حسم جلالة الملك في خطاب العرش، الذي ألقاه ليلة السبت، وأكد فيه على حرص المغرب على إقامة علاقة جوار مع الجارة الجزائر قائمة على الاحترام المتبادل، حسم الجدل الواسع الذي خلفته كلمة سفير المغرب لدى الأممالمتحدة الذي دعا إلى الاعتراف بحق شعب القبائل في تقرير المصير، ونتساءل هنا: هل يجسد الموقفان تناقضا ما في السياسة المغربية؟، أأخطأ السفير عمر هلال في إصدار ذلك الموقف، أم أن موقفه كان بإملاء من السلطات الرسمية؟، ما علاقة السياق وسلطة الشخص بهذين الموقفين؟، ألا يمكن اعتبار الموقفين معا سجالا حجاجيا بوجهين مختلفين؟، هل يمكن اعتبار الخطاب الملكي إعلانا عن تحول رسمي من خطاب الحرب إلى خطاب اليد الممدودة؟، ما تأثير هذه الازدواجية على الآخر؟، كيف سيستقبل الخطاب، وبأي طريقة سيكون رده عليه؟، أ يمكننا أن ننتظر رد التحية السلمية المغربية بأحسن منها، أو بمثلها، أم سيبقى خطاب العداء والاستفزاز سيد الساحة السياسية الجزائرية؟ للإجابة عن هذه الأسئلة وغيرها لابد من وضع الموقفين معا في إطار حجاجي يتخذ من البلاغة سلاحا مضاء لتحقيق مآرب سياسية، بعضها آنٍ، وبعضها الآخر متوسط المدى أو بعيده، يتخذ من خلالها مواقف تبتعد كثيرا عما قد يعده البعض حسما في هذه القضية أو تلك، وتصب في إطار مناورات سياسية تروم اقتحام عالم الآخر، وتسجيل أهداف سياسية قاتلة في شباكه، يقول حبيب أعراب:"غاية الحجاج ليست هي الصواب أو الصحة، بل التأثير والتقبل"[1]، وطبعي في هذه الحال أن تُستغل البلاغة في مظهرها الجديد، وبتقنياتها الحديثة لتحقيق هذا الطموح وفرشه على سطح الواقع السياسي، والانتصار للذات عن طريق القول الذي ينفذ ما لا تنفذ الإبر كما يقول الأخطل، فالبلاغة في هذا السياق السياسي السجالي إذن "تغدو ضرورية بمجرد الرغبة في التأثير على الآخر بواسطة الكلام"[2]. كلمة عمر هلال: دور السياق في نسج مفرداتها، وأثرها الحجاجي على الآخر لا يمكن، بأي حال من الأحوال، تجريد الوقائع الحجاجية من سياقها، وتناولها بمعزل عنها، وكل إبعاد للسياق بهذا الصدد سيكون ضربا من العبث، ومغامرة غير محسوبة لن تفضي إلا إلى نتائج واستنتاجات خاطئة، يقول ج. براون و ج. يول:"إن الفكرة القائلة بإمكان تحليل سلسلة لغوية تحليلا كاملا بدون مراعاة السياق قد أصبحت في السنين الأخيرة محل شك...يتحتم على محلل الخطاب أن يأخذ بعين الاعتبار السياق الذي ورد فيه مقطع ما من الخطاب"[3]. كلمة عمر هلال وردت في سياق سجالي، واتخذت صيغة رد الفعل على كلمة وزير الخارجية الجزائري الذي أقحم موضوع ما يسمى بالشعب الصحراوي في مداخلته بمؤتمر دول عدم الانحياز، ولاشك أن السفير تلقى لحظتها الضوء الأخضر من رؤسائه ليرد بحزم على مخرقة الوزير، مستعملا مبدأ حجاجيا يتأسس على مبدإ قلب البرهان على صاحبه، فإذا كان المسؤول الجزائري قد عزف على وتر حق الشعوب في تقرير مصيرها وتصفية الاستعمار في هذا السياق، فقد اعتمد السفير المغربي على الحجة ذاتها في الحديث عن حق الشعب القبائلي في تقرير مصيره وتخليصه من الاستعمار الجزائري، وهذا ليس موقفا دبلوماسيا رسميا ثابتا ، بقدر ما هو استراتيجية حجاجية تروم إفحام الآخر، ونقله من وضع المهاجم إلى وضع المدافع، وهي إحراج بليغ لحلفاء دولته من المساندين للدعوة الانفصالية الذين يربطون دائما بين موقفهم هذا، وبين إيمانهم بحق الشعوب في تحقيق مصيرها، فكلمة السفير استعارة تتأسس في ظاهرها على الحرب، وتتجه في عمقها الحجاجي نحو هدم أطروحة الآخر باستغلال المبدإ نفسه الذي يتكئ عليه، وإسقاطه على حالته بطريقة عقلانية لا تتيح له أي فرصة للخلاص، وتوقعه أثناء الرد في التناقض، كما توقع مناصريه في الإحراج، والأمر هنا يفرض تجاوز الظاهر من القول بحثا عن الدلالات الثاوية خلف الكلمات، ولعل في رد الفعل الجزائري الرسمي شيئا من أثر هذا القول الذي أفلح صاحبه في إيقاع الآخر في التناقض الباعث على السخرية، والمفضي إلى دفع المتتبع إلى مساءلته عن تناقضه الصارخ بين ما يدعو إليه من نصرة شعب يدعي أنه مستعمَر، وبين ممارسته للفعل الاستعماري في حق شعب يعيش تحت نير احتلاله، ولهذا فحجة التناقض الذي سعى البات إلى تطويق خصمه بها "تقود في أحيان كثيرة إلى الإضحاك، إنها توقع بالخصم، وتهدم ما يبنيه بالخطاب، بل تجعل كل الوضعية مضحكة حين تبرز العبثية وتوغل في تصوير المفارقة الصارخة"[4]، فرغم أن ملامح السفير المغربي كانت تنطق بالجدية والحزم، إلا أن كلمته كانت ذات طاقة حجاجية مرفودة بضرب من التهكم وضع خصمه في موضع يبعث على الضحك، وجعل أطروحته الانفصالية تتعرض للتبخيس بهذا الاستدعاء البرهاني الذي يستضمر قياسا يخاطب الآخر قائلا:"ضع نفسك مكاني". خطاب الملك محمد السادس والجنوح إلى قانون التلطيف أحيانا قد يلجأ مرسل الخطاب إلى تلطيف خطابه بسبب وجود مواضعات ديبلوماسية أو سياسية تحول دون دخوله غمار السجال الدائر المؤسَّس على توظيف معجم حربي للرد على تجاوزات الآخر واستفزازاته، وتفرض شخصية المتكلم نفسَها عليه، فتدفعه إلى تلطيف خطابه وبنائه بناء ناعما، وهذا ينطبق على ما ورد في الخطاب الملكي من كلام حضرت فيه البلاغة الناعمة بشكل وازن، وتأسس على مغازلة الآخر ومد يد الصلح إليه، ودعوته إلى فتح صفحة جديدة وطي صفحة الماضي، ولو أن الملك اختار أسلوب الاتصال، وتحدث بدوره بالحديث الصادر عن السفير، فهذا يعني تأكيدا رسميا لخطاب الخصام والحرب، ويحتم على المغرب فتح قنصلية قبائلية في أراضيه، ودعم الأطروحة الانفصالية القبائلية ماديا ومعنويا، حفاظا على التماسك، ونأيا بالنفس عن توريطها في الثرثرة، لأن الكلام هنا صادر عن أعلى سلطة في البلاد، وليس عن مجرد موظف لا يتمتع بسلطة القول التي يتمتع بها الملك. قد يبدو هذا الخطاب المفعم بالنعومة مناقضا تماما للخطاب الحربي الذي صدر عن السفير، وأقرته الدولة المغربية حينما التزمت الصمت ولم تجب عن استفسارات القادة الجزائريين، وتركتهم يتجرعون مرارة الموقف، دون أن تقدم أي ترياق توضيحي بهذا الصدد. على مستوى الشكل يختلف الخطابان من حيث الشكل، فخطاب السفير يتأسس على الاستدلال العقلي، وخطاب الملك محمد السادس خطاب عاطفي يستثير عاطفة الجمهور، ويراعي ميولاته وانفعالاته، لكن على مستوى المضمون يصب الخطابان معا في مصب واحد، فإذا كان الأول قد حاصر الآخر وأوقعه في التناقض المفضي إلى السخرية، فالخطاب الثاني وإن ظهر أنه أطفأ نارا متأججة، فقد أشعلها بطريقة أخرى جعلت الآخر في موقف لا يحسد عليه، فهذا الخطاب يمكن اعتباره جوابا مطمئنا يدعوه إلى الاطمئنان التام وإزالة كل الشكوك حول إمكانية انخراط المغرب في مساندة الدعوة الانفصالية القبائلية، وهذا الجواب يستضمر سؤالا محرجا للمسؤولين الجزائريين: ماذا أنتم فاعلون تجاه قضيتنا الوطنية؟، أما آن الأوان لتقلعوا عن غيكم في دعم الكيان الانفصالي المصطنع؟، لاشك أن هذا الخطاب قد وضع الآخر في الزاوية الضيقة، ولن يسمح له بالجنوح إلى أسلوب المناورة، فإما أن يرد بالإيجاب، وهذا يعني الانخراط في علاقة حسن جوار تتأسس على احترام السيادة المغربية، والتخلي عن الكيان الانفصالي، وإما أن يتعنت ويستمر في سياسته العدائية تجاه المغرب، وهنا سيكتشف الشعب الجزائري أن نظامه هو سبب التوتر الحاصل بين البلدين، وهو ما سيزيد من منسوب احتقان هذا الشعب، ومن سخطه على مسؤوليه، مما سيجعل البات يتجاوز التأثير في الجمهور إلى الاتحاد معه، ودفعه إلى التجاوب الوجداني والعاطفي مع الأطروحة المغربية التي صدرت عن أعلى سلطة في البلاد، وعامل الزمن سيكون حاسما في تحديد المواقع ونشوء ردود الفعل، وقد لا نستغرب، إن استمر المسؤولون الجزائريون في عنادهم، أن يعمد العاهل المغربي إلى مخاطبة الشعب الجزائري، وتذكيره بجريرة قادته، وبتعنتهم وانتهاجهم سياسة لا تراعي مصالحهم ومصالح جيرانهم.
هكذا إذن توزعت الأدوار، الدور الأول أداه موظف (السفير عمر هلال)، والدور الثاني شخصته أعلى سلطة في البلاد (الملك محمد السادس)، الأول صفع بقوة، والثاني عانق وقَبَّلَ، واعتمادا على حجة الموثوق (حجة السلطة)، فالموقف الثاني يتجاوز الموقف الأول، لكنه لا يلغيه نهائيا، ويبقى رد الفعل الجزائري هو الفيصل في ما قد تؤول إليه الأوضاع، ونرجو أن يكون التعقل وبعد النظر والحكمة دليل القادة الجزائريين في الرد، وهو ما يمكن أن ينعكس إيجابا على شعبين لم يعودا يطيقان وضعا فوت عليهما فرصا تنموية كثيرة.