تعتبر لحظة التعديل الدستوري ل 29 يوليوز 2011 تتويجا لمسار من التفكير الفقهي، وإنضاجا لمجموعة من المشاريع التعديلية، سمحت بإدراج فصلا مهما (133) يحمل في طياته مشروع مسطرة الدفع بعدم الدستورية ولأول مرة في تاريخ المملكة المغربية. إن نضج هذا المطلب، تمت هندسته في استحضار لمحاذير عديدة رامت عدم إحداث تغيير في البنية المؤسساتية للنظام السياسي المغربي عبر المحافظة على طبيعة السلطة القضائية القائمة، ورسم حدود بينها وبين المحكمة الدستورية، وبالتالي تمييز آلية الدفع بعدم الدستورية (الدفع الفرعي) في مسطرتها والمعنيين بإثارتها وتحريكها وأثر قراراتها، عن ما يقابلها في الرقابة القضائية اللاحقة الأصلية، المباشرة والهجومية. وهذا ما يفسر إلى حد كبير إصرار المشرع الدستوري على حسم من داخل الوثيقة الدستورية، للمداخل الكبرى لأجرة هذه الآلية الجديدة. ولئن كان كل من (الفصل 133) من الدستور و(المادة الأولى) من مشروع القانون التنظيمي رقم 15-86 المتعلق بتحديد شروط وإجراءات تطبيق الدفع بعدم دستورية قانون، والذي صدر بخصوصه القرار 17-80 الخاص بالمطابقة للدستور، قد أجازا مبدأ الطعن في دستورية القوانين من طرف الأفراد عند المساس بحقوقهم وحرياتهم التي يكفلها الدستور، فإن ذلك مقيد بإسناد الاختصاص للنظر فيه إلى المحكمة الدستورية دون غيرها، مما يعني إنكار هذا الحق على المحاكم العادية أو المتخصصة (مدنية، جنائية، تجارية، إدارية) وإبقاء الاختصاص المتعلق بالرقابة على دستورية القوانين مجال خاص بالمحكمة الدستورية. المحكمة الدستورية من هذا المنطلق، ومن خلال تدخلها للبت في طلبات الأطراف ستجد نفسها ملزمة بتحديد توجه السياسة العامة في أبعادها المختلفة من خلال تفسير القواعد القانونية من منظور المبادئ الدستورية ذات الحمولات الفلسفية المتعددة. ومن هنا أيضا، لابد من القول بأن المشرع قصد، بمعية الحديث عن الدستور، التمييز بين الحقوق والحريات التي يمكن أن تكون محل انتهاك أو خرق بموجب القوانين المطبقة، والحقوق التي تعود مهمة حمايتها وصونها إلى السلطات العمومية، فهذه الأخيرة تعتبر خارج عن النطاق المشمول للحقوق التي يعتد بها حالة تعرضها إلى للخرق، والتي تشكل مناط تحريك الدعوى الدستورية من لدن الأفراد. كما لا يجوز للأفراد الدفع بعدم الدستورية، إذا تعلق الأمر بمساس حقوق غير منصوص عليها في الدستور، فالدفع مقرون بوقوع ضرر على الحقوق المنصوص عليها بصريح العبارة وفي صلب الدستور. ويستتبع كذلك من خلال فحص متن مقتضيات الفصل 133، والفقرة الأولى من (المادة الثانية) من مشروع القانون التنظيمي رقم 15-86، أن الأمر يتعلق برقابة الدفع أو الامتناع وليس برقابة الإلغاء، حيث يقتصر الأمر على "وجود دعوى معروضة أمام المحاكم"، وتبقى طلبات فحص الدستورية من طرف أطراف النزاع تقتصر على إبعاد تطبيق كل مقتضى ذو طابع تشريعي سيؤدي إلى خرق أو انتهاك أو حرمان من حق من الحقوق أو حرية من الحريات التي يضمنها الدستور، وبالتالي يختزل دور محاكم الموضوع في الامتناع عن تطبيق القانون إلى أن تبث المحكمة الدستورية في دستوريته. ولا يعني هذا الشرط أن يتحقق القاضي من عدم دستورية المقتضى التشريعي حتى يحيله إلى المحكمة الدستورية، وإنما معناه أن الشك في دستورية هذا المقتضى التشريعي لتقرير مدى جدية الدفع يفسر في جانب منه عدم الدستورية، فيكفي في هذا سندا، لإيقاف الفصل في الدعوى والتوجه لرفع دعوى أمام المحكمة الدستورية. وفي سياق أول قرار لها بخصوص مسالة الدفع بعدم الدستورية في النموذج المغربي، قررت المحكمة الدستورية، وبعد اطلاعها على العريضة المسجلة بأمانتها العامة في 28 مايو 2018، التي قدمها السيد توفيق بوعشرين، بواسطة دفاعه، في ملف عدد 18-029، طالبا فيها التصريح بعدم دستورية المادة 265 من قانون المسطرة الجنائية والتي الذي يمس بمجموعة من بحقوقه وحرياته التي يكفلها الدستور، وبعد الاطلاع على المستندات المدلى بها؛ صرحت بعدم قبول الدفع المثار بتعليل عدم دخول القانون التنظيمي 15-86 المتعلق بالدفع بعدم الدستورية حيز التنفيذ. هذا القرار فتح معه بابا واسعا من الإشكالات والتساؤلات، أهمها: 1- هل كان على المحكمة الدستورية أن تجيب عن هذه المسالة ؟، بمعنى انه إذا كان الفصل 133 من الدستور يعطيها الحق بممارسة هذا الاختصاص، إلا انه في نفس الوقت قيد الممارسة بوجود قانون تنظيمي خاص ينظم مسالة الدفع بعدم الدستورية، فهل جوابها وتفاعلها وإصدار قرار بخصوص هذه المسالة يعني أن القانون التنظيمي 15-86 المتعلق بالدفع بعدم الدستورية، بعد البت فيه بموجب القرار 17-80، دخل حيز التنفيذ ضمنيا، وذلك بموجب الفقرة الثانية من المادة 27 من القانون التنظيمي 13-066 المتعلق بالمحكمة الدستورية ؟ 2- أم ان قرارها بعدم قبول الدفع المثار يجد تعليله بعدم دخول القانون التنظيمي 15-86 حيز التنفيذ، وذلك طبقا للفقرة الأولى من المادة 27 من القانون التنظيمي 13-066 ؟ وفي هذه الحالة سنكون أمام تناقض كبير قبول الدعوى والبت فيها وفي نفس الوقت تعليل بعد صدور القانون التنظيمي 15-86 ؟ 3- لماذا تجاهل القاضي الدستورية ولم يحيل في بناءاته على المادة 27 من القانون التنظيمي 13-066 التي توضح قاعدة مصير القانون التنظيمي بعد صدور القرار المطابقة الخاص به ؟ وأيضا لماذا لم يتم الإحالة على القرار الدستوري 17-80 الذي صدر بالجريدة الرسمية يوم 12 مارس 2018 والمتعلق بالبت في مشروع القانون التنظيمي 15-086 المتعلق بالدفع بعد الدستورية، بمنطق أن القرارات الدستورية السابقة تدخل ضمن عناصر الكتلة الدستورية ؟ 4- أخذا بتعليل عدم دخول القانون التنظيمي 15-86 حيز التنفيذ المتعلق بالدفع بعدم الدستورية، نتساءل بغرابة، كيف وصلت الدعوى مسطريا إلى المحكمة الدستورية ؟ وهنا نتساءل بالخصوص عن مسالة الإحالة على المحكمة الدستورية أو بالأحرى مسالة التصفية، والتي أقرها سابقا القرار الدستوري 70-18 ؟ 5- وأهم تساؤل اليوم يطرح ذاته، إذا أخذنا بتعليل عدم دخول القانون التنظيمي 15-86 حيز التنفيذ، إلى متى هذا التأخير في إخراج هذا القانون ؟ بل نتساءل اليوم عن المسطرة الإجرائية لإخراج القانون التنظيمي 15-86 خصوصا بعد إصدار القرار 18-70، وأي مسطرة سيتبعها اليوم مشروع القانون التنظيمي 15-86 وتعليقا منا على شكل ومضمون قرار القاضي الدستوري المغربي رقم 18-80 نقول: – أولا: بناءات القرار 18-80 اعتمدت على كتلة دستورية ضيقة: اعتمد القاضي الدستوري في بناءاته بخصوص القرار 18-80 فقط على الفصل 133 من الدستور الصادر بتنفيذه الظهير الشريف رقم 1.11.91 بتاريخ 27 من شعبان 1432 (29 يوليو2011)، وأيضا المادة 28 القانون التنظيمي رقم 066.13 المتعلق بالمحكمة الدستورية، الصادر بتنفيذه الظهير الشريف رقم 1.14.139 بتاريخ 16 من شوال 1435 (13 أغسطس 2014). المادة 28 من القانون التنظيمي المتعلق بالمحكمة الدستورية 13-066، جعلت مجال نظر المحكمة المذكورة في كل دفع بعدم دستورية قانون، مرتبطا بصدور قانون تنظيمي يحدد شروطه وإجراءاته. وهو الأمر، حسب القاضي الدستوري، الذي يتوافق مع الفقرتين الواردتين في الفصل 133 من الدستور المغربي. وخلص القاضي الدستوري سريعا، إلا انه وبما "….. أن القانون التنظيمي المتعلق بالدفع بعدم دستورية قانون لم يصدر بعد؛ وحيث إنه، تبعا لذلك، يتعذر على الحال، الاستجابة للطلب الرامي إلى فحص دستورية المادة 265 من قانون المسطرة الجنائية؛ لهذه الأسباب: صرح بتعذر البت في الطلب….' الا انه، إذا كانت عناصر الكتلة الدستورية المغربية مبدئيا تتشكل من العناصر التالية، الدستور (بنصوصه المرقمة والتصدير الجديد، القوانين التنظيمية، وأيضا القرارات الدستورية السابقة الغير القابلة للطعن )، وبالتالي، المنطق السليم كان يفرض أن ينفتح القاضي الدستوري بحكمه على مجال أوسع للكتلة الدستورية خصوصا قرار المحكمة الدستورية 18-70 الصادر بالجريدة الرسمية في 12 مارس 2018 والخاص بمطابقة مشروع القانون التنظيمي 15-86 المتعلق بالدفع بعدم الدستورية والذي تدور حوله هذه القضية. وأيضا المادة 27 من القانون التنظيمي 13-066 المتعلق بالمحكمة الدستورية، والتي تحدد مسار ومصير مشاريع القوانين التنظيمية بعد البت فيها. – ثانيا: تعليل عام من ناحية المضمون بمنطق انه اخذ بالدعوى وأعطاها بذلك الشرعية فان تعليله كان عاما ومختصرا من حيث المضمون، حيث انه لم يشر إلى طبيعة المستندات المدلى بها من طرف، السيد توفيق بوعشرين، المقدمة بواسطة دفاعه، والتي تشكك في دستورية المقتضى التشريعي الجنائي (المادة 265) بخصوص قضيته، بل اقتصر القاضي الدستوري على عبارة "…وبعد الاطلاع على المستندات المدلى بها…"، والأصح والأصوب ذكر طبيعة هذه المستندات، لأن الأمر يتعلق بصحة دستورا نية المواد القانونية التي سبق أن دخلت حيز التنفيذ دون رقابة القاضي الدستوري، لأن رقابتها تكيف على أنها رقابة اختيارية وليست إجبارية. وهو نفس الشيء حين استعمل القاضي الدستوري العبارة التالية ",,,,, وحيث إن ارتباط الفقرتين الواردتين في الفصل 133 المذكور، وعلى عكس ما يدعيه الطاعن،…"، القاضي الدستوري هنا أيضا لم يحدد ما يدعيه الطاعن توفيق بوعشرين، وهنا يتساءل الباحث ما الجدوى من القرار الدستوري إذا كان لن يجيب على كل المعطيات والتساؤلات التي تشكك في دستورية المقتضيات التشريعية ؟ – ثالثا: ما بين الدعوى الفرعية والدعوى الأصلية الهجومية نذكر بداية، في هذا المجال، أن دعوى الدفع بعدم الدستورية، بمنطق الفصل 133 والقانون التنظيمي 13-066 المتعلق بالمحكمة الدستورية، ليست دعوى رئيسية، فهي تكيف على أنها دعوى تابعة، وتصبح نزاعا رئيسيا حينما تتم الإحالة على المحكمة الدستورية. بمعنى أنها دعوى منفصلة، منذ لحظة إثارتها إلى حين البث فيها من قبل المحكمة الدستورية عن باقي المكونات القانونية للدعوى الأصلية. في هذا السياق وبعد القرار الأخير 18-80 نتساءل: إذا كان القرار الدستوري يكون مبدئيا مبنى على إحالة واضحة من ذوي الصفة القانونية، فكيف تمت احالة الدعوى على المحكمة الدستورية ؟ بهذا الخصوص، لم يوضح القاضي الدستوري كيف وصلت العريضة للمحكمة الدستورية، لأنه إذا أخذنا بتعليل قراره 18-80 والذي اعتمد على مسالة " عدم دخول القانون التنظيمي 15-86 حيز التنفيذ "، وهنا يحضر التناقض، فكيف تم قبول الدعوى في محاكم الموضوع، بمعنى هل تم مرور الدعوى من المحكمة الابتدائية ثم محكمة النقض، وكيف تم البت في جديتها قبل الإحالة على المحكمة الدستورية. الإشكال الثاني في هذه المسالة هو أنه بقبول المحكمة الرد على الإحالة من طرف الطاعن السيد توفق بوعشرين مباشرة تكون بذلك، وضمنيا، تعطي الحق بممارسة الدعوى القضائية الأصلية المباشرة الهجومية والتي لا يعنيها الدستور المغربي، فدعوى الدفع بعدم الدستورية تكيف على أنها دعوى فرعية مقيدة بمجموعة من الشروط أولها النزاع وبعدها إيقاف الدعوى وإحالتها من طرف محكمة الموضوع إلى محكمة النقض التي تحيلها إلى المحكمة الدستورية، وذلك بمنطق قرارها 18-70 المتعلق بالبت في مطابقة مشروع القانون التنظيمي 15-86 والذي أبقى على مسالة التصفية على درجتين بخصوص دعوى الدفع بعدم الدستورية. والمنطق السليم يقول، أنه كان على القاضي الدستوري، رغم أنه تسلم الدعوى أن لا يجيب ولا يصدر قرار بهذا الخصوص، لأنه بذلك يكون قد سقط في فخ إعطاء الشرعية لممارسة الدعوى الدستورية الأصلية المباشرة – رابعا: إشكالية مصير مشروع القانون التنظيمي 15-86 بعد القرارين 18-70 و القرار 18-80 من منطلق الفقرة الثالثة من الفصل 85 من الدستور المغربي فانه "…لا يمكن إصدار الأمر بتنفيذ القوانين التنظيمية، إلا بعد أن تصرح المحكمة الدستورية بمطابقتها للدستور…"، وبموجب المادة 27 في فقرتيها الأولى والثانية، فان للمحكمة الدستورية حق التقدير في التقرير ما إذا كان بالإمكان فصل المواد الغير المطابقة عن مجمل النص الدستوري وبالتالي إعطاء الأمر بتنفيذ القانون التنظيمي أم لا. وبالرجوع الى القرار 70-18 المتعلق بالبت في مطابقة مشروع القانون التنظيمي 15-86 نجد أن القاضي الدستوري صرح في نهاية تعليلاته وبناءاته، وذلك بالإضافة إلى المواد المطابقة والمواد التي ليس فيها ما يخالف الدستور، أن "… المواد 2 (البند "ب") و5 (فيما نصت عليه من شرطي المقتضى التشريعي والحقوق والحريات) و6 و7 (الفقرة الثانية)، و8 و13 (فيما يتعلق بعدم إقرار مسطرة ترتيب أثر قرار المحكمة الدستورية) و10 (باستثناء ما يتعلق بما ورد في آخرها من أنه "لا يمكن إثارته تلقائيا") و11 و12 و14 و21، غير مطابقة للدستور …" الإشكال هنا هو أن القاضي الدستوري سكت ولم يوضح، ولم يحدد ما إذا كانت المواد الغير المطابقة للدستور تقتضي عدم إصدار الأمر بتنفيذ القانون التنظيمي 15-86 وذلك طبقا للفقرة الأولى من المادة 27 من القانون التنظيمي للمحكمة الدستورية. أو، من ناحية ثانية، قد تنطبق عليه الفقرة الثانية من المادة 27 من القانون التنظيمي للمحكمة الدستورية والتي تعتبر انه يمكن فصل المواد الغير المطابقة للدستور عن مجمل القانون التنظيمي وبالتالي يجوز إصدار الأمر بتنفيذ القانون التنظيمي 15-86 المتعلق بالدفع بعدم الدستورية. وبصدور القرار الجديد 18-80 المتعلق بقضية بوعشرين، حيث صرح بعدم البت في الدعوى بموجب عدم اصدار الأمر بتنفيذ القانون التنظيمي 15-86 المتعلق بالدفع بعدم الدستورية، بمعنى انه اخذ ضمنيا بالفقرة الأولى من المادة 27 التي تقتضي عدم إصدار القانون التنظيمي 15-86. الإشكال الجديد يكمن في الإجابة عن الطبيعة المسطرية التي من المفروض إتباعها اليوم لإعادة بناء مشروع القانون التنظيمي 15-86، وإحالته من جديد على المحكمة الدستورية. هل سيتم إرجاع المشروع الأول للجهة التي احالته على المحكمة الدستورية وبالتالي إعادة الاشتغال عليه من جديد بناء على نفس المسطرة المعروفة. أم سيتم إرجاعه للقيام فقط بتحيين وملاءمة بسيطة وفق القرار رقم 18-70، بمعنى هل سيتم الإبقاء على كل المواد المطابقة للدستور، والمواد التي ليس فيها ما يخالف الدستور، والاشتغال فقط على المواد التي تتطلب تفسيرا . وما مصير المواد الغير المطابقة هل سيتم استبدالها بمواد أخرى أم تلغى تماما وبالتالي ينقص معه عدد مواد القانون التنظيمي الجديد. * عبد الحق بلفقيه – دكتور في القانون العام جامعة عبد المالك السعدي طنجة