تعيش مجتمعاتنا العربية تناقضات اجتماعية شتى ، ترتبط سيكوسوسيولوجيا بعوامل مختلفة ومتداخلة .. و لا يسلم مجتمعنا من السقوط تناقضات تصل إلى حد الغرابة . و كما يقول المثل " ومن كثرة الهم ما يضحك " ، قمنا بسرد بعض من هذه التناقضات في قالب أدبي ساخر ممزوج بتساؤلات استنكارية لا نتوخى الحصول من ورائها على أجوبة بقدر ما تعد فقط تشخيصا لواقع مر . وتجدر الإشارة إلى انه لا يمكننا تعميم هذه التناقضات على الجميع ، لان هناك نماذج كثيرة ، في المجتمع ، من الناس المتزنين ، الذي يساهمون في البناء والإصلاح ولولاهم لفسدت الأرض . لكن في المقابل نجد فئات كثيرة تسقط في مفارقات تعكس بشكل أو بأخر أزمة القيم و الهوية التي نتخبط فيها ونترنح تماما كالذي يتخبطه الشيطان من المس ... والتي يمكن تلخيصها أساسا في فساد الأخلاق ، التي ذهبت ريحنا بذهابها ، وما يترتب عن انهيار المنظومة الأخلاقية من التيه و الظلال والفراغ الروحي انتشار واللامبالاة وغياب الوازع الديني و موت الضمير الاجتماعي و اغتيال القيم الحضارية ... وما بعد ذلك من أفات وماسي نكون نحن من انتجناها ومن ساهم في تكريسها . فتتعد المظاهر التي تنتجها هذه التناقضات الاجتماعية التي نكون نحن سببا وطرفا فيها كذلك .. °°°°°°
1 - في سمر ليلي ، و على إيقاع دوران كأس " ماء الحياة " أو الماحيا اختصارا ، ظل رفقة أصدقائه المثاليين يدردشون في مواضيع مختلفة ، صوتهم تارة يعلو وتارة ينخفض .. وفي أحيان كثيرة يصدر منهم صراخ وهذيان .. أو يغني احدهم " وقتاش تغني يا قلبي ايلا مغنيتي اليوم .." ، أحاديث مختلطة تشبه مواضيع الساسة .. من بن كيران و العفاريت والتماسيح إلى البارصا والريال و الأغنياء والفقراء وصولا إلى الحلال و الحرام .. يقسم احدهم بأغلظ الأيمان و" بالجامع الكبير" - بصوت منتفخ و ثقيل يحرك معه لسانه بصعوبة - انه لم " يأكل " الحرام " قط في حياته ، يعني بذلك لحم الخنزير .. وقد كان بإمكانه أن يفعل لولا " خوفه من الله " .. لأنه لحم خاص باليهود و النصارى ونحن " مسلمون " .. كما انه لا يشرب الخمر في شهر شعبان أبدا لان فعل ذلك حرام .. وأشار إلى " فتوى الأربعينية" .. التي مفادها وجوب الإمساك عن السكر لمدة أربعين يوما قبل بداية رمضان . وان كنا لا نعلم من هو الفقيه الذي اصدر هذا التوجيه و "الرباني" المبارك ، لكن لا باس بعد نهاية رمضان في عيد الفطر ببعض " البيرات " و قنان " الروج " ، للاحتفال مع الأصدقاء بعودة إبليس من منفاه ، وتحرره مع مردة الجان من الأصفاد وفرحا بانتهاء شهر الغفران . فلا ضرر في ذلك ما دام قد أدى " الواجب الديني " في شهر الصيام .. معبرا في ذات الوقت إلى انه ليس " ولد الحرام " أو " مسخوط " كأولائك الذين يشربون الخمر في ليالي رمضان . 2- انتقد كثرة الخمارات في البلاد وكثرة الحانات ، وتقصير الدولة في إغلاقها لأنها تفسد أخلاق الشباب .. كما انتقد كثرة " العاهرات " و أكلهن من المال الحرام .. و تواطؤ السلطات مع بعضهن طمعا في مالهن .. الزنا - أو الفساد كما يسمونها - كذلك حرام ، ويستحق من أتى هذه الفاحشة الجلد أو الرجم حتى الموت . هذا ما يراه أخر ملحا على أن رأيه يجب أن يحترم . فهكذا أصبحت الأحكام القطعية في بلدنا مجرد أراء لا غير .. في أول فرصة يتلصص على بنت الجيران التي تنشر الغسيل في سطح المنزل ، سرق منها نظرات ، تجرا أكثر ، بسبس ، رمقته بنظرة لاحت على ملامحها ابتسامة ماكرة ، تبسم بدوره : " صباح الخير " ، ردت عليه التحية ملحنة .. يا سلام !!! " نظرة فابتسامة فسلام " .. اكتمل الشطر الأول من البيت . لكن يجب أن يتعاون مع إبليس ليبنيه كاملا . انه عش الحرام ولو كان اوهن من بيت العنكبوت .. لكن كيف سيتمكن من ذلك ؟؟ ما هي إلا لحظات حتى رآها في جلبابها اللصيق تخرج وتنظر وراءها ..لا يعرف كيف نزل السلالم هل في خطوة أو خطوتين .. ؟؟ لا يهم .. الآن قد أصبح يتعقبها حتى تصيدها أو بالأحرى تصيدته .. يبرر فعله قائلا : " راني باغي معها المعقول .." النية طبعا ابلغ من العمل ، رغم أن النوايا " فيها وفيها " ... هذه هي حال القواعد الشرعية التي أصبحت توظف في غير محلها لان الفراغات كثيرة .. يشرعن حسب هواه علاقته بها : " و راه قرينا الفاتحة " .. طبعا كانت قراءة لفاتحة " الشر " هذه بحضور إبليس اللعين في خلوتهما الماجنة .. يطمئن نفسه " اللوامة " أن باب التوبة مفتوح و من عنده باب واحد " الله يسدو عليه " ... على أية حال لم يقتل مائة روح .. رغم انه يقتل نفسه مئات المرات في اليوم الواحد ... يظل يسرد مغامراته مع " بنات الدرب " في مرحلة الطفولة ، أو مع " بنات الليسي " في فترة المراهقة بافتخار .. لكنه في كل لحظة يلقي اللوم عليهن ويسبهن و يلعن اليوم الذي عرفهن فيه و أوقعنه في الحرام .. كما ينتقد لباسهن الفاضح ويستنكر عريهن الذي لولاه لما فكر في معاكستهن ويسب الإعلام والقنوات التلفزية .. كما يحكي عن مغامراته مع " الخارجات عن الطريق " .. وكيف كان يرتب المواعيد... كأنه عريس حقيقي . ويسال الله الهداية وان يرزقه زوجة محتجبة وعفيفة و لم يلمسها أو حتى لم يراها احد .. حملت منه بنت الجيران .. تأسف على خطأه غير المقصود .. غمره حزن عميق .. نال الندم من جسده المترهل .. هددها بالقتل لأنها لم تحسن التصرف .. تذكر أن القتل حرام و يمكن أن يؤدي به إلى السجن المؤبد .. كما انه قد يحتاجها مرة أخرى ليشبع نزواته .. هددته بفضحه ، اخبرها انه "رجل" وليس لديه ما يخسره و المجتمع لا يرحم "المرأة" خاصة إذا فقدت شرفها .. الحمل يعني أن العذرية مفقودة من دون شك وهذا عار كبير ..استسلمت و أذرفت الدموع الغزيرة ، فكرت بجد في الانتحار .. بعد أن انتحرا معا مجتمعيا و وقيميا ستنتحر جسديا وروحيا ... أشفق على حالها وتعاطف معها .. فبكى بدوره على بكائها .. اصطحبها إلى الطبيب كما يرافق الزوج زوجته .. تفاوض معه حول ثمن العملية .. كان طلب الطبيب مرتفعا ما داما لا يتوفران على عقد الزواج .. " كلا حاجة وثمنها " .. تسلف من أصدقائه الذين أعلنوا حالة الطوارئ وامتنعوا عن الشراب لمدة يومين حدادا منهم على الورطة التي سقط فيها نديمهم .. أسقطت ما في بطنها وتحررت من " الكرش " مثلما تحررا من أخلاق العفة .. و رممت بدريهمات ما أفسداه مع الدهر.. تماما كما يرمم الطبيب الأسنان.. " العز للزمزمي و حتى للشينوى " .. لقد أصبح كل شيء مباحا.. البكارات بثمن البطاطا في السوق .. السذج من الرجال يربطون بين البكارة والشرف في زمن أصبح فيه كل شيء متاح واختلط الحلال بالحرام .. أحس بتأنيب الضمير .. قرر أن يسأل فقيه المسجد الذي يصلي فيه تراويح رمضان ليداوي جراحه النفسية .. أجابه الفقيه أن الإجهاض حرام ... كما أنبه عن فعله .. قائلا : " كان عليك على الأقل أن تتخذ احتياطاتك بالعازل الطبي أو بالعزل مثلا " .. فهم " العازل " بعد أن ترجم الفقيه معناه إلى العرنسية ، لكنه لم يفهم " العزل " .. احضر الفقيه بضع خشيبات ليشرح له .. فهم جيدا.. فأجاب على الفور وبكل ثقة : " لقد علمت من فقيه أخر الدوار أن العزل مكروه ..." لكنه لم يعلم أن الزنا حرام ...
3- حضَّر حجابات و حروزا مرقنة بحروف مجهرية دقيقة في أشرطة ورقية طويلة يسمونها : " السمطة " ، طويت بعناية حتى يسهل فتحها و جمعها .. كان من جملة ما كتب فيها مكون في التربية على المواطنة و في أخرى آيات قرآنية ودروس عن الغش .. لا ليتقي بها شر الامتحان أو ليزيل " العين " التي تلاحقه ، لأنه لا يملك ما سيحسد عليه .. لكن ليمارسه حقه المشروع : الغش في الامتحان .. المراجعة عملية صعبة كما أن " الحفاظة " لا تريد أن " تدخل الرأس ".. المقرر طويل ومعقد و لا يعرف من أين سيبدأ .. لعن وزارة التربية الوطنية كما لعن رجال التعليم والمقرر الصعب ولعن الوزير الذي أعلن الحرب على التلاميذ هذه السنة أو بالأحرى لعن دين أمه ، لأنه يريد أن يسلبهم حقا "تربويا" يعتبر مكسبا للكسالى و المتقاعسين ، في ظل انحطاط التعليم وفشل الحكومات المتعاقبة في إصلاح مكامن الخلل في منظومة التربية و التكوين . تمنى أن يأتيه حارس سهل يغض الطرف عنهم . يعرفهم جيدا ، ويميز بنيهم ، بين الحارس السهل الذي يكون مقبولا ومرحب به في القسم ، والحارس الصعب الذي لا يدع شيئا يفلت منه ويراقب بشدة فيكون مكروها لأنه " مسموم " بجديته و صرامته .. دعا له والديه بالتوفيق وان لا يضبطه حراس الامتحانات وطمأنه والده بأنه قد تحدث مع فلان وعلان بل وحتى مع مدير المؤسسة .. حتى يرسل إليه أسهل المراقبين ، وطمأنه انه بمجرد أن يتوصل بالأجوبة الفايسبوكية سيحولها إليه عبر الرسائل القصيرة .. ليحصل على " شهادة " الباك باستحقاق .. كما نصحه أن يكون أكثر جرأة وان يقدم على الغش دون خوف ولا تردد ، باختصار عليه إن يكون " راجل " ... فنعم الرجولة ونعم الأبوة وشكرا لك فايسبوك .
°°°°°°
حقا وللأسف ينطبق علينا قول الشاعر : نعيب زماننا و العيب فينا ... و ما لزماننا عيب سوانا . وليس السكارى أو التلاميذ وحدهم من يسقطون في التناقضات التي تجعل الممنوع مشروعا والحلال حراما ، بل من كل شرائح المجتمع نجد فئات تتناقض مع المبادئ الأساسية التي تعتبر الإطار الأخلاقي كمدخل رئيسي للالتزام بالقانون وتنظيم الحياة الاجتماعية والتقليل من حدة الماسي والكوارث الاجتماعية ، ومن جملة ذلك ، على سبيل المثال لا الحصر : أفلسنا نحن من ينتقد البلديات و المجالس المنتخبة لعدم قيامها بواجبها في تنظيف ساحات المدن و الحدائق العمومية ونكون أول من يرمي الأزبال في الشوارع والمساحات الخضراء حتى ولو كانت حاويات القمامة موجودة على بعد مترين منا .. السنا نحن من يحتقر عمال النظافة ونسميهم بأسماء قدحية ( مول الزبل ، بوزبال ، بوفراض ... ) ، وننعتهم بصفات تشعرهم بالدونية ونهضم حقوقهم المادية ، في الوقت الذي يسميهم غيرنا بمهندسي البيئة.. ورغم ذلك لا نتورع عن طرح بقايا مشترياتنا ، من زجاج سيارتنا الفاخرة ، في الشارع العمومي . السنا نحن من يأمر بالصلاة من وراء الحاسوب ، في مواقع التواصل الاجتماعي على شبكة الانترنيت ، وندعو إلى الورع و التقوى وننصح بأحسن الأخلاق ، و المؤذن يؤذن للصلاة دون أن نبارح أماكننا .. السنا نحن من يتصدق مراء أمام الناس دون أن نتصدق على المستحقين من أقاربنا حتى بابتسامة صفراء . السنا نحن من يستنكر العري في الشوارع و نلعن النساء على لباسهن الفاضح لكننا نعاكس أمام الملا وفي الساحات العمومية دون حياء ولا خجل وفي المقابل نصف المحتجبات بالمعقدات وغير المتحضرات ونصف المنقبات بالغربان .. السنا نحن من يجمع في حفلاتنا بين تلاوة القران و دق الدفوف ورقص " الشيخات " .. فنعتبر أن الأمر " عادي ونورمال " ونبرر أفعالنا أن المجتمع كله اعتاد على ذلك .. لذلك ليس غريبا أن ننتج أجيالا لا تفرق بين الغناء والقران في القيمة والأولوية ، فلك واحد منهما حصته . السنا نحن من ينادي بالتقليص من حوادث السير ووضع حد لنزيف الطرق ، ونطلق الكثير من الكلام كلما وقعت كارثة .. لكننا نكون أول من يخرق القوانين بالتجاوز غير المسموح به أو السرعة الجنونية أو برشوة شرطة المرور أو الدرك على الطريق تهربا منا من أداء غرامة فرضت علينا لتجاوزنا القانون .. السنا نحن من نعاني من آفة الرشوة وندعو إلى محاربتها ونُنَظِر لنتائجها الكارثية على التنمية الاقتصادية والبشرية ... لكننا نسخر من أول عملية - ولو كانت هاوية - تحاول القيام بذلك ..ولا نجد حرجا في تقديم " تدويرة " لموظف في إدارة أو لشرطي في الطريق .. السنا نحن من يستنكر انتشار الواسطة والزبونية والمحسوبية ، لكننا لا نتحرج في الافتخار أمام زملائنا بمعارفنا الذين يقضون لنا الحاجيات دون اللجوء إلى الانتظار في طابور طويل مخصص للبؤساء الذين لا معارف ولا " وجوه " لهم . السنا نحن من نبرر أخطاءنا ولو كانت فاضحة أو فادحة فنكون عليها كالمحامي و لا نرحم الآخرين في أخطائهم كما نبخس مبرراتهم فنكون عليهم كالقاضي ..
°°°°°
عموما هذا غيض من فيض ، وجزء صغير من جبل الجليد العائم في بحر أفاتنا وتناقضاتنا التي جمدنا من خلالها القيم بدمنا البارد... ختاما ، اردد على الدوام عبارة بليغة في أمر النفاق الاجتماعي : الم ترى أفصح من العاهرة إذا حاضرت في أمر العفاف ؟؟ أو بتعبير أخر الم ترى اشد من القواد خاطبة إذا تحدث في أمر الكرامة و الشرف ..