قراءة في رواية "ذاكرة النرجس"[1] للروائي المغربي رشيد الهاشمي تمهيد: لا يمكن أن ننظر إلى الرواية، بأي كان، بوصفها فضاء تخييليا صرفا بحيث لا تتقاطع حدودها مع حدود الواقع، بل إنها مجال تفاعل بين مختلف الأبعاد الوجودية بما في ذلك الواقع الذي يمثل منطلقها الأكبر ومسعاها الأسمى. هكذا إذاً، فإن النص الروائي يستمد قيمته أساساً من قدرته على التطرق إلى قضايا وموضوعات تتسم بالجدة والجرأة والراهنية. في هذا السياق، تشكل رواية "ذاكرة النرجس" للروائي المغربي رشيد الهاشمي مثار جدلٍ بامتياز، إذ إن الموضوع الذي قرر الكاتب سبر أغواره يُعد من الموضوعات النادرة والغير اعتيادية في مشهدنا الأدبي. لا يختلف اثنان في كون قضية الزنجية العربية، رغم ما قدمة الأدباء السودانيين في المجال شعراً وسرداً، لازالت تصنف من الموضوعات المهملة التي لم تلق المكانة التي تستحق. ومن هنا، حق لنا أن نتساءل عن هذه القضية في سياقها المغربي؟ عن مختلف صور تشظي الهوية الزنجية؟ وعن أشكال العنف الممارس عليها داخل المجتمع؟ 1 -ذاكرة النرجس أو الزنوجة المغربية إذا تم الاتفاق بأن "ذاكرة النرجس" هي رواية عن الزنوجة المغربية، فإننا نجد أنفسنا وجهاً لوجه إشكالين لا يقبلان الانتظار: من هم الزنوج المغاربة؟ ثم إلى أي حد جاز لنا أن نصنف النص قيد الدراسة ضمن ما يسمى ب"الأدب الزنجي"؟ في محاولتنا للإجابة عن الإشكال الأول، نجد أن المادة التاريخية التي بوسعها أن ترفع عنا الحرج لا تقدم إجابات دقيقة، بيد أنه لا يمكن على أي حال إنكار تواجد المكون الزنجي في المجتمع المغربي، فهي مسألة مفروغ منها ولا تقبل النقاش، وهي يؤرخ لفترة تاريخية كانت فيها الأنظمة السياسية تتوجه نحو استعباد السكان السود عن طريق الغزو والخطف والجريمة[2] وجعلهم بضاعة في أيادي التجار بغية النهوض بالاقتصاد آنداك. لكن بالعودة إلى الثقافة المحلية لمنطقة الجنوب الشرقي، المنطقة نفسها التي جعلها الكاتب مسقط رأس شخصياته الرئيسة، فإننا نجد أن هناك صنفان من الزنوج: العبيد والسود الأحرار. فبخصوص العبيد فهم الذين استعبدوا بعدما تم جلبهم من السودان الغربي والحبشة، واستفادوا من العتق عبر فترات تاريخية إلى أن تم تجريم الاسترقاق، ويعرفون أيضا بالكناويين نسبة لموسيقى كناوة التي اشتهروا بها، أما السود الأحرار (الحراطين)، أي الأحرار من الدرجة الثانية، فهم عرفوا بممارسة الأنشطة الزراعية ولا تحدد المصادر التاريخية الظروف التي دخلوا فيها إلى المغرب الأقصى. ولعل ما يزيد المسألة غموضاً هو كون الرواية لا تقدم لنا تفاصيل دقيقة بخصوص هويات شخوصها الزنجية، كل ما نعلمه عن العبدي هو كونه شاب أسود البشرة: "كنت الفتى الأسود الوحيد الذي يدرس بتلك المدرسة" (ص 239)، وانتسابه لجد كان "يعزف الكنبري" (ص 241). نفس الشيء ينطبق على الحرة التي لا يقدم النص إشارات واضحة عنها سوى كونها "سوداء وقبيحة" (ص 29) ومن المحتمل أن نسبها ينتهي عند الحرة السّجلماسية، "العبدة السوداء التي اشتراها أحد كبراء بنو هلال بسجلماسة من تاجر يهودي" (ص 19). أما بخصوص الاشكال الثاني، فإنه يجدر بنا في البداية إلى الإشارة بأن أدب الزنوجة هو ذلك التيار الأدبي والإيديولوجي الذي يعنى بقضية السود ومختلف صور الظلم والاقصاء التي تعرضوا لها في القارة الافريقية وكذا الأمريكيتين، ولعل أبرز رواد هذا التيار نذكر: الشاعر المارتينيكي "إيميه سيزير"، والشاعر والرئيس السنغالي الأسبق "ليوبولد سيدار سنغور". ومن الملاحظ أنه رغم انتشار أدب الزنوجة في القارة السمراء فإنه لم يستطع اختراق حدود الدول العربية المحسوبة على الشمال الافريقي رغم التجاور الجغرافي والتواجد الزنجي بها، اللهم إذا استثنينا بعض الأدباء السودانيين مثل الروائي الطيب صالح والشاعر محمد الفيتوري، الشيء الذي يبعث على الدهشة والاستغراب. لكن ما يمكن استنتاجه في هذا السياق هو أنه لا مجال للحديث عن الزنوجة العربية في ظل غياب رواد حقيقيين ونصوص مرجعية تؤسس لنزعة زنجية في العالم العربي. أضف إلى ذلك كون رشيد الهاشمي لا يحسب على الزنوج، إنما يحسب على "أناس يفهمون معنى الإنسانية والحرية البشرية التي تقوم في أصلها على مساواة البشر سود/بيض دون التفريق من الناحية الأهلية لأي منهما."[3] وبناء عليه، فإن كلا السؤالين المطروحان سلفا لا يفضيان إلا إلى أسئلة أخرى لا تجد جوابا شافيا، ولا يمكن أن نجزم إلا بشيء واحد هو أن "ذاكرة النرجس" هي تجربة روائية فريدة تضعنا أمام إشكالات عويصة وتثير جدلا واسعا حول العديد من القضايا المنسية المرتبطة بالهوية السوداء، ويحسب له الفضل، كل الفضل، في إخراج الموضوع من العتمة ووضعه تحت الأضواء الكاشفة، فإلى أي حد يا ترى أفلح الكاتب في مقارعة هذه القضية؟ – 2جدلية الآخر والأنا /السيد والزنجي إن المتلقي لنص "ذاكرة النرجس" ليعجب من قضية التعدد الهائل المرصود على مستوى الشخوص، حيث نتصادف مع نعمان الموريسكي، وماري المسيحية، ومريم العربية، وزينب الأمازيغية، ومامادو السنغالي، وخيرة الجزائرية، والعجوز اليهودي، وريم الفلسطينية.. إلخ. ومن هذا المنطلق، جاز لنا أن نفهم الاختلاف بوصفه "المفهوم الذي بفضله يتحدد الكائن كزمان وحركة، ويصبح بفضله التعدد "خاصية" الهوية والانتقال والترحال "سمة الذات" والانفتاح والتصدع "صفة" الوجود، والانفصال سمة الكائن"[4]. يعد هذا التنوع في الشخصيات بمثابة لبنة أساسية لبناء تفاعل ثقافي قائم على الانصاف والمساواة، إلا أن الكاتب سرعان ما يبدد هذا الطرح ويكشف لنا عن واقع قوامه الانفصال والتغريب، ذلك أن المؤلف يضع الثقافة الزنجية في مقابل ثقافة بيضاء تمتزج فيها عدة مكونات (العربي، والأمازيغي، والموريسكي، والمسيحي… إلخ)، مما يجعلها ثقافة مغتربة غير قادرة على المساهمة في تفاعل ثقافي وحضاري بناء. ومعنى ذلك أن جميع الشخصيات التي رصدناها سلفا ما هي إلا شخصيات ثانوية، ووجودها لم يكن إلا بدافع بلورة مكانة الشخوص الرئيسة بينها. الحُرة والعَبْدي إذاً، هما الشخصيتان البارزتان للرواية، واللذان بفضلهما نستطيع رصد موقع الثقافة الزنجية ومكانتها في السلم الثقافي المغربي. في الوقت الذي تندفع فيه الشخصيات البيضاء نحو تحقيق ذاتها دون أن يشكل لها الماضي حرجاً، تظل الحرة عاكفة على مخطوطة تاريخية قصد إثبات هويتها السوداء ورفع الظلم الذي ألحقه التاريخ بأمة الزنوج. "ثلاثة أشهر مضت على ذلك اليوم وأنا لم أستطع العدول عن عادتي: (…) يدان تمسكان بقطع جلدية مهتًرئة وصفراء أدقق في حبرها لأثبت هويتها الضائعة." (ص 20). إن هذا الوعي النابع من الذات يبلور بشكل جلي حجم تلك "العقدة التاريخية" التي جعلت الانسان الأسود داخل المجتمع المغربي يُنظر له بنظرة دونية، ذلك أن الزنجي اقترن في المخيال الاجتماعي بصورة القبح والوحشية والبدائية، في حين أن الأبيض ارتبط بالجمال والدهاء والحضارة، وبذلك يكون النص قد سعى إلى هدم هذه التمثيلات الجاهزة حول الزنوج وبناء تمثيلات جديدة تسعى إلى رفع الحرج عن الملونين داخل مجتمعاتنا. ومن بين أبرز صور انهيار الأنا الزنجية أمام الآخر/السيد نذكر صورة الاستلاب/الاغتراب التي تعرض لها العبدي، حيث سعى جاهدا إلى طمس هويته السوداء والانغماس في ثقافة أخرى لا تمت له بأية صلة. ذلك أنه: ""يفعل كل ما بوسعه (…) لكي ينفي هويته الزنجية، فتراه يقول متباهياً: إنّ الزنوج إفريقيون، أمّا هو فإنسان مهذّب تشرّب الحضارة (…)، وإن كان ملوّناً"[5]. ويمكن تفسير هذا التملص من الثقافة الأم بعاملين اثنين أولهما نظرة الأسود إلى نفسه، حيث يرى نفسه أقل من هذا الأبيض الذي له الحق الكامل في احتكار الثقافة الوطنية، أما العامل الثاني فيتجلى في نظرة المجتمع إلى الذات السوداء التي يرى فيها موضعاً للتهميش والاقصاء. ومنه، فإن تداخل الثقافة الزنجية مع مختلف الثقافات الأخرى لم يتخذ مساراً قوامه التفاعل الايجابي والمساواة، بل قوامه الصراع والانفصال. 3 -الاعتراف بالذات: خطوة نحو رد الاعتبار للهوية الزنجية يدافع كاتب "ذاكرة النرجس" عن فكرة جوهرية مفادها أن الهوية الزنجية لن تستعيد مكانتها داخل المجتمع المغربي إلا عندما يعترف الزنوج أنفسهم بهويتهم المستلبة. في هذا الصدد يُعرب الشاعر المارتنيكي إميه سيزار عن هذه الحاجة قائلا: "ما أجمل أن يكون الإنسان أسود!"، وبهذه العبارة يكون قد سلط الأضواء على قضية أساسية هي: إدراك الذات والوعي بكينونتها منطلق رئيس لرد الاعتبار. في هذا الصدد، تجدر الاشارة إلى أن الحرة لم تقرر الخوض في تجربة تقصي حقيقة الأصول إلا بعد فشل مشروعها العاطفي مع نعمان الموريسكي كما جاء في قولها: "لا أنكر أني كنت مدركة لأعراف وتقاليد المدينة، لكن، من حيث لا أدري، عولت على هذا المخلوق أن يصنع لي سعادة كبيرة." (ص 69)، وهذا راجع، حسب فرانز فانون، إلى معاناتها من عقدة (التبييض)، "فكما يبحث الزنجي عن امرأة بيضاء، تبحث الزنجية عن رجل أبيض، وعن ولد مهجن يميل إلى البياض أكثر مما يميل إلى السواد."[6] ومن جانبه، لم يدرك العبدي قيمة ذاته ومناشدة التصالح مع الهوية إلا بعد موت أمه بالتبني مدام ماري، إذ يقول: "اليوم بعدما انتهى كل شيء، صار بإمكاني أن أجزم بأني كنت أستند على جدار من الوهم الكبير." (ص 183). الموت شكل بالنسبة إليه إذا نقطة تحول في مسار شخصيته، فبعد أن كان قد أعلن ولاءه للشمال الذي يكرس هيمنة البيض كما هو موضح في قوله: "وجدت في الحياة هنا (الشمال) مطرقة أصيلة تساعد على تعطيل وظائف الذاكرة" (ص 110)، أحس بحاجته إلى إدراك ذاته وبادر إلى العودة إلى مسقط الرأس بالجنوب: "ها هي ذي تافيلالت إذن، الأرض الجالسة أسفل الوطن." (ص (227. من الواضح إذا أنه كان على الأشياء أن تتداعى ليدرك العبدي أنه فقد نفسه تحث إثر ضغوطات قاهرة غيرت ثقافته، ويستعيد بذلك وعيه بهويته وماهيته. فإذا كان فرانز فانون يدافع في أطروحته على أن العبد الزنجي لم يناضل من أجل الحرية، وإنما السيد الأبيض هو الذي اعترف به في لحظة معينة[7]، فإن العبدي استطاع التخلص من قناعاته الأولى والمضي قدما نحو البحث الهوياتي. الحرة، من جهتها، شمرت على سواعدها وقررت أن تنتزع حريتها بنفسها عن طريق البحث في أصولها بمفردها دونما حاجة لهذه الأبيض الذي يسعى إلى تزييف الحقائق وجعلها دائما في صفه. ودافعها الأسمى في ذلك هو انعتاقها من "عقدة العرف الاجتماعي" الذي يضعها بسبب لونها الأسود في منزلة دنيئة ومنحطة، العرف نفسه الذي وضع حواجزه بينها وبين نعمان الموريسكي وقوض المشروع العاطفي والانساني من أساسه: "ذات مرة هتف أحدهم من وراء ظهري مباشرة: ابتعدي عنه يا الَعِّزية." (ص 30) في النهاية، لا بد أن نوضح أنه بالرغم من اختلاف مسار شخصية الحرة والعبدي في الرواية، فإنهما يتقاسمان نفس النهاية: العودة إلى الجنوب، وهذه العودة لم تكن عبثا وإنما جاءت كنتاج حتمي لما فرضه الواقع عليهما من إكراهات وممارسات إقصائية. هكذا، يبني الكاتب أطروحته حول موضوع الزنوجة المغربية مؤكدا على ضرورة الوعي بالذات قصد هدم الصور النمطية والجاهزة عن السود، وبناء واقع منصف للهوية الزنجية دعامته الحوار الإيجابي بين الأنا والآخر. خاتمة: يتضح جليا أن رواية "ذاكرة النرجس" للروائي المغربي رشيد الهاشمي بلورت صور تشظي الهوية الزنجية داخل المجتمع المغربي ومختلف أشكال العنف الذي تمارسه عليها الثقافة البيضاء، مما يجعل السبيل الوحيد لرد الاعتبار لها ومنحها مكانة مناسبة هو تعميق الوعي بالأنا وتعزيز مكانتها عن طريق تقوية أواصرها بالثقافات الأخرى بطريقة أفقية. الهوامش: [1] رشيد الهاشمي، ذاكرة النرجس، رواية، دار روافد للنشر والتوزيع، القاهرة، ط1، 2017. وأرقام الصفحات في المقال التي لا تحيل على الهامش هي أرقام صفحات الرواية. [2] أنظر عبد الإله بنمليح، الرق في بلاد المغرب والأندلس، مؤسسة الانتشار العربي، بيروت-لبنان، ط1. 2004. [3] هشام آدم، "جدلية المرأة والرجل (العبودية)" في الموقع http://www.m.ahewar.org/s.asp?aid=171034&r=0 [4] Gao Xingjian Bourgeois. Au plus près du réel. Dialogue sur l'écriture, éd L'aube. 1997, p120. [5] Frantz Fanon, Peau noire, masque blancs, Bejaia, Algérie, Editions Talantikit, 2013, p. 63. [6] الزواوي بغورة، "الهوية والعنف: نحو قراءة جديدة لموقف فرانز فانون"، نشرت ضمن مجلة "يتفكرون"، العدد 5، خريف 2015. [7] Frantz Fanon, Peau noire, masque blancs, op.cit., p. 180.