زاغت بنا أبصارنا بعد أن رأينا جمال ما يحيط بنا , تضاربت أفكارنا بعد أن أدركنا مدى أصالة ما زرنا . لطالما استهوتنا الأطلال و الظلال ، و عبق الماضي البعيد ، نشتم رائحة حياة أسلافنا تحاول جرنا إلى غياهيب تلك الأيام الغابرة أيام الزهو و الأمل, الكر و القر ، عن تضحية في سبيل تحقيق مجد يبقى شامخا عبر التاريخ ليرتوي من نبعه كل قلب شغوف محب لعطر الأصالة . زرنا تلك المباني الشاهقة التي تتزين بها مدينة باريس الفرنسية ، و التي يعتليها برج الفخر و الزهو ، مدينة شوارعها و أزقتها تحكي لنا عن عصور مرت ها هنا ، عن أجيال تمخترت فوق صخورها ، و عن عقول تبخترت بإنجازاتها ، عن دماء سقيت بها كل مجاريها ، و عن عظام نشرت في كل أركانها . برج إيفيل الشامخ المتعالي و المعلن عن حضوره المعوي ، المستقطب لكل سكان البسيطة المعبر عن اتقاد فكر صاحبه ، عن رغبته في تقديم نصب تذكاري يبقى شامخا في سماء المدينة ليجعلها تزهوا و تتمايل بوجوده . أوبراغارنييه ، تلك البناية التي تمتد جدورها عبر التاريخ السحيق تلك الهندسة المعمارية التي لا متيل لها ، دقة التحليل و التركيز و الرغبة في الازدهار و الرقي جعلت المكانيهديك كلمات الترحيب المتواضع , و أنت تشق طريقك بين الجموع لإلقاء نظرة على هاته البناية التي استقبلت بين جدرانها احتفالات و استعراضات متعددة امتدت عبر التاريخ ، لتحاول تلك الجموع إطلاق خيالها الجامح ليعبر بوابات الزمن لعله يستطيع إلقاء نظرة حية على ما كان يدور بين جدرانها . تزداد وتيرة خطواتك و أنت تعبر شوارع و أزقة المدينة بلهفة لا متيل لها , تحاول ربط الاتصال بتلك الحضارة التي أعطت المدينة ميزة الأحلام ، قناطر ارتبطت أسماؤها بأسماء رجال التاريخ الذين ساهموا في وضع أسسها , مادة إياك بسيل من الروايات التي تمتد على طول هذه القناطر التي تربط جوانب المدينة ببعضها . و أنت تولي ظهرك لتعود أدراجك تسمع همسات تتقاذفها لأسمعاك شوارع و أزقة باريس تناديك لتلحق بالركبان الهائمة بين جنباتها لتنعم بأنين ماضيها العريق، تناديك ساحة الجمهورية و هي تعرض عليك نفحات من اللقاءات و التجمعات التي شهدتها الساحة و مازالت تشهدها ليسجلها التاريخ و يبقيها عطرا مميزا ستفخر به الأجيال اللاحقة . ساحة الكونكورد لن تتوانى عن الوقوف وسطها لإطلاق العنان لحاسة الشم لديك لتعبق بتلك النفحات التي يرويك بها كل حجر يمتد على جوانبها ، يغريك المكان بالبقاء دون وجل ، تظهر لك في الأفق تلك الفرسان التي جابت الساحة و هي تزهوا و تفتخر بإنجازاتها و مساهمتها في إغناء تاريخ المنطقة و جعلها محجا لكل سكان العالم و لكل القوافل التي تتهافت للظفر بنظرة توليها لهذا الجمال الباهر و هذا التاريخ العميق ، ليزيد الطينة بلة شارع الشانزليزيه الذي يعد من أرقى و أفضل الشوارع في العالم بأسره ، فأول خطوة تخطيها ستحبس فيها أنفاسك ، قوس النصر، سيتراءى لك من بعيد كأنه شعلة تنير تلك الشوارع التي تزدحم بالمارة و الزوار الذيين استرعاهم حبهم للأصالة والتاريخ العريق الذي بقي شاهدا على عقول برزت في زمانها و طبعت زماننا بإمضاءات ستظل راسخة في قلوب كل الأجيال القادمة.
فيا مدينة الأحلام مدي لنا يديك و جوبي بنا شوارعك العريقة ، أزيحي عنا هم السرعة و أضيئ أيامنا القاتمة ، مدينا بصبر أسلافك و حب أقرانك ، خدينا للاستكشاف شوارعك و أزقتك و أطليعنا على أسرار أسوارك ، إفتحي لنا أبوابك المغلقة و أسجنينا داخل عطرك الفياض.