يقول إدوارد سعيد في كتابه "المثقف والسلطة" (إن المثقف ليس داعية مسالمة في جوهره، ولا داعية اتفاق الآراء، لكنه شخص يخاطر بكيانه كله باتخاذ مواقفه الحساسة، وهو موقف الإصرار على رفض الصيغ السهلة والأقوال الجاهزة المبتذلة، أو التأكيدات المهذبة القائمة على المصالحات اللبقة والاتفاق مع كل ما يقوله وما يفعله أصحاب السلطة وذووا الأفكار التقليدية، ولا يقتصر رفض المثقف أو المفكر على الرفض السلبي بل يتضمن الإستعداد للإعلان عن رفضه على الملأ). وهذا ما يؤكده المثقف الماركسي -أنطونيو غرامشي- في دفاتر السج، حين قال: إن ما يحكم تعريف المثقف ليس الخصائص الجوهرية لنشاطه الذهني فحسب، بل الوظيفة الاجتماعية التي يؤديها لمجتمعه. ويضيف غرامشي "عندما نميز بين المثقفين وغير المثقفين فإننا في الحقيقة نشير فقط إلى الوظيفة الاجتماعية المباشرة التي يؤديها المثقف في المجتمع". كما يضيف غرامشي مفهوم آخر هو المثقف العضوي، الذي هو صاحب مشروع ثقافي يتمثل في الإصلاح الثقافي والأخلاقي، سعيا وراء تحقيق الهيمنة الثقافية للطبقة العاملة والكتلة التاريخية بالتعبير الماركسي والوضع الاجتماعي للمجتمع الإطلالي في عشرينيات القرن العشرين.. ويرى المفكر الإيراني الشهيد علي شريعتي مفارقة بين نوعين من المثقفين، مثقف أصيل ومثقف مقلد.. ويرجع هذه المفارقة إلى المسخ المفاهيمي الذي جاء نتيجة ترجمة مشوهة، جعلتنا نخطئ منذ البداية في استخدام الصفة التي أُلْبِسَهَا المثقف في مجالنا التداولي، وبالتالي جرى علينا الخطأ تماما في تفسيرنا. فالكلمة -يقول شريعتي- التي تعادل ما عبرنا عنه بالمثقف في لغتنا، هي في اللغة الفرنسية Inteligentsia وهي اسم مصدر، والصفة منها هي Intellectuell، وأصلها هو Intelligence، وكلمة Intellect تعني الفطنة أو الذكاء أو العقل أو القدرة على الإدارك. ومنه كان كل إنسان ذكي يبرز قدراته وفهمه عن سائر مواهبه الأخرى في حياته ومجتمعه يسمى عندنا مثقف! ومن هذا المنطلق يرى شريعتي أن هذا الخلل جعلنا نقسم مجتمعاتنا إلى قسمين، مجموعة أولى تقوم بأعمال يدوية وبدنية وثانية تقوم بأعمال عقلية، والأخيرة هي ما نسميها بالمثقفة أو أهل الثقافة. ثم يعترض بعدها قائلا " كلا إن كلمة المثقف لا تحتاج إلى هذا التفسير و التحليل، فهي تعني صراحة ذلك الذي يتميز بوضوح الرؤية وسعة الأفق، وللكلمة مرادف في كل من الإنجليزية والفرنسية… ومرادفها في الفرنسية هو كلمة "clairvoyant" ومعناها بعيد النظر أو مستنير، أي الذي لا يتصف بالتقليد والتوقف ولا يفكر بجمود عقائدي. فليس المثقف إذن -في نظر علي شريغتي- ذاك الذي يقبع في برجعه العاجي يؤلف ويتأمل ويحلم، وإذا ما وردت عليه مشاكل تمس مجتمعه لا يستوعبها ويقول أنها ليست من شانه… ومنه كان لزاما أن لا يكون المثقف وحده ذاك الذي يزوال عملا فكريا، فمن الممكن أن يكون هناك شخص ما يفكر بانطلاق وسعة أفق بينما يزاول في المجتمع عملا بدنيا أو يدويا، ومع ذلك فهو يحسن الفهم على عمس ذلك الذي يزوال العمل العقلي الخالص ولا ينخرط في مجتمعه. وعليه ما حقيقة المثقف في مجتمعنا العربي؟ لم تكن هذه النقول بشكل عبطي بلا ناظم، بل على اختلاف مرجعيات أصحاب هذه الكلمات والدراسات، فهناك نازم جامع لكل من المثقف الماركسي (غرامشي) والمثقف ذو المرجعية الدينية (علي شريعتي)، وكذا المثقف الأمريكي ذو الأصول العربية (إدوارد سعيد)… إن الناظم الجامع لهذا الثلاثي لم يكن طبعا كونهم من أجيال متقاربة أو واحدة (فيما يتعلق بكل من شريعتي وغرامشي)، بل الناظم هو إجماعهم – كل حسب تعبيره الخاص- على ضرورة أن يكون هذا المثقف، الذي كتبت في سبيله آلاف الأقلام وكتبت في حقه مئات المجلدات، منطلقا من مجتمعه حاملا لهموم وإشكالات جيله وواقعه، بدل الاكتفاء بدور انتيليجينسي نخبوي وتقليداني، يجعله منه ذاتا معزولة عن الواقع ومترفعة عن أحداثه اليومية.. بالإنتقال من هذا السرد العام إلى الواقع الخاص للمثقف العربي وبالخصوص المغربي، سنجده -أي المثقف- يعيش نوعا من العزلة عن عالمه والحياة الاجتماعية في غالب الأحيان، إذ جعل مجمل حياته في عالم وردي يناقش فيه مسائل وإشكالات ثانوية مغرقة في التجريد، على سنة الفلسفة ما قبل السقراطية كما ظهرت مع طاليس وهرقليط وبارمنيد وانكساغور- وذلك بلغة مغرقة في الغموض والغربة عن لغة المجتمع وتعبيراته الثقافية، أو تجده يعيش إلتذاذه الخاص في الهجوم على المجتمع ونقده والسخرية منه دون أن يكلف نفسه عناء النزول للميدان والمساهمة في إصلاحه الثقافي والأخلاقي، ثم يحمل مشعل الاستنارة والتنوير فيه.. بل ومن المثتاقفين من أختاروا لأنفسهم الاصطفاف في جمهرة الدفاع عن السلطة والاستبداد، كما اختار لنفسه -بتعبير رشيد البلغيتي الذي نستعيره منه- أن ينهض بوظيفة (لْبَرَاحْ) التراثية في المجتمع المغري، فيقبل أن يردد خطاب السلطة وأجنداتها بالتطبيل لها من خلال قلم جهوري صخب، مليء بالكلمات الرنانة الفضفاضة والمزينة، بل والتقعيد للدفاع عنها بلغة أكاديمية إن تطلب الأمر، بل وفي الكثير من الأحيان الكتابة باسمها (مقالات وكتب ومؤلفات تحت الطلب وبدون اسم). فقط من أجل حضوة بئيسة عند قدم السلطان يقضي بها المتثاقف بعض أغراضه ومآربه… في سلوك بشع يساهم في مزيد من التضليل.. إننا اليوم في مجتمعنا المغربي نربي المثقف وننشئه لتتلقفه أحضان السلطة فيما بعد ، حتى يقوم عندها خدمة في تغليط المجتمع وتضليله، والمساهمة في اسمرار شروده عن المعارك الحقيقة التي تنتظره أن يتوجها لها رأسا بالعمل فيها وبها.. لقد قبل المثقف في العالم العربي أن يكتفي بالدور الأنتيليجنسي المركون على هامش التاريخ، بدل أن يكون محركا لهذا التاريخ.. وكختام لهذا الكلام أرفع يدي بالدعاء لروح المثقف العضوي بحق -بتعبير غرامشي- الفيلسوف والمناضل المغربي محمد عابد الجابري ومن على سبيله مضى، على ما قدمه لشعبه ولأمته من تثقيف ونضال يومي، واصطفاف واضح وحقيقي مع قضايا المجتمع تأليفا وتوجيها وعملا ميدانيا في مواجهة السلطوية وتحملاتها الثقافية وسياساتها اليومية.. الرحمة على روحك الطاهرة