لماذا أصبح طائر الخبل يحتل مساحات كبيرة من سماءنا الداكنة، وصار لحنه الجنائزي يملأ كل المكان؟!.. لماذا لم يعد طائر الفينق ينهض من رماده يقاوم الفناء؟!.. ولماذا لم يظهر طائر المنيرفا " المعرفة" وقد اشتد الغسق؟!!. هل أصبح الوطن مفرغا من وطنيته بلا عقل ولا فؤاد ولا بصر، مجردا من حواسه الخمس؟! هل ينبغي أن ننسى كل شيء جميل حلمنا به ذات ربيع دافئ مفعم بكل معاني الحرية والكرامة والعدالة الاجتماعية، ونسلم أرواحنا وأجسادنا لقدر شتاء قارس، مع ما يتطلبه ذلك من تعريض ذاكرتنا المثقلة للنسيان؟! نحن اليوم نواجه خصما عنيدا لامرئي، يمتزج بالعتمة وبارع في فن الخداع وارتداء الأقنعة، يسميه البعض بالتماسيح والعفاريت، ويسميه أخرون بالتحكم، ويسميه البعض بالدولة العميقة، إمعانا في الغموض وخلطا للأوراق، حتى صار الجميع يمارس البلطجة السياسية في النهار ويلعنها في الليل!. لقد جاء هذا التعيين الحكومي ليذكرنا بهشاشتنا وكأننا كائنات رخوية مفرغة من إنسانيتها، خرجت ذات حراك عشريني لتملأ كل الساحات الفسيحة، لكن كل شيء انتهى اليوم، وعدنا إلى القمقم الذي ولدنا فيه ونشأنا بين جداره المعتمة، عدنا إلى زمن الصمت المتباطئ؛ صمت الغياب وصمت المقابر، وصمت البرك الراكدة!. في أرض التعيين الحكومي "أرض المحشر والمنشر" الأجواء رهيبة، الصمت يسكن الأجساد، الوجوه شاحبة، تتوقف في مكان معلوم وكأنها جدار يخفي ما وراءه، تؤدي طقوسها بتفان واتقان ثم تغادر المكان، وقد استجمعت عقد الرضى من كل جوانبه، لتتسلم مفاتيح وزارات تخدم السياسات ولا تمارسها، كما تسمح تقاليدنا السياسية العريقة، ولسان الحال يناديهم أيها المارون بين الحكومات العابرة، أنتم الآن واجهات لجهات نافذة، خذوا حصتكم من أموالنا من صحتنا من تعليمنا من خبزنا من حريتنا ومن دمنا.. ثم انصرفوا ..! لكن ماذا يعني أن تكون وزيرا في هذه البلاد السعيدة؟!.. في مخيلتنا الشعبية أن تكون بحجم عقل عصفور وجسم فيل، قصير القامة لا تستطيع الإنتصاب، ترى بنظارة حكومية ما ينبغي أن تراه، بارع في التمويه والذرائعية واستدعاء نظرية المؤامرة، لا تقرأ ولا تكتب إلا التقارير الحكومية التي تكتبها لك الجهات الوصية.. هكذا تمارس مخيلتنا الشعبية لعبة الإخصاء في حق من نهبوا ماله العام ومنعوه حقه في الحرية والكرامة والعدالة الاجتماعية!.. في أرضنا المبللة بالرطوبة وسماءنا الداكنة، يبدأ طائر الخبل عزف نشيده الجنائزي، معلنا موت السياسة العليا، وميلاد سياسة دنيا، تتشبث بأهداب البلاهة والاستنقاع السياسي، والاستمرارية ولو في جحر سياسي قذر تفوح منه رائحة الجرذان والصراصير والحشرات، وتدور مطحنة القمع في زمن التدشين الحكومي، منذ اليوم الأول دورتها المقرفة، وكأننا حبة حنطة تسحقنا الواحد تلو الأخر، لتختلط الألوان الوردية التي تعرض في الإعلام المؤمم، بالألوان الرمادية التي تعرض في الشارع العام، ليكون نصيب "حركة الممرضين من أجل المعادلة" المتظاهرة بشكل سلمي من أجل تحقيق ملفها المطلبي العادل شرف أول قمع ومطاردة، كما كان لغيرها من الأساتذة المتدربين والمعطلين في زمن الحكومة السالفة.. تستمر طيور الخبل في إطلاق صيحاتها المشؤومة معلنة بلغتها بداية زمن النهايات بامتياز! في المغرب المصنف ضمن الدول الهجينة، أي التي تعيش زمنا ما قبل الزمن الديمقراطي، تتحول المناصب الوزارية إلى ريع سياسي، ويحمى وطيس الصراع عليها بين الفرقاء، فمن أعطيها رضي، ومن حرمها سخط، وتتناسل الوزارات حتى يصير لكل وزير وزيرا شبحا وكتاب عامون للدولة، ليصل الرقم تسعة وثلاثون وزيرا، يتجاوز عددهم عدد وزراء الدول الكبرى في العالم، وما ذلك إلا تكريسا لمغرب الأعيان كما رسخته الحماية الفرنسية من قبل، واستمرت السياسة المخزنية على منواله من بعد! سيبقى طائر الخبل يعزف لحنه الجنائزي طالما هناك رائحة الموت تملأ سماءنا الداكنة.. ولكن السؤال الإشكالي المحير هو متى سيعود طائر الفينق لينبعث من رماده مادام أن لكل حق مطالب.. ومتى سيظهر طائر المنيرفا وقد اشتد غسق الليل؟!..