الخيارات الكبرى لملك هي خيارات شعب وخيارات أمة. وهي نتاج لسيرورة تاريخية عمرت وستعمر لقرون لتنضج وتصبح ركنا أساسيا في المنظومة المعرفية والوعي السياسي لأمة بأكملها. هذا الوعي يجد له ترجمة في قوالب قانونية ودستورية تحدد فيها الصلاحيات والمسؤوليات التي أنيطت لملوك المغرب وتطورت في الزمن لتستقر اليوم على أن ملك البلاد هو رمز لهذا الوطن، وأنه قائد القوات المسلحة الملكية، وأمير المؤمنين وحامي حمى الملة والدين، والساهر على وحدة البلاد، والضامن لأمنها واستقرارها. وهو بذلك فوق جميع السلطات والساهر على ديمومتها واستمرارها. لكل هذه الاعتبارات وبفضل هذه المكانة الدستورية وباعتباره ذلك الراعي المسؤول على رعيته، يحق لجلالته، ومعه شعبه، أن يتخذ كل ما يراه مناسبا لخدمة الأمة. فهو السلطة العليا في البلاد بحكم الدستور ولا يحق لأي كان أن ينصب نفسه بأنه هو المؤتمن على هذه الرعية. كانت دعوة ملك لرفع التحدي في وجه الاستعمار وانخرط فيها الشعب المغربي لتصبح ثورة ملك وشعب، وكان نداء ملك لتنظيم مسيرة سلمية واستجاب له الشعب لتصبح مسيرة خضراء. وها هي اليوم سياسة ملك ثالث فرضها على العالم ليعترف له بصحرائه، كما يحمل رسالة سلام كسرت الأقفال كما كسرت الجمود ليجد بجانبه شعبا على العهد وعلى الوفاء لا يتزحز.
وخير ما أقدم عليه جلالة الملك هذه الأيام هو خير ما فعله لصالح البلاد والعباد. والتعليمات الملكية بإعادة استئناف العلاقات مع إسرائيل خلفت لدى مختلف شرائح المجتمع المغربي ارتياحا كبيرا ولدى كافة الأحزاب السياسية ومكونات المجتمع المدني. كما ابتهجت له الجالية المغربية في مختلف أنحاء العالم، وخاصة أبناء الطائفة اليهودية المغربية في إسرائيل وغيرها الذين جعلوا من هذا الحدث يوما وطنيا بامتياز. وردا على من يشكك في ولاء اليهود المغاربة وفي جنسيتهم وعلى رأسهم السيد أحمد ويحمان، يكفي أن ننعش ذاكرته بما قاله المغفور له الملك الحسن الثاني ّإذا خسرت مواطنا يهوديا فاعلم أنك كسبته كسفير يدافع عن مغربه". وقد صدقت نبوءة ملك، والملوك لا ينطقون عن الهوى.
ففي غمرة هذه الأحداث التي تزامنت مع اعتراف أكبر قوة في العالم بمغربية الصحراء، خرجت علينا زمرة من المناضلين المغشوشين بخرجات مشؤومة ولعينة وأرادت أن تفسد على المغاربة فرحتهم وأن تقطع الطريق على كل ما يمكن أن يساهم في خدمة السلام وعلى رأسها القضية الفلسطينية. وتبين أن هؤلاء الذين يسمون أنفسهم بالمناضلين، قد عزلوا أنفسهم عن الشعب المغربي وباتت ألاعيبهم مكشوفة بدليل أن ما دعوا إليه من وقفات احتجاجية أو تضامنية أمام البرلمان لم يحضر إليها إلا نفر قليل منهم أي من أولئك الذين لفظتهم الحرب الباردة وألقي بهم في مزبلة التاريخ المنسي.
والواقع أن البحث في توابل الحملة التي يشنها أولئك الذين يناهضون ما يسمونه بالتطبيع لا طعم لها وتسد الشهية، وتفتقر إلى قوة الدفع وإلى قوة الإقناع، بل أكثر من ذلك أن أصحاب هذا المشروع ليس بمقدورهم أن يقنعوا حتى أنفسهم بذلك، فبالأحرى أن يقنعوا الشعب المغربي. وحملتهم هي أهون من بيت العنكبوت لا تستقيم على حجة وليس لها أساس من الأصل.
ومن يدعو إلى مقاطعة إسرائيل عليه أن يتوفر على بديل عن تلك المقاطعة. والبديل في هذه الحالة هو إعلان الحرب على هذا الكيان، فهل الدول العربية قادرة على مواجهة إسرائيل عسكريا. أما من يناهض ّالتطبيع" على الأقل يجب عليه أن يلتحق بفلسطين ليناضل هناك، لا أن يبيع الوهم للشعب الفلسطيني في الرباط. فإن كانوا رجالا أو في مستوى ما يرفعونه من شعارات ماذا ينتظرون لإنقاذ الطفل الفلسطيني ولمواساة الأم والزوجة الفلسطينية التي فقدت إبنها أو زوجها. إننا نتمنى من المناضل الكبير خالد السفياني وشقيقه أحمد ويحمان أن يلتحقا بصفوف المقاومة. لا تغالطوا الشعب المغربي ولا تغالطوا الشعب الفلسطيني فأنتم سماسرة القضية الفلسطينية. هذه القضية عندكم لا تعدو أن تكون سوى صكا تجاريا. هل العبرة بحمل الكوفية الفلسطينية أم العبرة بحمل البندقية الفلسطينية. لا أحد يمنعكم من الذهاب إلى هنالك، فتأكدوا أن الطريق ليس فيها مطبات.
والمثير للاستغراب والاشمئزاز أن يلجأ وزير في حكومة صاحب الجلالة إلى قناة معادية للمغرب ، وهي قناة "الميادين" الإيرانية، ليصرح لها بموقف معارض للتوجه المغربي. فهذا ضرب من الجنون قد يثير الشكوك في مدى ولائه للمغرب. وكان حري بهذا المسؤول أن يعلن من خلال تلك القناة عن فرحة المغاربة وبهجتهم بالإنجاز العظيم الذي تحقق بعد اعتراف أكبر دولة بسيادة المغرب على صحرائه. لكن السيد الوزير أمكراز فضل أن يجاري الخط الإعلامي للقناة لغاية في نفس يعقوب على حساب الخط السياسي لبلاده. ولذلك، من لم يعجبه هذا التوجه وهو توجه جميع المغاربة، عليه أن يسلم المفاتيح ويقدم استقالته أم أن ّالديب حرام ومصارنو حلال". كم انت كريم أيها الكرسي.
وما دمتم تظهرون عجزا عن طرح البديل وهو الخيار العسكري أو المقاومة، فلماذا تشوشون على البدائل الأخرى التي يمكن أن تخدم القضية الفلسطينية. والمغرب في شخص جلالة الملك حينما قرر استئناف العلاقات الرسمية مع إسرائيل في حدود التمثيل الدبلوماسي المعلن وهو إعادة فتح مكتب اتصال، فلأن في ذلك خطوة ذكية ومدروسة لا تدرون عنها شيئا أيها المهرجون المغفلون. فالمغرب لم يرفع مستوى التمثيل إلى سفارة بل أبقاه عند حدود مكتب اتصال والمقصود من ذلك هو الإبقاء على هذا التمثيل في حده الأدنى، ورفعه في المستقبل إلى مستوى أعلى يبقى مرهونا بعملية السلام وبخدمة القضية الفلسطينية: مسمار جحا. ولعل هذا هو القصد من هذا القرار ومن الاتصال الهاتفي الذي أجراه جلالة الملك مع الرئيس الفلسطيني محمود عباس. ومن المؤكد أن السيد أبو مازن قد التقط الرسالة. ولذلك إذا كنتم غير قادرين أيها المناهضون على الاستيعاب والفهم، فاخرسوا وكفوا عن اللغط. فأنتم المتطفلون على السياسة، والتاريخ لا يصنعه إلا العظماء، والملك محمد السادس واحد من عظماء هذا العهد. وهل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون.
وبفضل هذه العلاقات المستأنفة مع إسرائيل يكون المغرب قد أصبح في موقع مؤهل، كما كان في الماضي، لكي يلعب دور الوسيط في تحريك مسلسل المفاوضات على المسار الفلسطيني بين الإسرائيليين والفلسطينيين. ولذلك، من الوارد في المستقبل أن يستضيف المغرب على أرضه لقاءات واجتماعات بين الطرفين وأن يرعى تلك المفاوضات بشراكة مع الأمريكيين وبالتنسيق مع بعض الأشقاء العرب. والخروج من مرحلة الركود والجمود بات مطلبا للمرحلة الراهنة وذلك بتحريك الوضع الراكد في أفق التفاوض على حل يفضي إلى إقامة دولة فلسطينية بجانب دولة إسرائيل . فحالة اللاحرب واللاسلم حالة لا تخدم القضية في شيء.
ولأن المغرب بما له من ثقل في هذا المجال وما يحظى به من ثقة لدى الأطراف المعنية، فهو لا يكترث ببعض الدول المارقة التي تتضايق من الأدوار التاريخية للمملكة في الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، ومن نية المملكة الجادة والصادقة نحو إيجاد حلول لبعض الأزمات في المنطقة العربية. ولذلك، فإن تلك الدول تحاول أن تتسلل بالشك والريبة للوصول إلى مبتغاها وهو التشويش، عبثا، على الدبلوماسية المغربية الهادئة. وقد يصدق فيهم القول المأثور وهو "أهل الميت صبروا، أي أصحاب القضية، والعزايا كفروا".
وبالفعل، فإن الصمت الذي التزمته القيادة الفلسطينية حيال قرار المغرب في علاقته مع إسرائيل والتعليمات التي أعطاها أبو مازن بعدم الإدلاء بتصريحات في هذا الشأن، مرده إلى كون تلك القيادة واعية ومدركة لما يمثله المغرب من وزن ومن ثقة في خدمة القضية، وهي متفائلة بحضور المغرب على الساحة الإسرائيلية. ومن المؤكد أن هذا الموقف الفلسطيني لن يرضى عنه النظام الجزائري الذي بات يرى في نفسه أنه تجاوزته الأحداث بحكم هذه التطورات، وهو الذي كان يراهن على زرع الفتنة في قضية لطالما استخدمها، في سياق ما يدعيه من مساندة حركات التحرر، لأغراضه السياسية المناوئة للمغرب. واليوم يخشى النظام الجزائري أن تسقط من يده هذه الورقة الفلسطينية، كما سقطت منه ما يسمى بورقة القضية الصحراوية. بعد كل ذلك، بات النظام الجزائري في عزلة تامة عربيا وإفريقيا ودوليا. لقد خسر هذا النظام كل شيء، وخسر قضية كان يعتبرها الحمض النووي لبقائه حيا. واليوم يخسر معركته مع المغرب التي أنفق فيها كل شيء على حساب قوت الشعب الجزائري. كل ذلك ذهب هدرا. ولم تعد لهذا النظام قضية يلهي فيها الرأي العام الداخلي وبالتالي سيقوده هذا الوضع إلى المساءلة والمحاسبة يعلم الله تداعياتها.
هذه التطورات وما أفرزته من ردود على المستوى الداخلي، جعلت المغاربة يقفون على حقيقة واحدة لم يعد فيها مجال للتردد وهي بلورة إجماع وطني واصطفاف جميع المغاربة وراء ملكهم في كل القضايا ذات الصلة بالوطن. وتبين أن لا مصلحة تعلو مصلحة البلاد، وأن قضيتنا فوق كل القضايا وفوق كل الاعتبارات السياسية، على عكس ما يزعم بعض الذين يريدون أن يحجروا على المغاربة بأيديولوجيات من عهد الحرب الباردة، لكن مزاعمهم لم تجد لها مكانا وسقطت أقنعتهم ليجدوا أنفسهم في عزلة متزايدة بسبب التزاماتهم غير الوطنية. إنها زمرة تفيض بمشاعر قومجية مستهجنة حينما يتعلق الأمر بأجندات خارجية، ويموت فيها ذلك الإحساس الوطني وتتابع بكل شماتة مسلسل المؤامرات التي تحاك ضد المغرب والمغاربة، وكأن الأمر لا يعنيها والوطن ليس وطنها.