ليس هدفي من هذا المبحث أن أتحدث عن النفاق والمنافقين وخطورتهم على الدين والمعتقد وصفاتهم وأفعالهم، فذلك له مجاله الخاص به، وقد أفاض الباحثون في الحديث عنه بما فيه الكفاية، وإنما الغرض هو أن أتناول المسألة من منظور سياسي محض، وهي زاوية للنظر قد تكون الحاجة إليها لا تزال قائمة . ومسوغ هذا التناول من هذه الناحية "السياسية"، هو أن الرسول صلى الله عليه وسلم لما قدم المدينة، كان الأوس والخزرج قد أجمعوا على تمليك عبد اللَّه بن أُبيّ، وكانوا قد نظموا له الخرز، ليُتَوِّجوه ثم يملِّكوه عليهم، فلما جاءهم اللَّه برسوله وهم على ذلك، انصرف قومه عنه إلى الإسلام، مما سيؤجج نار الحسد والحقد والبغض في قلب عبد الله بن سلول، باعتبار أن رسول اللَّه قد سلبه ملكه الذي كان قد ناله عن جدارة واستحقاق، ذلك أن الأوس والخزرج لم يجمعوا على رجل قبله مثلما فعلوا معه. لقد ضاع حلم عبد الله بن سلول في تملك الأوس والخزرج، بعدما أصبح قاب قوسين أو أدنى من ذلك، لقد وجده نفسه في الصف الآخر المعارض لنظام الحكم الجديد، فشكل لهذا الغرض حزبا معارضا قويا ذو مرجعية خاصة، ليست تابعة للنظام الإسلامي ككل، وليست خارجة عنه تماما، بل اتخذ موقفا بين بين، يطبق بعض التعاليم، ويعارض بعضها الآخر، يلتزم في العبادات مثلا، لكن يخالف في الخطط السياسية والعسكرية. وكثيرا ما كان هذا الحزب السياسي يسبب المتاعب للنظام الإسلامي، بل ويهدد كيانه، بما له من علاقات دولية، وقدرة على المناورة، وخداع حتى بعض المحسوبين على الرسول الكريم وصحبه؛ ففي غزوة أحد انخذل بثلث الجيش، تاركا الرسول وأتباعه يواجهون قوة تفوق عددهم بأضعاف مضاعفة. لقد كان ابن سلول يتحين الفرص -كل الفرص- للنيل من رسول الله صلى الله عليه وسلم وصحبه، فبعد غزوة بني المصطلق(المريسيع)، انتهز فرصة تأخر أم المؤمنين عن الجيش، ليختلق الإفك الذي تحدثت عنه سورة النور، فأشاع الكذب والبهتان في عرض النبي الكريم، وهي أكبر ضربة وأخطر مكيدة يمكن أن يقوم بها السياسي بهدف النيل من خصمه، والإطاحة بمكانته بين قومه وأصحابه، فهذا أكبر خطر واجهه النبي عليه الصلاة والسلام، يفوق ما تعرض له في أحد وفي غيرها، إنها تهمة الشرف والعرض والكرامة، كما قال الشاعر يهون علينا أن تصاب جسومنا وتسلم أعراض لنا وعقول إن تصرف الرسول الكريم مع عبد الله بن سلول واتباعه يمثل فعلا مرجعا أساسيا وأصيلا لكيفية التعامل مع المخالفين في المجتمع الواحد، لقد عُرض على الرسول صلى الله عليه وسلم قتل ابن سلول والتخلص من شروره في مواقف كثيرة، لكنه عليه الصلاة والسلام عارض ذلك لئلا يقال محمد يقتل أصحابه. ورغم أن الرسول الأكرم هو الحاكم الفعلي، فإنه لم يُلجم المعارضة رغم أخطائها الكثيرة والشنيعة في آن واحد، بل ظل ابن سلول حرا طليقا يقوم بمهمته حتى مات، والعجيب في الأمر أن الرسول الكريم لم يعتبر موته راحة للمسلمين من شروره، بل كفنه في ثوبه وصلى عليه، وقال إن الله قال : "إن تستغفر لهم سبعين مرة" ) ولأستغفرن له سبعين وسبعين وسبعين) وفي رواية الترمذي: لو أعلم إني لو زدت على السبعين غفر له لزدت ثم صلى عليه و مشى معه فقام على قبره حتى فرغ منه .