في اللحظة التي يلفظ فيها الشهيد أنفاسه يرى مقعده في الجنة؛ إلا "شهداء الثورة الجزائرية" فإنهم يرون مقاعدهم في متاحف باريس المكيفة؛ تصوروا أن رجلا ضحى بحياته من أجل أن تحيا الجزائر، وحينما قامت الساعة ورُدَّت إليه روحُه وجد أن جمجمته ظلت حبيسة المتاحف، ووجد أن فرنسا قاتلتَه وقاتلة أبناء جلدته قد استثمرت في رفاتهم من أجل إنعاش سياحتها وازدهار اقتصادها، ووجد أن قومه الذين ضحى من أجلهم لم يستطيعوا بعد كل هذه القرون من أن يحرروا حتى أشلاءه. لا أحد يستطيع أن يتكهن بطبيعة الإحساس الذي سيراود هذا الشهيد "البئيس" حينما يقوم ليوم الحساب؛ لكن المؤكد أنه إحساس لم يختبره في حياته الدنيا قط، كما لم يسبق لأحد أن اختبره من قبل؛ الطامة الكبرى أن الجزائر التي استشهد من أجلها صارت تستقبل رؤساء فرنسا بالقبل والأحضان، وصار الجزائريون يقبلون أياديهم وسط الحشود وأمام الكاميرات، مما يدل على أنهم لو التقوا بهم في السر لقبَّلوا التراب الذي تطأه أقدامهم؛ وإذا كان هؤلاء الجزائريون لا يستطيعون ملاقاة هؤلاء الرؤساء في السر، فإن رؤساء الجزائر يستطيعون، وسوف يقومون بكل ما يلزم، يكفي لتصدق هذا الانبطاح غير المشروط، والذل غير المفهوم، أن تشاهد الفرحة العارمة التي عَلت تقاسيم وجه "شقي شنقريحة" وهو يتسلم من "ماكرون" الخوذة العسكرية لحارس فرنسا الوفي. يعتقد الشخص المفرط في الغباء والسذاجة أن الثورة الجزائرية من أرغمت فرنسا على مغادرة الجزائر، ويعتقد الشخص الأقل سذاجة أن الاستفتاء الذي أجرته فرنسا هو السبب في المغادرة؛ إلا أن من درس التاريخ عن كثب يعلم يقينا أن لا ذا ولا ذاك كانا من وراء خروج فرنسا، وأن إقامة الاستفتاء كان فقط من أجل إعطاء الشرعية الدولية لتأسيس ما يسمى اليوم بدولة الجزائر؛ هذا ما صرح به الجنرال "دوجول" في إحدى خطاباته حيث قال بأن تأسيس الجزائر يحتاج إلى ثلاثة عناصر: إقامة الاستفتاء الشعبي، وتحديد جغرافية الجزائر، وتقرير مصير الصحراء الشرقية التي اقتُطعت عنوة من المغرب. إن الجزائر لم تكن أبدا مستعمرة من لدن الفرنسيين، والدليل أنها لم تكن أبدا في لجنة تصفية الاستعمار، هذا يعني أن الحديث عن استقلال الجزائر مجرد هرطقة لا ترتكز على أي أساس قانوني أو تاريخي؛ وأن خلافنا معها حول الصحراء ليس إلا خلافا مع فرنسا الآمرة الناهية؛ أما دويلة الجزائر، فهي في حقيقة الأمر مجرد مقاطعة فرنسية ناطقة باللغة العربية أو يكاد.