وأخيرا وصل الموعد المنتظر وحل اليوم المشهود. فقد قررت هذا العام ألا أضيع فرصة العمر. و عزمت على أن أحضر في الوقت المحدد. كنت في أعالي الجبال حيث هموم الناس تتمحور حول النقص الحاد في مادة الحياة(الماء) ووعورة المسالك الطرقية وغلاء الأعلاف…، وتلك حكاية أخرى لا تهم هنا. لا أريد أن أفسد فرحتي وسعادتكم بحضور الحدث السنوي الأبرز، وربما الوحيد في حياة ساكنة إقليمأزيلال قاطبة: حدث مهرجان فنون الأطلس. أحضر هذا العام بشحمي ولحمي وعظمي لإعلان التوبة والأوبة وتقديم فروض الإعتذار وصكوك الغفران لمسؤولي المهرجان على المقال الناري الذي كتبته السنة الماضية، والذي بلغ عدد قرائه الآلاف. وقد تحدثت حينها عن " رقص المسؤولين على جراحات الإقليم"، وأشياء تافهة مماثلة من قبيل الميزانية الضخمة المرصودة للمهرجان وأولوية البنية التحتية وتوفير الماء الصالح للشرب… وتذكرون قصة السيدة العجوز من واويزغت التي غادرتنا إلى دار البقاء، رحمها الله. كنت أنذاك قاصرا ولم أبلغ سن الرشد بعد، وقد اعتمدت في صياغة مقالي على مصادر مطلعة من عين المكان، و لم أحضر شخصيا. و ها أنذا أكفر عن ذنبي، بعدما اتضح لي خطئي وسوء فهمي وعماء بصيرتي. أنا هنا لنقل الصورة الناصعة للحدث الأهم في تاريخ إقليم طالما وصفته، لجهلي، بالمنكوب! حقا وفعلا كانت مفاجأتي كبيرة وأنا أرى "مدينة الديناصور" وقد ملئت منصات، ليس طبعا لإطلاق الصواريخ نحو المحطة الفضائية الدولية، وإنما لإطلاق أهازيج ومواويل "فنون الأطلس". وتبقى السعادة الكبرى وصدمة الفرحة العليا هي رؤية منشطة تلفزيونية مشهورة وهي " تنشط" الحفل الإفتتاحي بابتسامتها الساحرة. تبدو فنانة صفراء فاقع لونها تسر الناظرين. قلت في نفسي كم كنت مخطئا؟! مهرجان يجعل أيت أزيلال يرون نجوم التلفاز أمامهم بالعين المجردة، ويلتقطون معهم "سيلفي العمر"، بعدما كانوا يرون فقط نجوم السماء، يستحق الإشادة والإحتفاء به والحج إليه! وفعلا فقد رأيت بأم عيني ما اعتبره زميل صحفي "غضب من البشر" كناية على العدد الهائل من بني البشر وهم من كل حدب ينسلون، خاشعة أبصارهم ترهقهم ذلة وهم يقصدون المنصات، كل حسب ذوقه، للإستمتاع بصنوف الغناء والرقص ألوانا وأشكال. قلت، مرة أخرى، في نفسي كم كنت مخطئا! فهذا مهرجان مبارك يوفر لساكنة الإقليم فرصة لنسيان آلام وهموم الشغل والصحة والتعليم والطريق وهلم جرا. ما ألطف وأحن وأروع مسؤولي الإقليم! يفكرون لأبناء وبنات إقليم شاسع بمساحة لبنان تقريبا في كيفية نسيان همومهم ومعاناتهم. أليس النسيان نعمة؟ إن ما أقنعني أكثر بكون مهرجان فنون الأطلس مباركا هو نزول المطر ودوي الرعد ووميض البرق. بالله عليكم أجيبوني عن مهرجان رومانسي يجمع كل هاته الصفات؟! نعم هطلت الأمطار وتشربت المنصات المياه وابتسم الديناصور ضاحكا. سألته: ما الذي يضحكك يا رمز أزيلال العظيم؟ فأجابني ونشوة الفرح بادية على محياه: أضحك على مجموعة بشرية صغيرة أتت بجواري لتنظيم وقفة احتجاجية ضد المهرجان. كان عدد أفراد الأمن أكثر من المحتجين. خفت أن لا يأتي الزوار لزيارتي وأخذ السيلفيات بجواري، ولكن وقع العكس تماما. فقد امتلأت المنصة بجواري ورقصت وتذكرت أمجاد أجدادي. متأكد جدا أنهم بعد بضع سنين سيبنون على تمثالي قبة عظيمة، وسيسمون المهرجان " موسم سيدي ديناصور". اندهشت من كلام مولانا الديناصور فشكرته على توضيحاته. وعندما هممت بتوديعه، نادني: يا جمال! التفت إليه متسائلا: ما بك يا رمز الإقليم؟ فأجابني باتسامة عريضة قائلا: شكرا لك على مقالك الذي خصصته لي مباشرة بعد تنصيبي رمزا لأزيلال. واسمح لي أن أعبر عن عدم اتفاقي معك في تشبيهي ببعض السياسيين والمسؤولين في الإقليم. فأنا يا صديقي أتوا بي عنوة بعد انقراضي بملايين السنين. فأنا لم أفرض نفسي على أحد، ولم أسرق مال أحد، ولم أضيع مصالح أحد… فقد ظلمتني بتلك المقارنة. لم أترك الديناصور يكمل كلامه، فاعتذرت له وغادرت. لم أرد أن أفسد فرحة المهرجان بالحديث في السياسة. ما دام الهدف من هذه المقالة القصيرة هو الإعتذار عما بدر مني العام الماضي، وإظهار أهمية وبركة مهرجان "سيدي ديناصور"، فقد ارتأيت أن أستطلع أراء كل الذين صادفتهم في طريقي: ما رأيكم في المهرجان هذا العام؟ فكانت الفرحة والسعادة بادية على محيا الأطفال والشباب والشيوخ. و قد عبرت أقلية قليلة عن غضبها وعدم رضاها عن المهرجان، كمجموعة من الشباب جاؤوا من دواوير بعيدة، أعرف بعضهم يقطن بجماعة واولى . سألتهم: أستمتعتم بفقرات المهرجان؟ فأجابوا جميعا: المهرجان زيرو! فبادرتهم بسؤال مفحم: لماذا أنتم هنا إذن؟ فأجابوا: من أجل المطالبة بحقنا في الشغل. قهقهت بأعلى صوت مستهزئا: المطالبة بالشغل في مهرجان فني؟! لا شك أنكم فقدتم عقلكم. مع السلامة! خلاصة القول في مهرجان "سيدي ديناصور": لا يمكن أن ينكر شعبية وجاذبية وسحرية وأهمية وبركة مهرجان فنون الأطلس إلا جاحد أو حاقد أو غير راشد، كما حدث معي العام الماضي، فقد رأيت بعيني المجردة، وبدون نظارات، جحافل بشرية من الشيوخ والعجائز ناهيك عن الشباب وهم يتأبطون كراسيهم وهم يقصدون المنصة الرئيسية للظفر بالمقاعد الأمامية للإستمتاع بالسهرات الفنية. بعضهم يرابط هناك منذ العصر في انتظار بداية الحفلات بعد منتصف الليل! أما اقتصاد المدينة فقد عرف رواجا منقطع النظير. وقد كنت أبحث، رفقة بعض الأصدقاء، عن "الحرشة" فلم نجد لها أثرا في جميع محلات المدينة. نعم فقد تم التهام المخزون المحلي من "الحرشة" كاملا! وقد امتدت بركة "سيدي ديناصور" إلى "جبل إحاحان" حيث أطلق عليه البعض " جبل عرفة" لوقوف الحشود البشرية به على طول أيام وهم يتابعون أشواط لا تنتهي من الخيل والبارود. وقد وجدت حصانا منزويا يلتحف "ميكة". أعجبتني الفكرة فالتقطت له صورة. وعندما أدرت ظهري للمغادرة ناداني: جمال! يا إلهي! من أين يعرف هذا الحصان العجيب اسمي؟ قلت مرتجفا: نعم. فرد سريعا: تعلى! فاقتربت منه، وبدأ يحكي لي قصته: لا شك أنك تعجبت عندما رأيتي التحف بهذه "الميكة" بعد أن ظننتها قد انقرضت. ألم ينقرض الديناصور قبلها بملايين السنين؟ فلماذا يتم نصب تذكار له وسط المدينة؟ ثم لماذا يخططون لبناء قبة على تذكاره، وتحويله إلى "قديس"؟ أليس الحصان أولى منه؟ لماذا نتحمل شظف العيش وضيق ذات اليد والأعمال الشاقة طيلة السنة، ثم يتم تكريم الديناصور، الذي لم يقدم شيئا للبلاد والعباد؟ ما هذه العنصرية المقيتة؟ أسمعت ما الجديد؟ قلت: لا. أخبرني! فقال: سمعت أنهم سيفرضون على الفرسان الحصول على البكالوريا بداية من المهرجان المقبل. أليس هذا ظلما؟ بربك، كم من مسؤول جماعي في الإقليم حصل على الباك؟… أحسست بدوار في رأسي وصرخت في وجه الحصان: كفى! لا أريد أن أستمع لترهاتك. فقد تبت من السياسة. أريد فقط أن أقول أن المهرجان ضروري ومهم وأساسي ومركزي ولا يمكن الإستغناء عنه. أما حديث بعض المتزمتين عن التكلفة المادية و نوع الفن وقيمة الفنانين وأولوية التراث المحلي… فلا تهمني في شيء. وكل عام ورواد مهرجان سيدي ديناصور في نور وسرور وحبور حتى يستطيعوا أن يتأبطوا كراسيهم باكرا، ليلا ونهارا، بردا وحرا!