النجاشي رضي الله عنه أول من أسلم مِنْ ملوك العجم، وقد توفي في حياة النبي صلى الله عليه وسلم، قال عنه ابن حجر في كتابه "الإصابة في تمييز الصحابة": "أصحمة بن أبحر النجاشي ملك الحبشة، واسمه بالعربية عطية، والنجاشي لقب له، أسلم على عهد النبي صلى الله عليه وسلم ولم يهاجر إليه، وكان رِدْءا (معينا) للمسلمين نافعا، وقصته مشهورة في المغازي، في إحسانه إلى المسلمين الذين هاجروا إليه في صدر الإسلام، وأخرج أصحاب الصحيح قصة صلاته صلى الله عليه وسلم عليه صلاة الغائب". وقال عنه ابن الأثير: "أصحمة النجاشي ملك الحبشة، أسلم في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، وأحسن إلى المسلمين الذين هاجروا إلى أرضه، وأخباره معهم ومع كفار قريش الذين طلبوا منه أن يسلم إليهم المسلمين مشهورة، وتوفي ببلاده قبل فتح مكة، وصلى عليه النبي صلى الله عليه وسلم، وكبَّر عليه أربعًا، وأصحمة اسمه، والنجاشي لقب له ولملوك الحبشة، مثل كِسْرى للفرس، وقيصر للروم". ومن المعلوم والثابت من أحداث السيرة النبوية، أن النبي صلى الله عليه وسلم أشفق على أصحابه لِما رأى ما يصيبهم من شدة العذاب والبلاء من كفار قريش ليفتنوهم عن دينهم، فأشار عليهم أن يهاجروا إلى الحبشة، لعلمه أن ملكها النجاشي ملك عادل، لا يُظلم أحد عنده، وقد روى ابن إسحاق أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لهم: (إن بأرض الحبشة ملكاً لا يظلم أحد عنده، فالحقوا ببلاده حتى يجعل الله لكم فرجاً ومخرجاً مما أنتم فيه). وتروي لنا أم سلمة زوج النبي صلى الله عليه وسلم قصة هذه الهجرة وما صاحبها مِنْ عَدْل النجاشي وإسلامه فتقول: (لما نزلنا أرض الحبشة، جاورنا بها خير جارٍ، النجاشي، أمنَّا على ديننا، وعَبَدْنا اللهَ لا نؤذى ولا نسمع شيئاً نكرهه، فلما بلغ ذلك قريشاً، ائتمروا أن يبعثوا إلى النجاشي فينا رجلين جلدين، وأن يهدوا للنجاشي هدايا مما يُستطرف من متاع مكة، وكان من أعجب ما يأتيه منها إليه الأدَم (الجلود)، فجمعوا له أدماً كثيراً ولم يتركوا من بطارقته بطريقاً إلا أهدوا له هدية، ثم بعثوا بذلك عمرو بن العاص وعبد الله بن أبي ربيعة قبل أن يسلما وقالوا لهما: ادفعوا إلى كل بطريق هديته قبل أن تكلموا النجاشي فيهم، ثم قدموا للنجاشي هداياه، ثم سلوه أن يسلمهم إليكم قبل أن يكلمهم . قالت: فخرجا، فقدما على النجاشي ونحن عنده بخير دار، وعند خير جارٍ فلم يبق من بطارقته بطريق إلا دفعا إليه هديته قبل أن يكلما النجاشي، ثم قالا لكل بطريق منهم: إنه قد صبا إلى بلد الملك منا غلمان سفهاء، فارقوا دين قومهم، ولم يدخلوا في دينكم، وجاؤوا بدين مبتدع لا نعرفه نحن ولا أنتم، وقد بعثنا إلى الملك فيهم أشراف قومهم لتردوهم إليهم، فإذا كلمنا الملك فيهم، فأشيروا عليه بأن يسلمهم إلينا، ولا يكلمهم، فإن قومهم أعلى بهم عيناً، وأعلم بما عابوا عليهم، فقالوا لهم: نعم. ثم إنهما قربا هداياهم إلى النجاشي فقبلها منهما، ثم كلّماه، فقالا له: أيها الملك، إنه قد صبا إلى بلدك منا غلمان سفهاء، فارقوا دين قومهم، ولم يدخلوا في دينك، وجاؤوا بدين مبتدع لا نعرفه نحن ولا أنت، وقد بعثنا إليك فيهم أشراف قومهم من آبائهم وأعمامهم وعشائرهم، لتردهم إليهم، فهم أعلى بهم عيناً، وأعلم بما عابوا عليهم، وعاتبوهم فيه. قالت: ولم يكن شيء أبغض إلى عبد الله بن أبي ربيعة وعمرو بن العاص من أن يسمع النجاشي كلامهم، فقالت بطارقته حوله: صدقوا أيها الملك، قومهم أعلى بهم عيناً، وأعلم بما عابوا عليهم، فأسلمهم إليهما، فليردَّاهم إلى بلادهم وقومهم، قالت: فغضب النجاشي، ثم قال: لا هيم الله (أي لا والله) إذاً لا أسلمهم إليهما، ولا أكاد قوماً جاوروني، ونزلوا بلادي، واختاروني على مَن سواي، حتى أدعوهم فأسألهم ما يقول هذان في أمرهم، فإن كانوا كما يقولون أسلمتهم إليهما، ورددتهم إلى قومهم، وإن كانوا على غير ذلك، منعتهم منهما، وأحسنت جوارهم ما جاوروني . قالت: ثم أرسل إلى أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فدعاهم، فلما جاءهم رسوله اجتمعوا، ثم قال بعضهم لبعض: ما تقولون للرجل إذا جئتموه؟ قالوا: نقول والله ما علمنا، وما أمرنا به نبينا صلى الله عليه وسلم كائن في ذلك ما هو كائن. فلما جاؤوه، وقد دعا النجاشي أساقفته، فنشروا مصاحفهم حوله، سألهم فقال: ما هذا الدين الذي فارقتم فيه قومكم، ولم تدخلوا في ديني، ولا في دين أحد من هذه الأمم؟.. قالت: فكان الذي كلمه جعفر بن أبي طالب فقال له: أيها الملك، كنا قوماً أهل جاهلية، نعبد الأصنام، ونأكل الميتة، ونأتي الفواحش، ونقطع الأرحام، ونسيء الجوار، ويأكل القوي منا الضعيف، فكنا على ذلك، حتى بعث الله إلينا رسولاً منا نعرف نسبه وصدقه، وأمانته وعفافه، فدعانا إلى الله لنوحده ونعبده، ونخلع ما كنا نحن نعبد وآباؤنا من دونه من الحجارة والأوثان، وأمرنا بصدق الحديث، وأداء الأمانة، وصلة الرحم، وحسن الجوار، والكف عن المحارم والدماء، ونهانا عن الفواحش وقول الزور، وأكل مال اليتيم، وقذف المحصنات، وأمرنا أن نعبد الله وحده لا نشرك به شيئاً، وأمرنا بالصلاة والزكاة والصيام قالت: فعدد عليه أمور الإِسلام فصدقناه، وآمنا به واتبعناه على ما جاء به، فعبدنا الله وحده، فلم نشرك به شيئاً، وحرمنا ما حرم علينا وأحللنا ما أحل لنا، فعدا علينا قومنا، فعذبونا وفتنونا عن ديننا، ليردونا إلى عبادة الأوثان من عبادة الله، وأن نستحل ما كنا نستحل من الخبائث، فلما قهرونا وظلمونا، وشقوا علينا، وحالوا بيننا وبين ديننا خرجنا إلى بلدك، واخترناك على من سواك، ورغبنا في جوارك، ورجونا أن لا نظلم عندك أيها الملك. قالت: فقال له النجاشي: هل معك مما جاء به عن الله من شيء؟ فقال له جعفر: نعم، فقال له النجاشي: فاقرأ عليّ، فقرأ عليه صدراً من {كهيعص}، قالت: فبكى والله النجاشي حتى أخضل (أي بلَّ) لحيته، وبكت أساقفته حتى أخضلوا مصاحفهم حين سمعوا ما تلا عليهم، ثم قال النجاشي: إن هذا والذي جاء به عيسى ليخرج من مشكاة واحدة (أي أن القرآن الكريم والإنجيل أصلهما ومصدرهما واحد)، انطلقا، فوالله لا أسلمهم إليكم أبداً ولا أكاد. قالت أم سلمة: فلما خرجا من عنده قال عمرو بن العاص: والله لأنبئنه غداً عيبهم عنده، ثم أستأصل به خضراءهم، قالت: فقال له عبد الله بن أبي ربيعة، وكان أتقى الرجلين فينا: لا تفعل فإن لهم أرحاماً، وإن كانوا قد خالفونا، قال: والله لأخبرنه أنهم يزعمون أن عيسى ابن مريم عبْد. قالت: ثم غدا عليه الغد، فقال له: أيها الملك: إنهم يقولون في عيسى ابن مريم قولاً عظيماً، فأرسل إليهم فاسألهم عما يقولون فيه، قالت: فأرسل إليهم يسألهم عنه، قالت: ولم ينزل بنا مثلها فاجتمع القوم فقال بعضهم لبعض: ماذا تقولون في عيسى إذا سألكم عنه؟ قالوا: نقول والله ما قال الله وما جاء به نبينا، كائنا في ذلك ما هو كائن، فلما دخلوا عليه، قال لهم: ما تقولون في عيسى ابن مريم؟ فقال له جعفر بن أبي طالب: نقول فيه الذي جاء به نبينا: هو عبد الله ورسوله وروحه، وكلمته ألقاها إلى مريم العذراء البتول، قالت: فضرب النجاشي يده إلى الأرض، فأخذ منها عوداً ثم قال: ما عدا (تجاوز) عيسى ابن مريم ما قلتَ هذا العود، فتناخرت بطارقته حوله حين قال ما قال، فقال: وإن نخرتم والله، اذهبوا فأنتم الآمنون، من سبكم غُرِّم، ثم من سبكم غُرِّم، ثم من سبكم غرم، فما أحب أن لي دبراً (جبلاً) ذهباً وإني آذيت رجلاً منكم، ردوا عليهما هداياهما، فلا حاجة لنا بها، فوالله ما أخذ الله مني الرشوة حين رد علي ملكي، فآخذ الرشوة فيه، وما أطاع الناس فيَّ فأطيعهم فيه.. قالت أم سلمة: فخرجا من عنده مقبوحين مردوداً عليهما ما جاءا به، وأقمنا عنده بخير دار مع خير جار) رواه أحمد. صلاة النبي صلى الله عليه وسلم على النجاشي بعد موته: أسلم النجاشي رضي الله عنه، وصدَّق بنبوة النبي صلى الله عليه وسلم، وإن كان قد أخفى إيمانه عن قومه، لما علمه فيهم من الثبات على الباطل وحرصهم على الضلال، وجمودهم على العقائد المنحرفة. وقد ذكر ابن كثير في "البداية والنهاية" قصة إسلام النجاشي رضي الله عنه في هجرة المسلمين إلى الحبشة وقوله لجعفر رضي الله عنه: "ما يقول صاحبكم في ابن مريم؟ قال جعفر: يقول بقول الله فيه: هو روح الله وكلمته، أخرجه من العذراء البتول التي لم يَقْرُبْهََا بشر، ولم يفرضها ولد، فتناول النجاشي عودا من الأرض ورفعه وقال: يا معشر القسيسين والرهبان، ما يزيد هؤلاء على ما تقولون في ابن مريم.. مرحبا بكم وبمن جئتم من عنده، فأنا أشهد أنه رسول الله، وأنه الذي بشَّرَ به عيسى، امكثوا في أرضي ما شئتم". وقد صلى عليه النبي صلى الله عليه وسلم صلاة الغائب حين وفاته، فعن أبي هريرة رضي الله عنه: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نعى النجاشي في اليوم الذي مات فيه، وخرج بهم إلى المُصَلَّى، فصف بهم وكبَّر عليه أربع تكبيرات) رواه البخاري. وفي رواية أخرى أنه صلى الله عليه وسلم قال: (مات اليوم رجل صالح، فقوموا فصلوا على أخيكم أصحمة) . وذكر النووي في "شرح مسلم": "هذا الحديث حجة للقائلين بمشروعية الصلاة على الغائب، فصلاة الغائب مشروعة في حق من مات بأرض ليس فيها من يُصَلَّي عليه، أما من صُلَّيَ عليه حيث مات فإنه لا يصلى عليه صلاة الغائب، وإلى هذا ذهب جمع من المحققين، منهم الخطابي". وترجم بذلك أبو داود في السنن فقال: "باب الصلاة على المسلم يليه أهل الشرك في بلد آخر". قال ابن القيم في "زاد المعاد": "وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: الصواب أن الغائب إن مات ببلدٍ لم يُصلَّ عليه فيه، صُلِّيَ عليه صلاة الغائب، كما صلى النبي صلى الله عليه وسلم على النجاشي لأنه مات بين الكفار ولم يُصلَّ عليه. وإن صُلِّيَ عليه حيث مات لم يصلَّ عليه صلاة الغائب، لأن الفرض قد سقط بصلاة المسلمين عليه". وقال الذهبي: "وقد تُوِّفي (النجاشي) في حياة النبي صلى الله عليه وسلم فصلى عليه بالناس صلاة الغائب، ولم يثبت أنه صلي الله عليه وسلم صلى عَلَى غائب سواه، وسبب ذلك أنه مات بين قوم نصارى، ولم يكن عنده من يصلي عليه، لان الصحابة الذين كانوا مهاجرين عنده". النبي صلى الله عليه وسلم هو الذي وجَّه الأنظار إلى الحبشة واختار المكان الآمن لدعوته وصحابته، كي يحميهم ويحافظ عليهم، وفي ذلك دلالة على حكمته صلى الله عليه وسلم ومعرفته بما حوله من الدول والممالك، طيبها من خبيثها، وعادلها من ظالمها.. وفي أمره صلى الله عليه وسلم لأصحابه بالهجرة إلى الحبشة يظهر مدى حبه لهم ورحمته بهم، وحرصه الشديد عليهم، والبحث عما فيه أمنهم وراحتهم، عند ملك عادل لا يُظلم أحد عنده، فكان الأمر كما قال صلى الله عليه وسلم، فأمِنوا في دينهم، ونزلوا عنده في خير منزل، وصدق الله تعالى القائل عن نبيه صلى الله عليه وسلم: {لَقَدْ جَاءكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ}(التوبة: 28 ) . قال ابن كثير في تفسيره: " قوله: {عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ} أي: يعز عليه الشيء الذي يعنت أمته ويشق عليها، {حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ} أي: على هدايتكم ووصول النفع الدنيوي والأخروي إليكم".