حصل حزب العدالة والتنمية، في الانتخابات التشريعية التي شهدها المغرب في السابع من أكتوبر الجاري، على 126 مقعداً من أصل 395 وهو العدد الإجمالي لأعضاء مجلس النواب الذي يشكل الغرفة الأهم بالبرلمان المغربي حيث ينتخب الشعبُ أعضاءه بطريقة مباشرة. يمثل هذا العدد 32 في المئة من المقاعد، وهي أعلى نسبة يحصل عليها حزب في تاريخ الانتخابات البرلمانية بالمغرب، فحزب الاستقلال الذي كان يحظى بشعبية واسعة غداة الاستقلال لم تتجاوز نتيجته 29 في المئة في العام 1963. وعلى الرغم من أن أداء حزب العدالة والتنمية حجب حزب الأصالة والمعاصرة الموالي للنظام، إلا أن هذا الأخير تمكّن – بدعم من الإدارة الترابية التابعة للداخلية وخصوصاً عبر الشيوخ المختارين من الحكومة الذين قام الكثيرون منهم بالدعاية لمرشحيه – من الحلول في المرتبة الثانية مع 102 مقعداً (26 في المئة) معززاً حضوره في مجلس النواب بأكثر من الضعف.على الرغم من اعتزاز البام بخطابه الحداثي، إلا أنه حقّق أفضل نتائجه بالمناطق القروية حيث تتمتع الإدارة بنفوذ كبير على الناخبين، بينما يدلل فوز البيجيدي بالحواضر- وهو الحزب المحافظ – على ترسخ ظاهرة الناخب السياسي الذي لا تتأثر إرادتُه كثيراً بضغط السلطة أو بمال المقاول الانتخابي (يُقال إن ثمن الصوت بلغ حوالي 300 درهم). إذا كان البام والبيجيدي قد عززا نتائجهما بالمقارنة مع انتخابات 2011، فإن كل الأحزاب الأخرى قد تراجعت. فالاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية لم يتعدَّ العشرين مقعداً، وهي أسوأ نتيجة لهذا الحزب منذ تأسيسه في العام 1975. وهكذا فاليسارالبرلماني بجميع أحزابه لم يحصل إلا على34 مقعداً أي 8.5 في المائة فقط من مقاعد مجلس النواب. تظهر هذه النتائج أيضاً أن البام قضم قواعد الأحزاب الإدارية الأخرى باقتراضه القسري للأعيان المقربين من الإدارة، مع تراجع حزب الاستقلال من 60 إلى 44 مقعداً، وحزب الأحرار من 52 إلى 37 مقعداً، وبدرجة أقل الحركة الشعبية من 32 إلى 27 مقعداً. أما البيجيدي قد بنى قوته على أنقاض أحزاب الحركة الوطنية نظراً إلى أن ما يقارب تسعة من أصل كل عشرة مغاربة ولدوا بعد الاستقلال. لقد كان انتصار البيجيدي صادماً للنظام بكل المقاييس، لا سيما وأن وزارة الداخلية حاولت تهيئة الساحة أمام البام لتحقيق نتائج مؤاتية في الانتخابات. فقد ترددت الوزارة ذاتها عدة ساعات قبل أن تنشر نتائج الانتخابات مُحدثة توتراً، بل إن قيادة الحزب الإسلامي تخوفت من تعديلها فبادر زعيم حزب العدالة والتنمية، عبد الإله بنكيران، إلى إعلان فوز حزبه في وقت متأخر من الليل مرغماً الداخلية على إصدار النتائج الرسمية على مضض مباشرة بعد ذلك. الوزارة ذاتها لم تعلن لحد الآن النتائج التفصيلية بكاملها رغم أنها بحوزتها منذ صبيحة 8 أكتوبر. كما أن وزير العدل مصطفى الرميد، وهو قيادي بارز في البيجيدي كان يشارك في رئاسة اللجنة المركزية للإشراف على الانتخابات، هُمِّش دوره تماماً داخل اللجنة المذكورة قبل ثلاثة أسابيع من الانتخابات، حتى اضطر إلى اللجوء للفيسبوك للاحتجاج والتعبير عن رأيه. علاوةً على ذلك، عبّر وزير الداخلية محمد حصاد رسمياً عن استيائه الشديد من استباق حزب العدالة والتنمية الأمور وإعلانه النصر، ورأى في ذلك مؤشراً عن غياب الثقة بوزارة الداخلية. بل وصل الأمر بحصاد – وهو المرؤوس نظرياً من لدن بنكيران – إلى أن يصرح بأن هذا الحزب أي البيجيدي “ما زال يشك في الإرادة الراسخة لكل مكونات الأمة، وعلى رأسها الملك، لجعل الممارسة الديمقراطية واقعاً متجذراً وخياراً استراتيجياً لا رجعة فيه”. إن تخوف البيجيدي من أن تبادر الداخلية إلى تعديل النتائج راجع إلى تحليله لظروف تهيئة الانتخابات حيث ظهر وكأن العاهل قد تخلى عن حياده مهاجماً بنكيران بدون تسميته. ويُعتقَد أيضاً على نطاق واسع أن الملك يساند ضمنياً حزب الأصالة والمعاصرة الذي أسسه صديقه ومستشاره المقرب السيد فؤاد عالي الهمة. على سبيل المثال، سافر أمين عام حزب الأصالة والمعاصرة، إلياس العماري، برفقة الملك خلال زيارته الرسمية للصين في ماي الماضي، بل إنه وقّع (إلى جانب وزير الصناعة و التجارة مولاي حفيظ العلمي) اتفاقاً فائق الأهمية لإنشاء منطقة صناعية قرب طنجة من شأنها المساهمة في استحداث مئات آلاف الوظائف. وقد حظيت الزيارة بتغطية إيجابية من وسائل الإعلام الرسمية والمقربة من النظام مع العلم بأنه كان حرياً بالوزير المختص أو رئيس الحكومة أن يقوم بذلك التوقيع لوحده. أكثر من ذلك، شارك الملك بطريقة قوية في النقاش العمومي الحاد السابق للحملة الانتخابية، منتقداً رموز التحالف الحكومي الممانعين للهيمنة التقليدية للقصر على القرار التنفيذي. وهكذا فقد قرع محمد السادس تقريعاً شديداً، في خطاب العرش الذي ألقاه يوم 30 يوليوز، رئيسَ الحكومة عبد الإله بنكيران دون أن يذكره بالاسم حيث قال” إن ما يبعث على الاستغراب، أن البعض يقوم بممارسات تتنافى مع مبادئ وأخلاقيات العمل السياسي، ويطلق تصريحات ومفاهيم تسيء لسمعة الوطن، وتمس بحرمة ومصداقية المؤسسات، في محاولة لكسب أصوات وتعاطف الناخبين”. كان هذا ما قاله الملك مشيراً إلى تصريح أدلى به بنكيران في وقت سابق من شهر تموز/يوليو للموقع الإعلامي “الأول” وفحواه أن الحكومة لا تحكم حقيقة وأن هناك قوى أخرى تتحكم في القرار، في إشارة إلى مستشاري الملك، وعلى رأسهم السيد فؤاد عالي الهمة. كانت نتيجة هذا التنبيه الملكي لرئيس الحكومة أن صام بنكيران لأسابيع عن الكلام على غير عادته، خصوصاً وأن الحملة الانتخابية كانت في عز أوجها. لقد أصدر ديوانُ الملك، قبل أيام قليلة من انطلاق الحملة، بلاغاً رسمياً ينتقد فيه بكلمات قوية وزير الإسكان وأمين عام حزب التقدم والاشتراكية، نبيل بنعبد الله، وهو أقرب حلفاء بنكيران. كان هذا البلاغ رداً على تصريح لبنعبد الله يشير فيه إلى أن من “يجسد التحكم” في المنظومة السياسية المغربية هو “الشخص المؤسس لهذا الحزب [البام]”، ويعني به مجدداً السيد فؤاد الهمة. على الرغم من التشنّج الذي سبق الانتخابات، يمكن أن يُعزى النصر الذي حققه حزب العدالة والتنمية إلى روابط قادته الوثيقة مع الطبقة العاملة، ونظافة الكف التي يتمتع بها قادته، وإظهاره في صورة الضحية التي تتعرض لهجمات إعلامية شرسة. وهكذا فإن آخر ضحية لهذا التشهير قبل الانتخابات هو عبد الله بوانو، رئيس فريق البيجيدي بمجلس النواب الذي اتّهمته الصحافة بالزنى. لكن يبدو أن هذه الهجمات على بوانو قد أخفقت، فقد حسّن من نتائجه الانتخابية مقارنة بالعام 2011 بحصول لائحته في مدينة مكناس على ما يقارب الخمسين ألف صوت، وهو رقم عالٍ ونادر جداً. هذا فضلاً عن أن قرار الحزب اتباع مقاربة براغماتية في المسائل الدينية يأتي بثماره. يبتعد حزب العدالة والتنمية تدريجاً عن محاولاته السابقة لفرض قيمه الدينية على الآخرين، وهنا لابد من الإشارة إلى أن هذا التصرف البراغماتي قد ابتدأ من القيادة لينتشر شيئاً فشيئاً باتجاه القاعدة وأن مسار “التعلمن” الخطابي هذا قد تقوى منذ صعود البيجيدي إلى الحكومة في العام 2012، بل إن الحزب بدأ يتعرض للانتقادات بسبب ابتعاده عن الدين، ومنها ما جاء رداً على تصريحات الفقيه أحمد الريسوني، الرئيس السابق لحركة التوحيد والإصلاح والمقرب من البيجيدي، الذي أعلن تأييده لحذف الفصل 222 من القانون الجنائي الذي يمنع الإفطار العلني في رمضان. وصف حسن طارق، أستاذ العلوم السياسية في جامعة سطاط، انتخابات 7 أكتوبر بالزلزال السياسي الذي يؤذن “بدورة حياة جديدة للحزبية المغربية”. ينعكس ذلك في ارتقاء البيجيدي من تسعة مقاعد في البرلمان في العام 1997 إلى 126 مقعداً في العام 2016، إنما أيضاً في تقهقر الأحزاب اليسارية الذي يرجع بالدرجة الأولى إلى إدماجها داخل النسق الرسمي، وابتعادها عن العمل في الأوساط الشعبية والمدنية، وتهميشها للمناضلين والمثقفين واعتمادها في الانتخابات على الأعيان. وهكذا فإن فيدرالية اليسار الديمقراطي، وهي عبارة عن ائتلاف جرى تشكيله مؤخراً ويتألف من ثلاثة أحزاب صغيرة تنتمي إلى أقصى اليسار وتنتقد السيطرة الملكية على الحكم، يمكن أن تحمل تغييراً مهماً. وقد تقدّمت على اليسار التقليدي بمجموعه في الدارالبيضاء والرباط وعشر مدن أخرى رغم أنه لاتتوافر لها أية موارد مالية أو وسائل إعلامية. في غضون ذلك، قد تفرض شعبية بنكيران وقوة حزبه داخل المؤسسات المنتخبة وخارجها، على النظام القبول، خلال السنوات القادمة، بتفعيل تدريجي للدستور وتأويله تأويلاً أكثر ديمقراطية لاسيما في ما يتعلق بتوزيع السلطات. عن معهد كارينغي