ذكر الكاتب المصري الراحل أنيس منصور في احدى مذكراته، ان الرئيس المصري السابق انور السادات دعاه ذات مرة الى محل سكناه .وبينما كانا يتجذبان أطراف الحديث في حديقة فيلا السيد الرئيس،قال له هذا الاخيرممازحا :اتعرف ياأنيس، رغم انك الان جالس الى جانبي وانا امازحك بإمكاني ادخالك الى السجن لو شئت ذلك؟.فأجابه انيس منصوربسرعة: أعرف ذلك، سيدي الرئيس، فالامر في غاية اليسر والسهولة، فيكفي ان تنادي على ذلك الجندي الحارس الواقف امام ڨلتك وتأمره بسجني ليفعل ذلك بدون جدال .فأجابه الرئيس انور السادات: ليس بتلك الطريقة يا أنيس، فهذه الطريقة طريقة قديمة جدا ، فالطريقة هي ان أضع لك وانت الى جانبي في جيبك خلسة قطعة حشيش ثم انادي على الجندي الواقف امام الباب وأمره بتفتيش هذا الشخص الذي جاء لزيارة السيد الرئيس، وعندما يعثر الجندي على قطعة حشيش يقودك مباشرة الى سجن القسم دون اطلب منه ذلك. إن هذه الحكاية في الواقع تلخص لنا علاقة المواطن بالسلطة في العالم العربي برمته..هذه الاخيرة التي لا تنفك تفبرك الملفات للمواطنين الذين لهم راي آخر مخالف في برامجها اوخططها وسياساتها.فهي لاتقدمهم الى المحاكمة بدعوى الخصوم السياسيين ، فلا بد لها كما قال انور السادة لأنيس منصور البحث عن فرصة لدس قطعة حشيش خلسة في جيب او حقيبة سفر الخصم لإيجاد التهمة الجاهزة التي تكفي لأدانته بها. وهذا ما تم فعله في العديد من المناسبات مع نقابيين وسياسيين لايسايرون رياح الحكومات الفاشلة وسياساتها .اليوم لم يعد الامر يرتبط بالحشيش، بل هناك تهم كثيرة وضيعة لا تقل خطورة من تهمة وضع الحشيش خلسة في الجيوب، وهي تهمة الارهاب اوالترويج له..فيكفي ان تقوم بنشراو إعادة نشر فكرة او منشور اوشريط فيديو متاح للجميع في الشبكة العنكبونية يتحدث عن الارهاب ولو كنت ترفضه وتدينه، لتجد السلطة قد اعدت عدتها لأدانتك واعتقالك بمبررات وتهم جاهزة ومفبركة.. لقد تطورت حرية التعبير في التجربة الإنسانية والتجربة الغربية بالخصوص في ظل السماح للقوى الضعيفة في المجتمع (الأفراد، المرأة، المهمشين، الفقراء، المستثنيين، الفئات غير الممثلة..) بتوجيه نقدها السلمي للقوى الأكثر قوة من دون أن يؤدي ذلك الى عقوبات وإتهامات وفتك. هذا أساس تطور التجارب وأمر رئيسي في قياس الديموقراطية. الهدف الأهم لحرية التعبير في كل دول المعمورةهو جعل القوى المهمشة في المجتمع وما أكثرها اليوم في بلداننا المتأزمة قادرة على إسماع صوتها. حرية التعبير هي تلك الحرية التي نمتلكها أولاً في نقد السلطات أكانت هذه السلطات حكومة قوية ومتنفذة أو برلماناً لديه سلطات تنفيذية واسعة أو قرارات سلطة قضائية أخطأت في صنع قرارها. والجوهر الثاني في حرية التعبير هي تلك التي يمتلكها صحفي او مسرحي او سينمائي او مثقفون او فئات او جماعات في قول رأيها بحرية وبلا موانع وبدون خوف من التهم المطبوخة التي تطيح بالرؤوس. التحدي الأكبر الذي يواجه الحريات في بلاد العرب اليوم مرتبط أولاً بالموقف من نقد السلطات السالفة الذكر لما لهذه المواقع من تأثير على حياة المواطن من مهده إلى لحده ومن حاضره إلى مستقبله. إن خطأ الفرد يؤثر بحدود الفرد، لكن خطأ السلطة وقراراتها بحق السياسي والاديب والفنان والباحث الأكاديمي والصحفي يمس الملايين من ابناء الشعب. من دون المقدرة على نقد هذه السلطات بحرية ومن دون الحد من قدرة السلطات على معاقبة المواطن، فإن مستقبل بلدان العالم العربي لن يكون سوى تكرار لماضيه المليء بالتردي والقمع الذي قد يفجر ثورات اخرى نجهل زمان ومكان حدوثها..