إن القوى القامعة للحرية لا تنحصر في قوى الدولة العميقة، وإن كانت هذه القوى تمثل طبيعة القمع وجوهره المتعفن، بل تتعدى ذلك لتخترق قوى المجتمع الممانعة، والتي تدعي في آدبياتها السياسية وشعاراتها أنها مناهضة لمركب الاستبداد والفساد والتبعية. يقول مؤسس مدرسة التحليل النفسي سيجموند فرويد في قولة جامعة مانعة:" أنت لا تحارب عدوا مدة طويلة إلا انتهيت بمشابهته"؛ بمعنى أن الضحية الذي يقاوم جلاده لفترة طويلة، غالبا ما يسقط في النهاية في حالة انبهار، تفضي إلى تقمص صورة الجلاد، وتشخيص أدواره لأهداف أخرى وسياقات مختلفة. وقد نجد تجليات القوى القامعة للحريات خارج نمط قوى الدولة العميقة، وداخل قوى المجتمع الممانعة، يتحدد ضمن الكثير من المقولات السياسية، التي يخرجها اللاشعور السياسي من حالة الإمكان والخفاء إلى حالة الواقع والتجلي.. فأطروحة "المستبد المستنير" التي ينقلها بشكل متعسف الفاعل السياسي الحداثي، من قاموس التنوير في مراحله الطفولية، ليمارس بها شغبه الاستبدادي ويمد بها نفسه الإقصائي، درأ للخطر الأصولي الماحق الذي في نظره لا يبقي ولا يذر، في وقت يعرف فيه التنوير تراكما معرفيا هائلا، بلغ درجة دعوته إلى فلسفة تواصلية، تروم تحرير الفضاء العام من كل أشكال الإقصاء الفيودالية، وتدشين مرحلة صناعة فن العيش المشترك في اطار الديمقراطية التعاقدية والتشاركية.. وأطروحة "المستبد العادل" التي تحملها بعد التيارات المحافظة ذات النزوع السلفي، الغارقة في كهوف التاريخ والباعثة لقيوده وفتنه المذهبية والطائفية، ذرأ للضلال العلماني وتفسخه كما تعتقد، في وقت بدأت ترتفع فيه أصوات الكثير من الإسلاميين الديمقراطيين مؤكدين على ضرورة التجديد الديني والاصلاح السياسي وترسيخ قيم الحرية والاختيار، ونبذ قيم العنف والإكراه. في ظل تعدد القوى القامعة للحرية من كل الاتجاهات، يصبح الحراك الاجتماعي والسياسي في مدخلاته ومخرجاته ملتبسا، ولا يهدف حقيقة إلى إنهاء ليل الاستبداد البهيم، ولكن فقط التداول على كرسيه. فكل مكون سياسي أو فكري يحمل مستبده داخله ولو بألف صورة وقناع، ويكتفي بممارسة التعتيم والتمويه حتى لا تنكشف مقاصده ومساقاته. ولن نتحرر جميعا من عار مركب الاستبداد والفساد والتبعية، وننتزع مصداقيتنا السياسية ومشروعيتنا النضالية إلا بتمزيع كل أقنعة الاستبداد الظاهرة والباطنة، والإقرار بحق الوجود العادل للجميع، وإبداع فنون جديدة في صناعة العيش المشترك.