برزت العولمة بمفهومها العام في بداية العقد السابع من القرن التاسع عشر، ونظراً للتطورات التي أحدثتها الثورة التكنولوجية والمواصلات والإتصال أواخر الثمانينات ومع ظهور شبكة الأنترنت التي سهلت التدفق الإعلامي عبر الدول. طبعت العالم أجمع بأنماط سلوكية تنمحي وتنصهر في ظلها الثقافات الخاصة، مشكلة بذلك ثقافة عالمية موحدة. بهذا تكون العولمة بمختلف أشكالها خاصة العولمة التقنية قد أثرت بشكل واضح في البنيات الإجتماعية والثقافية بحيث سحقت الخصوصية الثقافية والحضارية للمجتمعات. لقد شكلت العولمة النواة والإطار العام للتكنولوجيا الحديثة، بحيث مكنت الفرد من التواصل مع الآخر وأتاحت لهما فرصة ولوج نفس المصادر المعرفية والترفيهية بقيود مخففة أو مكسرة في غالب الأحيان. إن خدمات التكنولوجيا الحديثة باتت متاحة أمام جميع الفئات والأعمار على حد سواء، ولعل من بين ما يفتح الأفراد على الخدمات التكنولوجية طبيعتهم الإجتماعية، بالدرجة الأولى، والتي تطورت بدورها من التواصل والإجتماع المباشر إلى التواصل الإجتماعي عن بعد. الأمر الذي يفتحهم على خيارات متعددة وبأعداد كبيرة بل حسب الحاجات والشروط المرغوبة في الأخر، ناهيك على أن التكنولوجيا الحديثة باتت حقلاً واسع وسوق يلجه الكل والمصدر المعتمد الأكثر رواجاً. وحسب إحصائية أجريت سنة 2016 فقد بلغ عدد مستخدمي الأنترنت بالمغرب أكثر من 22 مليون مستخدم من أصل ما يقارب 36 مليون نسمة، وبهذا فإن الأسرة تجد نفسها في ظل العولمة والتكنولوجيا الحديثة أمام جملة من التحديات المترتبة عن الأنترنت، لعل أهمها تعاطي أبنائها وتفاعلهم بصور غير مقننة مع الوسائل الإلكترونية كالهواتف الذكية وتطبيقات الألعاب ومواقع التواصل الإجتماعي التي باتت تُعرف بالعبث وغياب التنظيم. لقد أكد وفيق صفوت مختار الذي إهتم بالتأثيرات الإجتماعية للتكنولوجيا الحديثة على الأسرة والعلاقات الأسرية. وبخاصة التكنولوجيا الرقمية بأدواتها المتعددة والمختلطة، أن هناك احتمالات قوية أن يؤثر دخول الهاتف الجوال والفضائيات والحاسوب على العلاقات الأسرية عامة. وعلى العلاقة بين الوالدين والأطفال والشباب بصفة خاصة. وإننا هنا سنحاول أن نترصد تأثيرات التكنولوجيا الحديثة على شخصية وسلوك الطفل من مقدار مشاهد العنف داخل هذا الحقول التكنولوجية. على الرغم من أنها ليست معروفة بشكل دقيق وليست محل إتفاق الباحثين والمهتمين. لم تنحصر إستعمالات الانترنت في مجال البحث العلمي والتقني فقط بل توسعت إستعمالاته لتغطي جوانب الترفيه والتسلية. وأصبح الأنترنت هامش لفك الضغوط وكسر القيود الإجتماعية. فقد بات الأن فضاءاً مليئاً بمشاهد العنف والعدوان وهو بهذا كتلة المشاعر والسلوكات المكبوتة التي لا يقبل المجتمع تصريفها فيه بصور تخالف القوانين والأعراف. فبمقدور أي شخص داخل هذا العالم الإفتراضي أن يعبر كيف ما شاء ومتى يشاء وبالطرق التي يعتقد أنها تلبي رغبته. ومن هذا المنطلق سنحاول تركيز البحث على شكلين رئيسيين يتضح فيهما مشهد العنف وكيف يؤثر على المهارات الشخصية والإجتماعية. أول هذه الأشكال برامج الألعاب الإلكترونية، وثانيها المقاطع المصورة في وسائط التواصل الإجتماعي. لا يخفى على أغلب مستخدمي الأنترنت والتكنولوجيا الحديثة الشعبية الكبيرة التي تحظى بها بعض الألعاب الإلكترونية، خاصة الألعاب التي تعتمد على محاكاة المعارك والحروب بصور أقرب ما تكون إلى الواقع. ولعل مبرمجي هذا النوع من الألعاب فطنو إلى حجم الإقبال على منتجاتهم مما يدفعهم ويحفزهم إلى تطوير وتحديث هذه الألعاب لتكون أكثر إثارة وجاذبية للمستخدمين، الشئ الذي يغرقهم في غياهب الإدمان والتعاطي لها بشكل كبير. ولعل أولى خطوات الوقوع في شباك المبرمجين، الرغبة في التجريب والإستمتاع مع باقي الأقران أو الأشخاص المجهولين النشيطين داخل اللعبة. لكن الأمر يصبح فضيعاً عندما ينتقل الطفل من وضع المستكشف والهاوي إلى وضع المدمن، بحيث يغرق في إستخدامها حد الإختلاء بها، وفي مقابل ذلك ينقطع عن مزاولة النشاطات والمهام الإجتماعية مع الأهل والأصدقاء في محيطه الواقعي الأمر الذي يفقده مستقبلاً مهارات التواصل والعلاقات الاجتماعية. وإننا بقولنا هذا لا ننكر التأثيرات الإيجابية للألعاب الالكترونية، فقد تساعد ممارسها على إشباع رغباته في اللهو والتسلية وتنشيط قدراته الدهنية وزيادة التركيز والإنتباه مع المواضيع التي يتعرض لها. ولكن في الوقت نفسه، تكون لها آثر سلبية إذا إنتقل به الوضع من موقف تطبيق وممارسة سلطته عليها إلى موقف خضوع وضعف، نعني هنا إختلال تفاعل الإنسان مع الآلة. ويمكننا أن نحصي جملة من هذه الانعكاسات السلبية على الصحة الجسدية للطفل كأمراض العيون وآلام الرقبة وأمراض نفسية مثل القلق، التوتر، وإضطرابات النوم والعزلة. هذه الآثار يكون لها وقع سيئ على سلوك الطفل تجاه الآهل بحيث يميل إلى إستعمال العنف والغضب، وقد يتم توجيه وتدوير هذه النتائج لتصيب ذات الشخص كأن يقدم عن الإنتحار أو إذاء نفسه بطرق مختلفة. هذا الإذاء الموجه نحو الذات يكون بعضه مقصودا وآخر عرضي غير مقصود كأن يحرم نفسه من حاجاته البيولوجية أثناء اللعب من أكل وشرب وإمساك. إن ألعاباً كثيرة تطبع ذهن الطفل بأشكال مختلفة من العنف والقتال بالأسلحة كالسيوف. مثلاً، الأمر الذي يُكون لديه صوراً ذهنية حادة قد تجبره أو تدفعه للمارستها في الواقع. وقد لاحضناً بعض نماذج الأطفال الذين وصل بهم الأمر حد إدمان الألعاب الإلكترونية، الشئ الذي دفعهم إلى إرتكاب جرائم في حق الأباء حين إمتناعهم عن شحن هواتفهم أو توفير إشتراكات في الأنترنت. وقد نعتبر هذا الأمر إشارة تدق ناقوس الخطر إزاء من يقضون ساعات طوال أمام هذه الألعاب. ليست الألعاب الإلكترونية الخطر الوحيد الذي يهدد التنشئة الإجتماعية والسلوكية للطفل أو المصدر المنفرد بمشاهد العنف، بل إن هناك شعب وقنوات أخرى يأتي على رأسها وسائل التواصل الإجتماعي (Social Media) كمنصات غنية بمقاطع الفيديو والصور التي يتم رفعها من طرف المستخدمين، والتي لا تحترم الشروط والقوانين أو لا تستجيب للمعايير الأخلاقية والقيمية والإنسانية. لقد سهلت الهواتف والحواسيب عملية التواصل والربط بين الأشخاص وتعدت خدماته ربط الإتصال اللاسلكي، وأصبح من خلال برامجه وتطبيقاته يبدع لمستخدميه إهتمامات جديدة تتعدى طرق التواصل الثنائي الكلاسيكي. لعل أشهر هذه التطبيقات والمنصات مواقع التواصل الإجتماعي المختلفة، التي تسمح للمستخدم خلق هوية رقمية جديدة وتقاسم الأفكار والإهتمامات والمواهب وتسمح له بتكوين زمرة إجتماعية خاصة والتي تشارك بدورها إهتماماتها ونشاطاتها. ومما تعارف عليه مستخدموا وسائل التواصل الإجتماعي مشاركة ورفع مقاطع الفيديو خاصتهم وكذلك بث برامجهم المصورة على المباشر. من هذا المنطلق وبناءاً على حرية المشاركة كفلسفة لهذه الوسائط، عرفت هذه المواقع عشوائية في التدبير والتنظيم وباتت غنية بمحتوى لا يحترم القيم والآداب العامة. فنجدها تحتضن مواد خليعة تخدش الحياء ومقاطع أخرى تجسد أمثلة واقعية للمارسات العنيفة البشعة التي لا ينصح بمشاهتها من طرف الأطفال خاصة. فرغم الضوابط والخصوصيات التي تسطرها مواقع التواصل الإجتماعي للحد من صور العنف على منصاتها، يلاحظ إختراقها بصورة كبيرة جداً لتصبح مادة ومحتوى معروض للجميع، ومن بينهم الأطفال. إن هذه الأدوات الجديدة تكرس أزمة التواصل وتزيد من حجم العزلة التي يضع الطفل نفسه فيها، وأنه بقدر الربط الذي تتيحه مع جهات أخرى تزج به في عالم الإغتراب والعزلة الإجتماعية. ناهيك على أن الطفل -خاصة الذي يعاني من ضغوطات أسرية- يجد في مواقع التواصل الإجتماعي ملاذاً يهرب إليه من القيد والراقبة الأسرية، واضعين أنفسهم أمام محتوى قد لا يلائم الخصوصية النفسية للطفل الناشئ. لقد أشارت سجي دراغمة وهي مرشدة تربوية، أن الطفل يكون حريصاً على توسيع دائرة علاقاته الاجتماعية خارج حدود الأبوين إلى رحاب باقي الأصدقاء والأقارب. وتتميز هذه المرحلة بالنشاط والطاقة الزائدة لدى الطفل وتطبعها مفاهيم الخصوصية والاستقلالية ووضوح فردية الطفل وإكتساب اتجاه سليم نحو الذات، وهي السمات المكونة لشخصية الطفل المقبلة. لكن هذه الخصائص تضعف عندما تتدخل التكنولوجيا بصورة مضطربة في هذا البناء معرقلة بذلك نموه الحسي والإجتماعي. إن العزلة الإلكترونية تطوق الطفل بمظاهر عنف شديدة تكسبه صوراً وسلوكات عدوانية قابلة للممارسة، وأنها كذلك تفقده أساليب التواصل الفعال والحوار الحسن الأمر الذي يوفر الظروف المناسبة لإعادة تصريف العنف المكتسب من خلال هذه الوسائط. على إعتبار أن السلوك هنا ما هو إلا مجموعة العادات والأساليب السيئة التي يكتسبها الفرد أثناء مراحل نموه. نستطيع القول أن واقع الطفولة أمام هذه التكنولوجا الحديثة يعرف إدطراب وسوء التنظيم وضعف الرقابة الأسرية على أبنائها. ذلك أن شريحة كبيرة من الأسر والأطفال -خاصة في الطبقة الشعبية- ليس لها دراية بالتأثيرات التي تحدثها هذه التكنولوجيا على الصحة الجسدية والنفسية، اللهم بعض الأعراض الصحية البائنة كضعف البصر. متلاً، أما ما يجري على المستوى النفسي فلا يكون محط إهتمام الطفل والأسر مع أنه المتحكم الرئيسي في سلوك الطفل وأفعاله. وإننا هنا ندعو إلى نهج برامج توعية بمخاطر التكنولوجيا الحديثة على الصحة النفسية والجسدية للطفل وإلى توسيع خيارات وحقول إدراك الطفل، ذلك بسلك كل السبل والوسائل المعرفية والأنشطة التثقيفية مع تسخير الإمكانيات التي تتيحها التكنولوجيا نفسها تحت رقابة الأباء وأولياء الأمور حرصاً على حسن إستعمالها. وكذلك إلى تكثيف الأنشطة الترفيهية والحركية داخل المدارس والأندية الرياضية وإحياء دور الشباب لخلق تعبئة متكاملة بين جميع الفاعلين ومؤسسات المجتمع المدني العاملة في هذا السياق، قصد سد فجوات الوقت الضائع لدى الأطفال والشباب على حد سواء. * نعمان حمداوي طالب بالمعهد الملكي لتكوين الأطر