أماه، يايتيمة المدائن، لم أفهم بداية هذا الكرم الحاتمي المتكرر منك في تصدير أبنائك بالجملة، وهم مسربلون بالدم إلى العالم الآخر، وآلمني أن تتعاظم لديك هذه الرغبة اللامتناهية في الفقد على غير عادة مدائن الدنيا التي تعض على فلذات أكبادها بالنواجذ، حتى إذا غالبها القدر وغلبها سلمتهم شامخة فرادى، وليس زمرا كما تفعلين وتكررين أنت عن طواعية، وببرودة دم تثير انتباه العدو قبل الصديق. فكرت وقدرت وقلت ربما هو رد فعل منك ساخط على غيرتنا المفقودة ونخوتنا الموؤودة ونحن نرى حرماتك تنتهك وأحشاؤك مطروحة في قارعة الطريق يدوس عليها المفترسون الذين تكالبوا عليك وتداعوا إليك، دون أن يجدوا منا لوما ولا عتابا، بل ربما اقترب من عالمهم الافتراسي كثير من أبنائك طمعا في بعض الفتات، وربما حرضهم البعض الآخر على مزيد من الدوس والاغتراف، جاحدا كافرا بحق الأمومة، فثارت ثائرتك وأعلنت على الجميع سخطك بصالحهم وطالحهم، وأتبعته بلعنات مالها من زوال، بيد أن وضعك كأم تفرض عليها عاطفة الأمومة أن تحضن أبناءها في السراء والضراء مهما أتوا من فعل قبيح، ومهما كان حجم تنازلهم عن شرفك الذي هو شرفهم وكرامتك التي هي كرامتهم ضد عادية المعتدي وعدوان الظالم، دفعني دفعا إلى التخلي عن هذا الظن السيء بك وشطب هذا الافتراض من مخيلتي، لأضع مكانه افتراضا آخر أرى من خلاله أن ما تقومين به هو حنو منك زائد أملته عاطفة أم ثكلى أفجعها أن ترى أبناءها أمواتا محنطين في نعوش حياة بلا حياة تتقاذفهم أمواج الفساد والقهر والاستغلال، كما لو كانوا هشيما تذروه ريح عاتية، فارتأيت أن تخلصيهم من هذا العذاب الأليم، وأن تنتشليهم من قبضة يد حديدية صدئة مسننة أسالت نصف دمهم، وخلطت نصفه الآخر بصدئها، ونخرت أجسامهم البالية وعظامهم الرميم، فلم تجدي من حيلة إلا تصديرهم إلى العالم الآخر، حيث العدل والحق والمساواة واحترام الذات الإنسانية رحمة بهم، لأنك تعرفين أنهم سيكونون في عالم طهر لا يظلم فيه أحد، وتنكيلا ونكاية بالمفترسين الذين سيجدون أنفسهم، بعد رحيل أبناءك الأطهار، وجها لوجه فينقلبوا على بعضهم البعض هشا وعضا، وحينها ستنفجرين ضاحكة ساخرة عليهم، وترسلين زغرودة التشفي إلى حيث الأبناء راقدين مطمئنين في قبورهم، ليفتحوا أعينهم من هناك على قيام قيامة شرار الخلق هؤلاء. إذا كان هذا قصدك ومبلغك من الانتقام، فها نحن هؤلاء رهن إشارتك لتخليصنا من عالم قذر أبطاله آكلو مال حرام، وتجار مخدرات، وسماسرة انتخابات، ومصاصو عرق مختلط بدماء يد عاملة تتسول الشغل من أجل أن ترمى في نهاية المطاف بثمن بخس دراهم معدودات، وبائعو أوهام بغد أفضل يفتحون دكاكينهم في مواسم غيثهم التي لا تنتهي، حتى إذا قضوا وطرهم منا غلقوا أبوابها وصعدوا إلى أعالي الجبال لتعصمهم من قحطنا، منتشين مستمرئين من هناك عذابنا في انتظار "غودو" الذي يعرفون حق المعرفة في دواخل أنفسهم أنه لن يأتي " حتى يلج الجمل في سم الخياط"، مستهزئين بجهلنا بحقيقة أشياءهم ونحن ننادي و نتغنى ليل نهار بمقطوعة نزار قباني: تعال ياغودوفقد تخشبت أقدامنا انتظاروصار جلد وجهناكقطعة الآثارتبخرت أنهارناوهاجرت جبالناوجفت البحاروأصبحت أعمارنا ليس لها أعمار. نعم، أماه، يا من رملت ويتمت، فاستحققت صفة يتيمة المدائن عن جدارة وبلا منازع، إذا كان هذا هو مصيرنا، فنناديك ونشد على أياديك ونبوس ثرى أرضك من أجل أن تأخذينا إلى عالم الطهر لنرصد من هناك حركة الأشرار وهم يتخبطون في فسادهم كما يتخبط الشيطان من المس، ونار المال الحرام الذي أخذوه منا غصبا وإغارة ونهبا تتلظى في بطونهم المنتفخة، لكن ليكن الرحيل في صمت ودعة ، دون دماء، ودون عظام مكسرة، ودون صخب، لأن موتنا الصاخب ملأ الدنيا ضجيجا وأزعج النائمين على الأسرة الحريرية.