس المخزني المحنك المتخصص في تفكيك الثورات والحراكات والانتفاضات. “النموذج التنموي” المخزني فشل. “النموذج النضالي” الشعبي فشل. وها هو المخزن (بحكمته اللانهائية) قد قرر على الأقل تغيير “نموذجه التنموي” الفاشل بنموذج جديد. فهل سيغير الشعب المغربي “نموذجه النضالي” الفاشل الذي انهزم أمام الطورنوفيس المخزني ويستبدله بعقلية جديدة ونضال جديد مختلف شكليا ونوعيا عن ما سبق؟