بداية لابد منها: لا يكاد ينفصل التقدم الحضاري عن الأمن، فالإنسان في أمس الحاجة لأن يعيش في وطن يشعر فيه بالأمن والأمان، فالترابط الوثيق بين النهضة الحضارية والشعور بالأمن أمران مهمان تشهد عليهما الأحداث التاريخية التي مرت عبر التاريخ، فمن يقرأ تاريخ الجزيرة العربية قبل الإسلام سيجد أن المجتمع الجاهلي لم يكن يعرف للأمن سبيلا، فالقوي يأكل الضعيف، لكن بعد ما جاء الإسلام بدأت بذور الأمن والتسامح تنبث في العالم، وبعد ما توطدت أركان الدولة الإسلامية، عم الأمن والرقي الحضاري للأمة. إن السلم كلمة مفهومة المقصد، فهي تعبير فطري لكل إنسان سوي، الهدف منه تشكيل مجتمع نبيل يدور حول حماية كل المصالح الضرورية للإنسان، التي إذا فقدت اختل النظام واضطربت أمور الناس. والسلم من السلام أي البراءة والعافية من العيوب والآفات، ويرتبط مفهوم السلم بالحرب إذا كان هناك صراع بين دولتين أو قبيلتين متناحرتين، فيتجهان إلى السلم والسلام كحل للنزاعات التي نشبت بينهما، وأيضا يرتبط بالمجتمع عندما نتكلم عن السلم الاجتماعي ونقصد به حالة الوئام الداخلي للمجتمع فيما بين أفراده، إن من أهم المقاييس الأساسية لتقويم أي مجتمع تشخيص حالة العلاقات الداخلية فيه، فسلامتها علامة على صحة المجتمع وإمكانية نهوضه، بينما اهتراؤها دلالة عن سوء وتخلف من فيه، إن تحقق السلم الاجتماعي عامل أساسي لتوفير الأمن والاستقرار، وإذا ما فقدت حالة السلم والوئام الداخلي أو ضعفت، فإن النتيجة الطبيعية لذلك هو تدهور الأمن وزعزعة الاستقرار، حيث تسود حالة الخصام والعنف، فيسعى كل طرف لإيقاع أكبر قدر من الأذى والضرر بالطرف الآخر، وتضيع الحدود، وتنتهك الحرمات، وتدمر المصالح العامة، حين تشعر كل جهة أنها مهددة في وجودها ومصالحها، فتندفع باتجاه البطش والانتقام وإحراز أكبر مساحة من السيطرة والغلبة، وينطبق على هذه الحالة ما روي عن الإمام علي بن أبي طالب أنه قال: (من بالغ في الخصومة أثم ومن قصّر فيها ظُلم ولا يستطيع أن يتقي الله من خاصم) وفي رحاب السلم الاجتماعي يمكن تحقيق التنمية والتقدم، حيث يتجه الناس صوب البناء والإنتاج، وتتركز الاهتمامات نحو المصالح المشتركة، وتتعاضد الجهود والقدرات في خدمة المجتمع والوطن، على عكس ما يحصل في حالة الخصام والتناحر، ومن انشغال كل طرف بالآخر، ومن تغليب المصالح الخاصة على المصلحة العامة، وفي مثل هذا الوضع ليس فقط تستحيل التنمية والتقدم، بل يصعب الحفاظ على القدر الموجود والقائم من المنجزات فيتداعى بناء المجتمع، وينهار كيان الوطن، وتضيع مصالح الدين والأمة، وأمامنا بعض الأمثلة: ففي ليبيا أكد أحمد بن سليم، أحد أعضاء المجلس الانتقالي الليبي، أن قيمة الأضرار التي سببتها الحرب في ليبيا تخطت 200 مليار دولار، مؤكدا أن هذه الحقيقة دفعت من الدول الغربية توجيه الدعم المادي للمجلس الانتقالي الليبي، وخسرت ليبيا حوالي 68 مليار دولار أمريكي بسبب التراجع الكبير في إنتاج النفط خلال السنوات الماضية. وفي الصومال أدت عمليات الاقتتال بين المليشيات المتحاربة، إلى مقتل أكثر من مئة ألف إنسان وإلى إصابة الحياة بالشلل، وإلى تهجير وتشريد الآلاف من المدنيين معظمهم من النساء والأطفال، لقد تحولت الصومال إلى محرقة للبشر، وجرى تدمير المدن ومظاهر الحياة المدنية بصورة منتظمة، ويقدر أن أكثر من نصف مليون قد ماتوا نتيجة الجوع أو انهيار الخدمات الصحية، وبعد أن كان نصيب الفرد من الناتج القومي في الصومال يصل إلى 290 دولارا في النصف الثاني من الثمانينات، انحدر في سنوات الحرب إلى 36 دولارا فقط حسب تقدير منظمات دولية. وفي سوريا: أصدر البنك الدولي تقريرا بعنوان ( خسائر الحرب: التبعات الاقتصادية والاجتماعية للصراع في سوريا)، حيث كشف هذا التقرير أن سوريا تكبدت خسائر كبيرة خلال حالة العنف والإرهاب الذي عرفته المنطقة، وقدرت الخسائر الاقتصادية بمعدل 226 مليار دولار، وجاء في التقرير أن أكثر من 7 في المائة من المساكن دمرت، و20 في المائة تضررت جزئيا، ناهيك عن القتلى والجرحى والنازحين، وكل هذا بسبب غياب الأمن وانتشار الرعب والعنف. ونلحظ اختلاف الأوضاع والظروف في البلدان التي ابتليت بفقدان السلم الاجتماعي والوقوع في فخ الحروب. فهناك بلد فقير وآخر غني، وبلد آسيوي وآخر إفريقي، وبلد تتنوع فيه الأعراق، وآخر ينتمي مواطنوه إلى عرق واحد وقومية واحدة، وبلد تتعدد فيه الأديان والمذاهب، وآخر يسوده دين واحد ومذهب واحد، وهكذا مما يعني أن الخطر قد يدهم أي مجتمع لا يمتلك المناعة الكافية، ولا يتسلح بقوة السلم الاجتماعي المتين. دروس من التاريخ في المقاومة السلمية إن استقرار الأمة ونجاح الحركات الإصلاحية فيها رهين ببناء عقلية شورية وليس صورية، والتزام المنهج السلمي المدني كمبدأ في السعي السياسي للإصلاح والتغيير، فيجب أن ندرك أن الشورى في جوهرها مبدأ مفاهيمي تربوي يجب أن يترسخ في ضمير الأمة، وأنه ليس مجرد قضية هيكلية تنظيمية في تشكيل مؤسسات الحكم، وما تعرفه بعض الأقطار العربية الإسلامية ناتج عن عدم نضج الفكر السياسي، الذي يؤسس للوعي السياسي الجمعي للأمة من أجل تشكيل تيار المقاومة، مما يجعلنا نتألم لحال المسلمين في بعض الدول العربية التي تحولت من تيار المقاومة إلى تيار المهادنة والمساومة في قضايا الأمة كما يحدث في القضية الفلسطنية، فعوض أن تكون القمة العربية منصة الدفاع عن القضية أصبحت مدخلا من مداخل النزول بالقدس إلى الهاوية حتى فقدت الأمة العربية الهوية. إن الدرس الأساسي الذي يمكن أن نستلهمه من دراسة التاريخ أن المقاومة لا تتحقق بالعنف المضاد في مواجهة الغير، بل المقاومة الحقيقية في بناء الإنسان قبل العمران، وتحقيق الاكتفاء الذاتي للأمة في أكلها وشربها، فلا يعقل أن نفك الرهان مع الغرب ونحن لم نتمكن من صناعة نستغني بها عما يبيعه لنا بأثمنة عالية حسب رغبته… فالمقاومة الحقيقية أن تساهم الحكومات العربية في نشر الوعي الحضاري بين مواطنيها، بكل الوسائل التي تملك وتراها ترسل رسالة سريعة للناس لأننا في زمن السرعة، فمن يتتبع مجريات الأحداث بالغرب سيلاحظ أنه الغرب يعرف تطورات سريعة في حين دول العالم العربي والإسلامي تسير سير السلحفاة، والغالب عليها العنف المادي والمعنوي الممنهج حتى أصبح المواطن العربي عبدا للقمة العيش. وجهة نظر: لا يعقل أن يستخدم العنف في الأمة مهما كانت الأحوال بغية تحقيق مآرب سياسية، لأن المقاومة التي تقتضي الظرفية المعاصرة هي أن نقوي المناعة الفكرية ضد الفكر الذي يهدد القيم الإسلامية، والإصلاح لا يتم السعي إليه إلا بالأساليب المدنية الحضارية شورية وليس صورية. كما أن تقدم الأمة واستقرارها رهين بالسعي السلمي المدني ومنع العنف في طلب الإصلاح، وأن تطهر كل المجالات الحيوية للأمة من العنف المادي والمعنوي، فنريد سياسة بدون تزوير، واقتصاد بدون ربا أو احتكار، وصناعة قوية تغنينا عن الغير، وتعليما نحافظ به عن هويتنا الإسلامية، وتطبيب نضمن به المناعة والقوة في الدفاع إن اقتضى الحال… ثنائية الأمن والتقدم أية علاقة؟ يعتبر الأمن مقصدا أساسيا في تقدم الأمة ومؤشرا على قوتها، فلا يمكن أن نتكلم عن شيء اسمه الوطن في غياب الاستقرار والأمن، فهل يمكن لمستثمر أن يقدم على زيارة بعض الأقطار العربية (سوريا، ليبيا، مصر …) من أجل فتح مشاريع اقتصادية تنموية؟ بالتأكيد لا يمكن أن يفكر أي مستثمر في هذه المناطق نظرا لما تعرفه من اضطرابات وغياب للأمن وسيادة العنف، فمن هنا يمكن أن نحسم في العلاقة التي تربط التقدم والأمن، فلا تقدم بدون أمن لهذه الأمة، وعندما أتكلم عن الأمن فلا يجب أن نختزله في الحالة التي صارت إليها بعض الأقطار العربية كما هو الحال في سوريا مثلا، فالأمن يجب أن يفهم في شموليته، فالانتماء لأي قطر من أقطار الأمة يجب أن يستشعر مواطنوه بتمتعهم بكافة حقوقهم المشروعة، من تعليم جيد وصحة وعيش كريم، ويمكن أن نختزل كل هذا في الآية الكريمة من سورة قريش يقول الله تعالى: (فليعبدوا رب هذا البيت، الذي أطعمهم من جوع وآمنهم من خوف)، فلابد من توفير الأمن الحقيقي للمواطن داخل المجتمع. وعلاقة المواطن بأجهزة الدولة ينبغي أن تكون مبنية على الحب المتبادل والتعاون والثقة، وكل هذا سبيل التقدم والازدهار، فالمجتمع الذي يتوفر على الأمن والأمان ينعكس على سلوكياته ومنجزاته ويظهر على حركته الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، حيث يبعث الاستقرار في النفس روح الإبداع والسعي في الحفاظ على الهوية الوطنية، وأذكر لكم مثالا مما عشته في المهجر، يذكر لي أحد الأصدقاء من بعض الدول العربية التي غاب فيها الأمن، أنه يكره وطنه ولا يفكر في العودة إليه بصفة نهائية، وكل هذا بسبب غياب الأمن وانتشار الظلم، فعندما يغيب الأمن يغيب التقدم. يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من أصبح آمنا في سربه، معافى في جسده، عنده قوت يومه، فكأنما حيزت له الدنيا بأسرها)، فهذا الحديث يدل على أن الإسلام عظم من أهمية الأمن، لكن مع كامل الأسف نعيش في أوطاننا حالة من الخوف، فمن منا يستطيع أن يخرج في وقت متأخر من الليل في بعض المدن المغربية؟ ومن منا يذهب لبعض الإدارات لقضاء بعض أغراضه دون إحساس بخوف الرشوة أو ضياع وقته بسبب تهاون بعض الموظفين في تأدية واجبهم؟ ومن منا يستطيع أن يترك بيته مفتوحا؟ … فالأمن هو ذلك الشعور الفردي والجماعي داخل الوطن بالسكينة والراحة النفسية، وإشاعة الثقة والمحبة بين كل أفراد المجتمع رغم اختلافهم، فأين نحن من هذا؟ وفي ختام هذه التأملات أود أن أشير إلى أن تحقيق الأمن والاستقرار في الأمة يتطلب عملا جادا تجتمع فيه جهود كل أطياف المجتمع، فالسياسي يتعين عليه من موقعه أن يراعي في خطابه حاجة المواطن للأمن، وكذلك المرشد الديني، ورجل الأمن، والطبيب، والمعلم كل حسب موقعه وتخصصه، فكلكم راع ومسؤول عن رعيته كما جاء في حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم. وإلى تأمل أخر تقبلوا مني أسمى معاني الحب والتقدير.