لم يكن حادث اقتحام حمام بحي شعبي، بمقاطعة اليوسفيةبالرباط الأسبوع الماضي، سوى حلقة واحدة ضمن مسلسل رعب طويل يعيش السكان تفاصيله بشكل يومي، وتتنوع عناوينه بين «الكريساج» والاعتداء على الممتلكات، والترهيب والترويع بالسيوف، من قبل مجرمين وعصابات أصبحت تفرض على قاطني عدد من الأحياء الشعبية بالرباط ولوج منازلهم مبكرا. هذه الأحياء أصبحت وفق التصريحات المستقاة من فاعلين سياسيين وجمعويين، ومواطنين عاديين، تحت رحمة مجرمين وذوي سوابق، ينكلون بضحاياهم بسادية غريبة، ودون خوف، لعلمهم أن نسبة قليلة من الضحايا هي من تملك الشجاعة الكافية لتقديم شكاية للأمن، وذلك خوفا من رد فعل انتقامي، وهو ما يفسر لماذا يستقبل خبر اعتقال بعض وجوه الشر بالمنطقة بالزغاديد لأنه يشكل فعلا حدثا يستحق الاحتفال. ألقابهم معروفة وغريبة، ومجال تنافسهم يتوزع بين سلب الجيوب وتشويه أجساد، ووجوه مغاربة من أبناء جلدتهم، ممن حكمت عليهم الظروف أن يقطنوا بأفقر أحياء العاصمة، بمقاطعة اليوسفية التي تضم حوالي 450 ألف مواطن يتجرعون في صمت «حكرة» طواغيت يفرضون هيبتهم بالسيوف، والمديات، والندوب. حاليا وفي شكل انتفاضة صامتة، أخد العشرات من السكان المبادرة، وشرعوا في توزيع عرائض احتجاجية لجمع أكبر عدد من التوقيعات، في أفق تنظيم وقفة احتجاجية، ف»الكريساج» ..أصبح بالنسبة إليهم مثل وباء خطير اجتاح المنطقة، ليفرض على السكان ولوج منازلهم مع ساعات الليل الأولى، فمباشرة بعد صلاة العشاء يغلق الآلاف من قاطني هذه الأحياء أبوابهم بإحكام، ويرددون في دواخلهم دعاء «الله يخرج هاد الليلة على خير». غول في أحياء الرباط الهامشية «الكريساج» تحول إلى غول حقيقي يرعب السكان كما يقول أحد قاطني حي أبي رقراق، بالنظر لسلسة الحوادث التي تقع بشكل يومي، والتي تأخذ في بعض الأحيان طابعا ترويعيا كما وقع الأسبوع الماضي، بعد أن اقتحمت عصابة حماما شعبيا، وقامت برسم توقيعها على وجه أحد رواده في إطار تصفية الحسابات، كما شهدت المنطقة ذاتها، في الأسبوع الأول بعد عيد الفطر معركة حامية بين تاجري مخدرات، امتدت آثارتها لتلحق جروحا بمواطنين أبرياء تمت مطاردتهم بالأسلحة البيضاء. المصدر ذاته أفاد بأن الأمر لم يعد يقتصر على «الكريساج» بشكل فردي، بل «أصبحنا نشاهد عصابات متعددة الأفراد، وهذا هو منبع الخطورة، ما أعاد المنطقة إلى عهد العصابة التي كان عدد أفرادها يتجاوز 14 شخصا، منهم من كان يضع اللثام في تنفيذ عملياته، ما جعل العصابة تستحق لقب»الملثمين»، قبل أن يقع أفرادها في قبضة الأمن»، - لكن السكان يضيف محدثنا- «سيبلعون» حرقتهم وسيجدون أنفسهم أمام صدمة قوية، حيث ظهر عدد من عناصر العصابة من جديد بالمنطقة بعد خروجهم من السجون مباشرة بعد شهر رمضان. المصدر ذاته أكد أن معظم من يقعون ضحايا لهذه العناصر الإجرامية، والعصابات، يحجمون عن تسجيل شكاية في الموضوع لخوفهم من انتقام بشع قد يطالهم بشكل شخصي، أو أي فرد من أفراد الأسرة، وهو ما زاد من جبروت بعض العناصر الإجرامية، وقال «الآن أصبحنا أمام خيارين أحلاهما مر، إما الرحيل، أو حمل السلاح الأبيض للدفاع عن أنفسنا، ويا فيهوم، يا فينا». وطاويط الليل والنهار عدد من العناصر الإجرامية بأحياء اليوسفية لا تترد في إشهار مديات وسيوف لسلب المارة والمواطنين ممتلكاتهم خاصة في ساعات الصباح، ومع حلول الليل، فيما بعضهم يطالب التجار بدفع إتاوات يومية ليتحولوا إلى كائنات تمتص دماء عدد من المواطنين البسطاء، من أجل ضمان مال لشراء المخدرات والكحول، والأقراص المهلوسة. أحد هؤلاء الضحايا بقال بسيط، رسمت على رأسه قبل أسبوعين ثماني غرز بواسطة مدية، بعد أن رفض دفع الواجب اليومي لأحد «المساخيط» المعروفين بالحي، والحكاية بدأت حين كان الضحية يستعد لفتح محله قبل أن ينتصب وراءه ظل نحيل، لشاب في العقد الثاني يضع قبعة رياضية، طالبه بالدفع ليجيب الضحية بأنه «مازال على الله»، والبقية كانت معروفة، وبلون أحمر، بعد أن سالت دماء البقال على باب محله ليجد نفسه مضطرا لخياطة جرحه، قبل العودة للبحث عن رزق أطفاله. هذه الأحياء عاشت قبل أربع سنوات نوعا من الهدوء بعد أن أعلن عدد من وجوه «الشرع» المعروفين توبتهم، وهي توبة جاءت بعد أن روعوا على امتداد سنوات سكان المنطقة، واصطادوا عشرات الضحايا في مختلف أنحاء العاصمة، قبل أن يقرروا على التوالي توديع الإجرام، إما لأنهم تقدموا في السن بشكل لم يعد يسعفهم على البطش بالناس، أو لأن سنوات السجن الطويلة أنهكتهم، أو لأنهم لم يعودا قادرين على المنافسة لضمان نفوذهم ضمن خارطة الإجرام بالمنطقة، بعد أن ظهر جيل جديد لا يتورع عن ارتكاب فظاعات خطيرة، تصل حد تدمير الممتلكات العمومية والخاصة، وتهشيم أبواب المنازل والمحلات التجارية، ومطاردة جميع من يوجد بالشارع العام، لمجرد إطفاء نوبة غضب عابرة أثارتها أقراص مهلوسة سحقت لتشرب في عصير حتى يصل مفعولها للدماغ في أقصر وقت. معظم هؤلاء تعودوا على دخول السجن والخروج منه مثل نزهة قصيرة، أو عطلة بضمان المبيت والأكل والتطبيب،عطلة يطلون فيها على «العشران» في سجن «الزاكي» بسلا القريب من الرباط، حيث تصل القفة ساخنة من الأسرة بما لذ وطاب، قبل أن يظهروا من جديد مثل نبات شيطاني لينغصوا حياة مواطنين ذنبهم الوحيد، حمل عنوان أحد الأحياء الهامشية في بطاقة التعريف الوطنية. السبسي و«الروج» تجولت ليلة سبت، لفترة قصيرة بالمنطقة، بمعية وجوه معروفة في الحي ضمانا للسلامة، وبدا واضحا أن ما يحدث هنا لا يمكن السيطرة عليه، أو التنبؤ به، هنا تطاردك نظرات لا تبعث على الارتياح وأنت تسير مصدوما وسط مئات البنايات التي لا تعترف بالهندسة، وسط منحدرات حادة تحتاج لأقدام قوية حتى لا تجرفك إلى الأسفل، حيث يسود ظلام مخيف. هنا، عتبات منازل تحولت لحانات يشرب فيها «روج» رخيص، ويدخن فيها «السبسي» أو الشيشة، وأزقة ضيقة يلعب فيها أطفال صغار، يتحولون في أحيان كثيرة إلى معاونين لبعض المطلوبين أمنيا، حيث يتكلفون بالصفير من أجل تنبيه الموجودين، في حالة رؤيتهم لعناصر أمنية تقتحم أزقة الحي التي تنبعث من بعضها رائحة رطوبة وعفن كريهة، لأن أشعة الشمس أيضا غير قادرة على الدخول إلى هنا. بأحد الأزقة المعزولة تنبعث أغنية بئيسة للشاب بلال، فيما خمسة شبان يجلسون على درج يقود إلى منحدر تحاصره عشرات المنازل العشوائية المتزاحمة، الظلام يحول دون رؤية وجوههم بشكل واضح، ما يظهر فقط هي قنينة من «الفودكا» يختبئ خلفها كأس صغير الحجم، وسكين بقبضة خشبية يحمل رقم 14كاسم شهرة، ويعرف عند الأمن والمجرمين ب»الكاطورزا». هؤلاء كانوا قبل سنوات من أطيب أطفال المنطقة، قبل أن تنقلب حياتهم 180 درجة، بعد أن تورط أحدهم في نزاع دام، دخل معه السجن، ليلحق به الآخرون تباعا في قضايا مختلفة، ويودعوا الدراسة التي تفوقوا فيها، حيث اختفت أسماؤهم من سجلات وزارة التربية الوطنية، ورحلت لتضمن لها مكانا في سجلات أصحاب السوابق القضائية. الخطير أن بعض العناصر بالمنطقة لا يكون دافعها هو السرقة والاستيلاء على ما بحوزة الآخرين، بل يكون الدافع هو التنكيل بأناس لا ذنب لهم، إما من خلال تشويههم بجروح الأسلحة البيضاء، وترك توقيعهم الإجرامي على أجسادهم، أو إلحاق أكبر الخسائر بممتلكات الناس، وهنا يقع التنافس بين بعض المنحرفين على من يحدث أكبر تدمير، حتى ولو تعلق الأمر بتهشيم زجاج جميع السيارات المركونة بالمنطقة أو إجبار الجميع على الهرب من المكان بعد التنكيل ببضعهم. قنبلة موقوتة والي الرباط عبد الوافي لفتيت، كان صريحا وفي غاية الواقعية، حين وصف أحزمة البؤس التي تطوق العاصمة، ممثلة في دوار الدوم ودوار الحاجة والمعاضيد، ب«القنبلة الموقوتة». ولم يكتف الوالي بذلك بل أقر خلال اجتماع سابق للمجلس الإداري للوكالة الحضرية للرباط، بصعوبة التدخل لهيكلة هذه الأحياء وإدماجها في النسيج العمراني للرباط، من أجل وضع حد لعدد من الاختلالات التي تعيشها، والتي تطورت إلى أمراض اجتماعية من بينها الجريمة، وأيضا من أجل تجنب كارثة حقيقية قد تتسبب فيها فقط تساقطات مطرية قوية، بحكم أن المنطقة تضم آلاف المنازل العشوائية التي بنيت على منحدرات ترابية هشة. وقال الوالي إن الحلول الجذرية لهذه الأحياء، وخاصة دوار الحاجة مستحيلة، وأن تنقيل السكان يقع أيضا ضمن دائرة المستحيل، فيما جميع الحلول المتبقية تظل «ترقيعية»، وهو كلام يبين لماذا اكتفت السلطات فقط بتغيير أسماء هذه الأحياء، ووضعت لها أسماء لا علاقة لها بواقع السكان، بعد أن تحول «دوار الدوم» إلى حي أبي رقراق، و»دوار الحاجة» إلى حي الفرح. في هذا الصدد قال حسن تاتو المستشار بمجلس مدينة الرباط، إن هذه المنطقة شهدت ومنذ الستينيات حركة تعمير عشوائية، دون أن يوازيها الرفع من مستوى الخدمات المتاحة للسكان، ما سمح مع مرور الوقت بظهور خلل كبير يشكل غياب الأمن أحد تمظهراته، ليصف الوضع الأمني بالعاصمة وبالأخص في أحيائها الشعبية، مثل حي «أبي رقراق، الفتح، والرشاد، بأنه جد«متردي». وقال تاتو «الله يكون في عون رجال الأمن» لكن «الموضوعية تقتضي القول بأن السكان يفتقدون الآن للمجهود الذي كان يبذل في السنوات السابقة، وهنا نستحضر تجربة «الكيس» المعروفة ب»كرواتيا»، والتي أعطت نتائج واضحة و»طهرت المنطقة من المظاهر الإجرامية نتيجة التواجد الأمني الدائم، بشكل أعاد للأذهان زمن «الواشمة» التي عايشها جيل الثمانينيات والتسعينيات». وألقى تاتو بالكرة في ملعب الأمن، حين أكد بأن التحجج بغياب الإمكانيات لم يعد مقبولا أمام تنامي السلوكات الإجرامية بشكل غير مسبوق بالأحياء الشعبية، وقال «في لقاءاتنا كمنتخبين مع المسؤولين الأمنيين يتم التذرع بغياب اللوجستيك، علما أن المجالس السابقة عمدت ومنذ التسعينيات إلى تقديم عدد من الوسائل ومنها مخافر للشرطة، وسيارات، ومحروقات، ومقر للدائرة الأمنية، رغم أنه كان من المفترض أن يحتضن مقر دار الشباب، لكننا فوجئنا بعدم استغلال المخافر بحجة عدم وجود عناصر بشرية كافية ما جعلنا نضطر لمنحها للجمعيات». واش سال الدم حملة محاربة «التشرميل» كانت مثل حبة أسبرين انتهى مفعولها سريعا، ليتضح أن الجريمة سرطان غير قابل للاستئصال بالمنطقة، ما لم يتم اتخاذ مبادرات عملية على المستوى الحكومي، كما كشف حسن الساخي رئيس فدرالية الجمعيات التنموية بمقاطعة اليوسفية، الذي أكد بأن الجريمة والعنف يظهران على شكل موجات بين مد وجز، لكن المنطقة تظل على الدوام حضنا صالحا لتفريخ الجريمة وبشكل كثيف. وقال الساخي إن موضوع الجريمة بالأحياء الهامشية للرباط مركب، ويعني حوالي 450 ألف نسمة تعيش نوعا من الهشاشة والتهميش في منطقة تحتضن نسبة كبيرة من الشبان العاطلين. وأضاف الساخي «هناك تواجد أمني لكنه غير كاف»، و»بعد العفو الأخير شهدت المنطقة تدهورا خطيرا من الناحية الأمنية، وهو ما يترجمه ارتفاع عدد حوادث اعتراض السبيل تحت التهديد بالأسلحة البيضاء» قبل أن ينبه إلى أن إنتاج الجريمة سيظل متواصلا في حال عدم اعتماد حل ضمن السياسات العمومية، مشيرا إلى أن المجتمع المدني المحلي بذل مجهودا كبيرا رغم إمكانياته المحدودة من أجل التحسيس بالظاهرة، لكن اليد الواحدة لا تصفق، وهو ما يفسر احتفاظ المنطقة بسمعتها كنقطة سوداء من الناحية الأمنية. معاناة السكان مع الجريمة لا تنتهي عند تعرضهم للسرقة بالعنف، أو لاعتداء، بل تتواصل الإهانة عند محاولتهم الاستنجاد بالأمن، كما يقول أحد سكان دوار الحاجة، والذي أكد بأن استدعاء الأمن بالهاتف يعد مضيعة للوقت، وهو ما ينطبق أيضا على التقدم بشكاية. في هذا السياق شدد عضو المجلس الجماعي للرباط حسن تاتو على أن المشرفين على الجهاز الأمني بالمدينة ملزومون بتوضيح كيفية التعاطي مع تنامي الظواهر الإجرامية، وكذا طريقة الرد على نداءات الاستغاثة، وقال إن» نداءات الاستغاثة بالهاتف تواجه بسؤال» واش كاين الدم»، أو»واش مات شي واحد» وهو «أمر غير مقبول»، مضيفا بأن المطلوب هو تواجد أمني دائم، أو على الأقل تسيير دوريات راجلة وعلى متن الدراجات النارية، لأن غياب التواجد الأمني يفسح المجال لتفشي الجريمة.