الابتلاء لغة هو الاختبار والامتحان، قال ابن منظور: "بلوت الرجل بلواً وبلاءً، وابتليته: اختبرته، والبلاء يكون في الخير والشر، يقال: ابتليته بلاءً حسناً وبلاءً سيئاً. وليس ثمة كبير اختلاف بين المعنى الاصطلاحي والمعنى اللغوي. وابتلاء العباد سُنّةٌ ثابتة ماضية من الله تعالى في جميع خلقه؛ ليختبر صدقَ إيمانهم؛ قال تعالى: {أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا وهم لا يفتنون * ولقد فتنا الذين من قبلهم فليعلمن الله الذين صدقوا وليعلمن الكاذبين} (العنكبوت:2-3). وقد أخبر الله تعالى بتعدد أنواع البلاء الذي يبتلي به عباده، وتنوع صوره، وبيَّن ما يقع في البلاء من الخوف والجوع والنقص في الأموال والأنفس والثمرات وغير ذلك، ومعلوم أن نقص الأنفس بالموت إنما يكون لأسباب عديدة؛ منها الحروب والأوبئة، كالطاعون وغيره من الفيروسات والأوبئة المهلكة، وحثنا سبحانه على الصبر على ابتلائه لنا بذلك، وبيَّن حسن عاقبة الصابرين على البلاء. قال تعالى: {ولنبلونكم بشيء من الخوف والجوع ونقص من الأموال والأنفس والثمرات وبشر الصابرين * الذين إذا أصابتهم مصيبة قالوا إنا لله وإنا إليه راجعون * أولئك عليهم صلوات من ربهم ورحمة وأولئك هم المهتدون} (البقرة:155-157). تعدد الحِكَم في الابتلاء من الآيات السابقة وغيرها ممّا سنورد في هذا المقال نتبيّن أنّحِكَم الله سبحانه في إنزال البلاء بالعباد تتعدّد وتتنوع بحسب الأحوال؛ فمن ذلك: 1- إنزال البلاء لرفع درجات المؤمنين الصابرين الصادقين فمن ذلك ابتلاء الله تعالى عباده المؤمنين الصادقين بالجهاد في سبيله، وفيه صنوف من الأذى والابتلاء بالقول والفعل، وأذى في الأموال بنقصها وهلاكها، وفي الأنفس بالجراحات والأسقام والأوجاع والقتل؛ قال تعالى: {لتبلون في أموالكم وأنفسكم ولتسمعن من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم ومن الذين أشركوا أذى كثيرا وإن تصبروا وتتقوا فإن ذلك من عزم الأمور} (آل عمران:186). وبيّن أن ذلك الابتلاء إنما هو لحكمة اختبار صبرهم وعزيمتهم، وبه تُرفع درجاتهم، قال تعالى: {أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يعلم الله الذين جاهدوا منكم ويعلم الصابرين} (آل عمران:142). قال الرازي: "اعلم أن حاصل الكلام أنّ حُبّ الدنيا لا يجتمع مع سعادة الآخرة، وأيضاً حُبّ الله وحُبّ الآخرة لا يتم بالدعوى، فليس كل مَن أقرّ بدين الله كان صادقاً، ولكن الفصل فيه تسليط المكروهات والمحبوبات؛ فإنّ الحبّ هو الذي لا ينقص بالجفاء، ولا يزداد بالوفاء، فإن بقي الحُبّ عند تسليط أسباب البلاء، ظهر أن ذلك الحبّ كان حقيقيًّا، فلهذه الحكمة قال: {أم حسبتم أن تدخلوا الجنة} بمجرد تصديقكم الرسول قبل أن يبتليكم الله بالجهاد وتشديد المحنة". وبنحو ذلك جاء قوله تعالى: {أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يأتكم مثل الذين خلوا من قبلكم مستهم البأساء والضراء وزلزلوا حتى يقول الرسول والذين آمنوا معه متى نصر الله ألا إن نصر الله قريب} (البقرة:214). كما أنّ الله تعالى قد ابتلى الأنبياء والمرسلين، وهم ليسوا عصاة ولا مذنبين، فيُظنّ أنّ ابتلاءهم عقاب لهم، وقد غفر الله لرسوله صلى الله عليه وسلم ما تقدم من ذنبه وما تأخر، ومع ذلك كان صلى الله عليه وسلم أشدّ الناس بلاءً، وكان ذلك في أغلب أحوال الأنبياء لرفع درجاتهم، وليتأسَّى الناس بصبرهم وحُسن بلائهم؛ قال تعالى: {ولقد كذبت رسل من قبلك فصبروا على ما كذبوا وأوذوا حتى أتاهم نصرنا ولا مبدل لكلمات الله ولقد جاءك من نبإ المرسلين} (الأنعام:34). فما تعرض له النبي صلى الله عليه وسلم ومَن سبقه من الرسل لم يك عقوبة، ولا مقابل ذنوب فعلوها؛ وإنما ذلك سُنَّة ماضية من الله تعالى يعقبها، رفعة من الله لأوليائه بصبرهم على البلاء، وذلك بنصر رسله وإعزاز دينه وأهله العاملين به، الصابرين في البأساء والضراء المجاهدين فيه. قال الطبري في سياق تفسيره للآية السابقة: "وهذا تسلية من الله تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم، وتعزيةٌ له، يقول تعالى ذكره: إنْ يكذّبك، يا محمد! هؤلاء المشركون من قومك، فيجحدوا نبوّتك، وينكروا آيات الله أنّها من عنده، فلا يحزنك ذلك، واصبر على تكذيبهم إياك وما تَلْقَى منهم من المكروه في ذات الله، حتى يأتي نصر الله...ولقد جاءك يا محمد! مِن خبر مَنْ كان قبلك من الرسل، وخبر أممهم، وما صنعتُ بهم -حين جحدوا آياتي وتمادَوا في غيّهم وضلالهم...فانتظر أنت أيضاً من النصرة والظّفر مثل الذي كان منِّي فيمن كان قبلك من الرسل إذ كذبهم قومهم، واقتدِ بهم في صبرهم على ما لَقُوا من قومهم". ومن خلال ما سبق نتبيّن أنه ليس من الحتم أن يكون ما نزل بالمؤمنين من البلاء عقوبة؛ بل قد يكون خيراً لهم؛ إما لرفع درجاتهم، وإما لتمحيصهم وإخلاص قلوبهم لله تعالى كما سيأتي، وإما ليزدادوا من الله تعالى قرباً وتضرعاً، وهذا يدعو إلى الرضا بقضاء الله تعالى الذي نزل بنا، ورضا العبد هو مفتاح رضا الرب؛ فإذا رضي الربُّ رفع الكرب. 2- إنزال البلاء لتمحيص المؤمنين وتبيُّن الصادق من الكاذب إنّ الله تعالى لا يقبل من العباد أن يكون إيمانهم مجرّد دعوى فارغة من الدليل والبرهان؛ فلا بد لكل ادّعاء من بيّنة على صحته؛ قال تعالى: {وليبتلي الله ما في صدوركم وليمحص ما في قلوبكم والله عليم بذات الصدور} (آل عمران:154). وقال تعالى: {ما كان الله ليذر المؤمنين على ما أنتم عليه حتى يميز الخبيث من الطيب} (آل عمران:179) فالابتلاء هو الذي يميز الخبيث الذي يَكْفُر ويسخط ويقنط، من الطيّب الذي يؤمن ويرضى ويصبر. قال تعالى: {أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا وهم لا يفتنون * ولقد فتنا الذين من قبلهم فليعلمن الله الذين صدقوا وليعلمن الكاذبين} (العنكبوت:2-3). وقال تعالى: {ولنبلونكم حتى نعلم المجاهدين منكم والصابرين ونبلو أخباركم} (محمد:31). فالمؤمنون الصادقون هم الذين يجتازون اختبارات الإيمان دون شكّ أو ارتياب، مع الثبات والمجاهدة والمثابرة، قال تعالى: {قالت الأعراب آمنا قل لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا ولما يدخل الإيمان في قلوبكم وإن تطيعوا الله ورسوله لا يلتكم من أعمالكم شيئا إن الله غفور رحيم * إنما المؤمنون الذين آمنوا بالله ورسوله ثم لم يرتابوا وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله أولئك هم الصادقون} (الحجرات:14-15). ومن خلال ما سبق نتبيّن أن من حِكَم البلاء تمييز الصادق من الكاذب؛ فالصادق في إيمانه هو الذي يراجع نفسه ويتهمها، ويرضَى بقضاء الله تعالى ويراه عدلاً، فيرضى اللهُ تعالى عنه حينما يرى صدقه ونصحه وخلوص قلبه لله تعالى ودينه القويم. 3- إنزال البلاء تكفيراً لخطايا المؤمنين ومحواً لسيئاتهم ليعلمْ العبد المؤمن أنه ما من بلاء نزل إلا بذنب؛ فمن حكمة إنزال البلاء تكفير الخطايا، ومحو السيئات؛ فعن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا يزال البلاءُ بالمؤمن أو المؤمنة، في جسده، وفي ماله، وفي ولده، حتى يَلْقَى اللهَ وما عليه من خطيئة) رواه أحمد، وقال محققو "المسند": إسناده حسن. قال تعالى: {وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم ويعفو عن كثير * وما أنتم بمعجزين في الأرض وما لكم من دون الله من ولي ولا نصير} (الشورى:30-31). فالله تعالى من رحمته يعفو عن كثير من الذنوب، ويعاقب العبد على بعضها ليرتدع وينزجر عن غيِّه، ويكون في ذلك تكفيرٌ لسيئاته؛ فالحِكَم قد تتعدّد فيكون البلاء عقوبة للمؤمن، ويكون كفارة في الوقت نفسه كذلك -ما دام العبد يتلقَّى المصاب بنفس راضية مؤمنة- فعن أبي سعيد الخدري، وعن أبي هريرة رضي الله عنهما: عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: (ما يصيب المسلم، من نصب ولا وصب، ولا هم ولا حزن ولا أذى ولا غم، حتى الشوكة يشاكها، إلا كفر الله بها من خطاياه) متفق عليه، واللفظ للبخاري. 4- إنزال البلاء عقوبة للكافرين والمنافقين ببعض ذنوبهم في الدنيا قال تعالى: {ولا يزال الذين كفروا تصيبهم بما صنعوا قارعة أو تحل قريبا من دارهم حتى يأتي وعد الله إن الله لا يخلف الميعاد} (الرعد:31). وذلك أنّ أهل الكفر إذا ما عتوا وطغوا، ولم يكن للمؤمنين حيلة بهم؛ فإن الله تعالى يُظْهِر بعضَ آياته ليطمئن المؤمنين، وليرتدع مَن شاء الله مِن الكافرين، فيصيبهم ببعض القوارع والبلايا ببعض ما صنعوا. وهنا تتجلى قدرة الله تعالى في تحدي عُتاة الملحدين وطغاتهم حينما طغوا وتكبروا بما أوتوا من أسباب العلم والقوة في تحديهم بهذا الفيروس الضعيف الذي حيَّر العلماء والأطباء ووقف الجميع عاجزين عن صدِّه وردِّه لا يملكون له علاجاً، ولا يجدون منه فكاكاً. وقد يرتدع بعضُ الكافرين بهذه البلايا، لكن يَسْدِر الباقون في غفلتهم حتى يفجأهم المصاب بما قدمت أيديهم؛ قال تعالى: {ولولا أن تصيبهم مصيبة بما قدمت أيديهم فيقولوا ربنا لولا أرسلت إلينا رسولا فنتبع آياتك ونكون من المؤمنين} (القصص:47). وكما يُنْزِل اللهُ البلاء والمصائب بالكافرين، ينزلها بالمنافقين كذلك ببعض ذنوبهم لعلهم يرجعون؛ قال تعالى: {فكيف إذا أصابتهم مصيبة بما قدمت أيديهم ثم جاءوك يحلفون بالله إن أردنا إلا إحسانا وتوفيقا} (النساء:62) وقد جاءت هذه الآية في سياق الكلام عن المنافقين. 5- الاستعتاب للعباد لعلهم يرجعون ويتضرعون قال تعالى: {ظهر الفساد في البر والبحر بما كسبت أيدي الناس ليذيقهم بعض الذي عملوا لعلهم يرجعون} (الروم:41) من أسباب إنزال الله البلاء وحكمته فيه معاقبة الناس ببعض ذنوبهم، لعل ذلك يكون رادعاً لهم؛ لعلهم يرجعون عما هم فيه من الغيّ، ويتداركون أمرهم بالتوبة والتضرّع إلى الله تعالى، قال تعالى: {ولنذيقنهم من العذاب الأدنى دون العذاب الأكبر لعلهم يرجعون * ومن أظلم ممن ذكر بآيات ربه ثم أعرض عنها إنا من المجرمين منتقمون} (السجدة:21-22). فهذه البلايا والأوبئة هي من جملة الآيات التي يذكِّر اللهُ بها عباده لعلهم يرجعون إليه؛ فالويل كلّ الويل لمن أعرض عنها، والسعيد هو من اتعظ بها فثاب إلى رشده، ورجع إلى ربه؛ فالاستعتاب إذن هو المقصد، وهذا المقصد لعلّه هو المقصد الأهم أو الأعظم؛ حيث يلوح اللهُ تعالى لعباده ببأسه وشدّته لعلهم يتضرعون؛ فإذا أعرضوا مسّهم بعذاب ببعض ذنوبهم؛ وهذا يدلّ على أنه قبل نزول العذاب تكون هناك مرحلة الاستعتاب للعباد. قال تعالى: {ولقد أرسلنا إلى أمم من قبلك فأخذناهم بالبأساء والضراء لعلهم يتضرعون * فلولا إذ جاءهم بأسنا تضرعوا ولكن قست قلوبهم وزين لهم الشيطان ما كانوا يعملون * فلما نسوا ما ذكروا به فتحنا عليهم أبواب كل شيء حتى إذا فرحوا بما أوتوا أخذناهم بغتة فإذا هم مبلسون} (الأنعام:42-44). وقال تعالى: {وما أرسلنا في قرية من نبي إلا أخذنا أهلها بالبأساء والضراء لعلهم يضرعون * ثم بدلنا مكان السيئة الحسنة حتى عفوا وقالوا قد مس آباءنا الضراء والسراء فأخذناهم بغتة وهم لا يشعرون} (الأعراف:94-95). قال ابن كثير: "وقوله: {ولقد أرسلنا إلى أمم من قبلك فأخذناهم بالبأساء} يعني: الفقر والضيق في العيش، {والضراء} وهي الأمراض والأسقام والآلام، {لعلهم يتضرعون} أي: يَدْعُون الله ويتضرعون إليه ويخشعون. قال الله تعالى: {فلولا إذ جاءهم بأسنا تضرعوا} أي: فهلا إذ ابتليناهم بذلك تضرعوا إلينا، وتمسكنوا إلينا، {ولكن قست قلوبهم} أي: ما رقَّتْ، ولا خشعَتْ، {وزين لهم الشيطان ما كانوا يعملون} أي: من الشرك والمعاصي. {فلما نسوا ما ذكروا به} أي: أعرضوا عنه وتناسوه وجعلوه وراء ظهورهم، {فتحنا عليهم أبواب كل شيء} أي: فتحنا عليهم أبواب الرزق من كلّ ما يختارون، وهذا استدراج منه تعالى وإملاء لهم، عياذاً بالله من مكره؛ ولهذا قال: {حتى إذا فرحوا بما أوتوا} أي: من الأموال والأولاد والأرزاق، {أخذناهم بغتة} أي: على غفلة، {فإذا هم مبلسون} أي: آيسون من كلّ خير". فلعل هذه المرحلة التي نحن فيها هي مرحلة الاستعتاب للناس؛ حيث يلوّح الله لهم بقدرته على أخذه إياهم بأنواع من الابتلاءات، كما قال ابن كثير: {فأخذناهم بالبأساء} يعني: الفقر والضيق في العيش، {والضراء} وهي الأمراض والأسقام والآلام. فما تلك الأمراض والأوبئة التي تنزل بالناس في صور مختلفة (فيروسات كبدية، أو نقص المناعة، أو فيروسات الجهاز التنفسي؛ كسارس، وكورونا وهانتا فيروس، وغيرها) تتجدّد كلّ حين، كلّما ظنوا أنهم قادرون عليها، أصابهم الله بما يعجزون عنه؛ يستعتبهم بذلك لعلهم يراجعون أنفسهم ويُظهرون عجزهم وحاجتهم إلى ربهم، ويؤمنون أنه لا يكشف الضر عنهم إلّا هو: {وإن يمسسك الله بضر فلا كاشف له إلا هو وإن يمسسك بخير فهو على كل شيء قدير * وهو القاهر فوق عباده وهو الحكيم الخبير} (الأنعام:17-18). فإذا لم يتوبوا ويتضرعوا ويراجعوا دينهم، استدرجهم الله إلى حتفهم وإلى شرّ غاية ونهاية؛ فيعافيهم من تلك البلايا، ويبدّل ما أصابهم من الأوبئة والأحوال السيئة أموراً حسنة من رغد العيش وسعته: {ثم بدلنا مكان السيئة الحسنة حتى عفوا وقالوا قد مس آباءنا الضراء والسراء فأخذناهم بغتة وهم لا يشعرون} (الأعراف:95) وحينئذ تأتي النهاية البئيسة المباغتة، ويأتي استئصالهم بالعذاب: {بغتة فإذا هم مبلسون} (الأنعام:44). وعياذاً بالله أن نُستدرج لتلك الغاية التي أعدها الله للكافرين؛ أمّا المؤمنون فهم الذين يدركون الحكمة من إنزال البلاء، ويعرفون أن الله تعالى يستعتبهم فيستعتبون، وإليه يتوبون.