عشية انطلاق الاحتجاجات الشعبية في المدينةالتونسية الصغيرة "سيدي بوزيد" عقب احراق البوعزيزي نفسه احتجاجا على اهانة شرطية له، لم يكن احد يتوقع ان تتطور تلك الاحتجاجات الى ثورات شعبية فر فيها من فر، وتخلى فيها عن الحكم من تخلى، وقتل من قتل من الزعماء العرب الخالدين في كرسي الحكم، وبقي من بقي يدمر شعبه ، قبل ان تأتي موجة مضادة لهذه الثورات وتحول الدول العربية الى ساحة صراع دموي مرير تزعمته سوريا التي اصبحت نموذجا يراد تسويقه عربيا لثني اي شعب عن التفكير في التغيير السياسي والمطالبة بالحرية والعدالة والكرامة. في ظل هذه الاجواء كانت الانظار متجهة الى المغرب الذي اختار طريقا مختلفا في تعاطيه مع ثورة الشباب حيث استجاب الملك في خطاب 9 مارس لبض مطالب حركة 20 فبراير التي فاقت بكثير مطالب الاحزاب السياسية وأحزاب الكتلة حول الاصلاح السياسي، وهو الطريق الذي توج بدستور 2011 المتقدم كثيرا عن السابق، والذي مهد الطريق لوصول جزء من الحركة الاسلامية الى السلطة. واستمر هذا الاستثناء المغربي في لحظة دقيقة ومريرة تم فيها الانقلاب على كل التجارب الديمقراطية في العالم العربي (مصر، تونس، ليبيا، اليمن...) لتنجو حكومة يقودها حزب العدالة والتنمية ذي المرجعية الاسلامية وتستمر في تدبير الشأن السياسي الى آخر سنة من عمرها قبل انتخابات 7 اكتوبر المقبل 2016. ولئن كان واحد من اهم اسباب نجاح المغرب في الحفاظ على تجربته واستقراره في محيط مضطرب يعود الى الاجتهادات والمراجعات المبكرة التي قام بها بعض قادة الحركة الاسلامية المغربية المشاركة سياسيا حول نظرتهم للعمل السياسي وللمجتمع وطريقة التعاطي مع النظام الملكي، فإن سبب ذلك ايضا يعود ربما الى إدراك الملكية لأهمية الحفاظ الى التجربة في تحقيق خطوة ديمقراطية تؤجل الاحتقانين السياسي والاجتماعي في البلد. وبعد النجاح النسبي لتجربة ائتلاف حكومي يقوده حزب ذي مرجعية اسلامية، يرجح أن المؤسسة الملكية اقتنعت اليوم بإمكانية الرهان على هذه التجربة لتحقيق اقلاع اقتصادي وسياسي يؤهل المغرب للدخول في نادي الدول الصاعدة والمنافسة اقليميا ودوليا لحل مشكلة الصحراء المغربية والدفاع عن مصالحه الحيوية في محيط جيوسياسي متوتر يتصارع فيه النفوذ الدولي في حدود ما تسمح به الصهيونية العالمية التي تخطط وتحرص على امر واحد: هو بقاء دولة الكيان الصهيوني الاقوى على حساب ضعف كل الدول العربية والاسلامية، (بل كل الدول المناهضة للكيان الصهيوني العنصري كدول امريكا اللاتينية التي يتم الانقلاب على تجاربها وآخرها البرازيل) ، ولو كان ذلك بما سمته امريكا "الفوضى الخلاقة" التي من اهم اركانها الابقاء على الصراع الطائفي والسياسي والاجتماعي داخل هذه الدول والمحيطة "بإسرائيل" اساسا. وعليه وبالنظر الى هذه الحدود المرسومة صهيونيا فإن التجربة المغربية مراقبة بشدة من قبل الفاعل الغربي لكي لا تنفلت كما حدث في تركيا بما يجعل المغرب دولة تملك قرارها الاقتصادي والسياسي والعسكري وتصنع سياستها الخارجية وفق ما تمليه مصلحتها هي، خصوصا وان الغرب يرى وصول حزب ذي مرجعية اسلامية الى السلطة فعليا في انتخابات قادمة، بما فيه التوافق مع المؤسسة الملكية برمزية "إمارة المؤمنين" ، يراه بمنظار الصراع التاريخي مع المسلمين وتاريخ المغرب القوي على عهد المرابطين والموحدين وبعض الملوك العلويين، ودوره التاريخي في الاندلس ضد حروب الاسترداد، ومعركة الزلاقة، ومعركة وادي المخازن والقوة المغربية الضاربة في البحر التي جعلت صلاح الدين الايوبي يعتمد عليهم في حرب تحرير فلسطين ، ومقاومة الاستعمار الحديث مثل مقاومة محمد بن عبد الكريم الخطابي وغيره... الخ. ان استحضار الغرب لهذا التاريخ وللموقع الجغرافي المؤثر للمغرب وقوته الناعمة دينيا يجعله في تعاطيه مع اي تغيير يقع في المغرب اليوم يجعله يبذل جهودا في تحجيم تجربة "الاسلاميين" في السلطة والحد ما أمكن من نجاحها الكبير وبالقدر الذي لا يسمح للمغرب ان يصبح بالفعل دولة قوية تفرض اختياراتها على الاوربيين وامريكا وتشكل نموذجا تحتذي به باقي الدول العربية. وتزداد الضغوط الغربية اكثر على المغرب للتراجع على تجربة دستور 2011 عندما تشعر هذه الدول ان هناك اقتناعا من المؤسسة الملكية بصفتها اعلى سلطة في البلد بهذه التجربة، لتنتقل الضغوط لتمارس على اعلى سلطة لثنيها عن المضي قدما في انجاح المسار ونحن على بضعة اشهر من الانتخابات التشريعية ل7 اكتوبر 2016. فما راكمه المغرب طيلة الاربع سنوات الماضية من تجربة دستور 2011 وخصوصا في العلاقات الخارجية وتحديدا التوجه الجديد للخارجية المغربية التي تدار جل ملفاتها داخل القصر حيث انتقلنا من سياسة استسلامية، الى سياسة تتخذ القرار مثل رد الفعل على تصريحات بان كيمون وسحب بعثة المينورسو وقبل ذلك رد فعله على فرنسا بسبب مذكرة التوقيف التي حركت ضد رئيس جهاز المخابرات (D S T) وتعديل الاتفاقية القضائية بين البلدين وحديث رئيس الحكومة المغربية عن الاحترام الذي بات يلقاه المسؤولون المغاربة في فرنسا و اوروبا والزيارات الملكية لروسيا والصين والهند، فضلا عن تصاعد دور المغرب في قضايا التصدي لما يسمى الارهاب وغيرها ... كل ذلك جعل الغرب يوجه رسائل الى النظام المغربي مفادها انك بدأت تتجاوز الخطوط المرسومة سلفا وهذا ما لن نسمح به. فخارجيا يعتبر تقرير الخارجية الامريكية الاخير حول حقوق الانسان بالمغرب واحد من تلك الرسائل، والتحرش بالصحراء المغربية من خلال الامين العام للأمم المتحدة "بان كيمون" الذي تتحكم به في النهاية الولاياتالمتحدةالامريكية ايضا رسالة في الاتجاه نفسه. و بث قناة "فرانس 3" الفرنسية لوثائقي، عن الملك محمد السادس، يتناول ما اعتبره معدّ البرنامج، الصحافي الفرنسي جان لويس بيريز، الحياة السرية للملك وثرواته المالية رسالة في هذا الاتجاه ايضا. فإذا اتفقنا نحن الشعب المغربي على وجود ثروة مالية وغيرها، فإننا متفقون ايضا على ان فرنسا واعلامها انتج الوثائقي لمصلحتها وليس لمصلحة الشعب المغربي مطلقا. والا فالثروة المفترضة التي يريد الوثائقي الفرنسي الحديث عنها واسرار الحكم ليست وليدة اليوم؟ ولفرنسا دور سلبي للغاية في صناعتها، فلماذا اليوم بالذات؟؟ مشاكلنا الداخلية نعرفها ونعرف طرق معالجتها. فيكفينا من التدخل الاجنبي ويكفي من المعايير المزدوجة التي شعارها "افضحك إذا اردت ان تخرج تحت إرادتي، واسكت عنك إذا كنت مطيعا لي". وداخليا من اهم هذه الرسائل ايضا حصول تيار التحكم على اموال اجنبية واخرى مجهولة المصدر لتأسيس دفعة اعلامية متعددة تخدم هدف النكوص عن التجربة المغربية الوليدة مع دستور 2011 عبر الكذب وصناعة الوهم وتسويقه وتزييف الوعي على غرار الدور الخبيث الذي قام به الاعلام المصري للوصول الى انقلاب عسكري تحت مسمى "ثورة 30 يونيو". ومنها حملة اثارة قضايا هامشية وجزئية مما له صلة بما يسمى الحريات الفردية، وحركة "ماصايمنيش" والمثليين، والدعوة الى تقنين عشبة 'الكيف" والى سن قوانين تسمح بتدخينها في المقاهي المغربية !! واتهام قناة وإذاعة محمد السادس بنشر التطرف، وما حدث بملف الاساتذة المتدربين والاعتداءات المتتالية على بعض المستشارين الجماعيين، وحملة منع الانشطة الخيرية والجمعوية بأساليب ما قبل دستور 2011 ، كلها رسائل تدل على ان هذا الصيف سيمر ساخنا ويزداد سخونة كلما اقتربنا من انتخابات 7 اكتوبر التي تفوق في اهميتها وخطورتها انتخابات 24 نونبر 2011، بالنظر الى كونها انتخابات إما ان تكرس الثقة التي استعادها جزء كبير من الشعب في السياسة والاتجاه نحو مزيد من البناء الديمقراطي والاصلاح السياسي ، واما ان تكرس النكوص والتراجع الذي بدأ فعليا بما يفقد الثقة نهائيا في اي تغيير سلمي وبالتالي الخيار الاخر وهو التغيير الجذري عبر الصراع والاحتقان السياسي والاجتماعي ومخاطر ذلك على تفكك البلاد. امام كل هذه المعطيات يمكن القول: 1 ان المعركة في العمق تجري اليوم بين تيارين: تيار الديمقراطية وبناء المغرب المتعدد والقوي، وتيار الاستبداد وهدم المغرب للمصلحة الخاصة والاجندات الخارجية. فالأمر لم يعد تدافع ايديولوجيات كما كان سائدا قبل ثورات ما عرف "بالربيع الديمقراطي"، بدليل تحالف حزب العدالة والتنمية ذي المرجعية الاسلامية وحزب التقدم والاشتراكية ( الحزب الشيوعي سابقا )، بل ان التدافع اليوم هو من جهة بين من يؤمن بالديمقراطية ودولة المؤسسات والذي يضم الى جانب الحزبين المذكورين والمتناقضين ايديولوجيا، شرفاء ووطنيو حزب الاستقلال في تيار "بلا هوادة"، وخصوصا بعد اليقظة المتأخرة لتيار شباط ضد التحكم، وتيار المرحوم أحمد الزايدي في الاتحاد الاشتراكي الذي اسس مؤخرا حزبا سياسا جديدا، والبعض الاخر الذي لم يظهر بوضوح، ومن جهة أخرى تيار البؤس والاستبداد والتحكم الذي يعبر عنه اليوم حزب الجرار وما يلحق به ويرتبط به من شبكات ولوبيات اقتصادية واعلامية. 2 أن المغرب كدولة يتعرض لضغوط دولية من قبل امريكاوفرنسا والغرب عموما ودوائر المخابرات الدولية الصهيونية لثنيه على مواصلة مسار البناء الديمقراطي، وان تجربة المغرب وما افرزته من توافقات حزبية مختلفة ايديولوجيا وبين "الاسلاميين" والقصر، هي تحت المجهر الدولي ووكلائه الداخليين، وان كل الاحتمالات واردة في انتخابات 7 اكتوبر 2016 بما فيها التراجع عن هذه التجربة بالتزوير المقنع مثل الضغط لتخفيض العتبة، وعدم الاعلان عن النتائج النهائية لانتخابات 4 شتنبر 2015 الا بعد الحاح متكرر من قبل رئيس الحكومة، والتصريحات التي تسبق اتهام الحكومة انها ستزور الانتخابات لصالح حزب المصباح !! والتزوير المباشر، ولا قدر الله الاغتيالات والسجن، ونحن هنا لسنا بصدد التخويف وانما بصدد قراءة الواقع واستشراف المستقبل من اجل توقع كل الممكنات لمزيد من التعبئة الشعبية للحفاظ الى التراكم الايجابي لما بعد دستور 2011. استنادا الى ذلك فالمخرج الممكن للحفاظ على ما راكمه المغرب منذ سنوات بما فيها تجربة التناوب التوافقي التي قادها حزب الاتحاد الاشتراكي وتجربة ما بعد دستور 2011 ، هو توسيع الاجماع الداخلي حول المضي قدما في البناء الديمقراطي والمؤسساتي، وبناء مزيد من التحالفات الممكنة مع الاحزاب الوطنية، ورفع الوعي الشعبي عبر مزيد من اشراكه واطلاعه على خبايا ما مرت منه التجربة الحكومية الحالية من تحديات ومواجهات واخفاقات واسبابها، والعوامل التي جعلتها تستمر وسط عاصفة الانقلابات على كل التجارب في كل الدول العربية. لقد آن الأوان لتصبح قضية الديمقراطية وبناء دولة المؤسسات اولوية لا تقل اهمية عن قضية الصحراء المغربية، لأنها الوسيلة الوحيدة لحل هذه قضية الوحدة الترابية واسترجاع سيادة القرار الوطني في قضايا كبرى على رأسها التعليم كمدخل لبناء مجتمع ودولة قويين. إن اي تراجع او نكوص عن مسار الديمقراطية وبناء دولة المؤسسات يعني نتيجة واحدة هي عودة المغرب الى الفشل والى الماضي الاليم الذي اوصل المغرب الى ما سمي حينها "السكتة القلبية". والخطير ان احتمالات الخروج منها هذه المرة شبه منعدمة حيث لن يبقى سوى سيناريوهات الحلول الجذرية وما يرتبط بها من صراع دموي على السلطة يؤدي ثمنه في النهاية المجتمع كله وتصبح فيه مخاطر تقسيم البلد اكثر في ظل مناخ دولي اصبح يستند بشكل كبير على نظرية" الفوضى الخلاقة" التي هي في النهاية دعم الطائفية والعرقية والمذهبية لتنفيذ مخططات تجزيئ وتفتيت المنطقة بطريقة اسوأ من اتفاقية سايكس بيكو.