تحضر عبر تفاصيل حياتنا اليومية في الزمن الكوروني مجموعة من الوقائع و الطقوس تنقلنا كأفراد و كجماعات من حالة إلى أخرى في شكل تغيرات و تحولات تتسرب و تتسلل بشكل بطيء و غير مرئي إلى نسقنا الاجتماعي، لكنها تترسب و تتوطد عبر الزمن بتؤدة و تمهل لتنقلنا من واقع تطبعنا بتمظهراته اليومية وبديهياته الوجودية منذ زمن طويل في شكل علاقات وتفاعلات صارت عنوانا لحياتنا وعاداتنا بعدما استندت و اتكأت في أصولها على مرجعياتنا القيمية و الأخلاقية وأعرافنا المتوارثة وديدننا المجتمعي التقليدي ، إلى انبجاس و نشأة علاقات جديدة تحاول الانسلاخ من العباءة القديمة لترتدي أشكال من الألبسة قد تكون وليدة اختيار فردي و قد تكون مفروضة بصيغة الضبط الاجتماعي و القانوني ، فتتحول مع الزمن من الجبر إلى الاختيار و من الإلزام إلى الرضى و من الضبط و الإرغام إلى الاستئناس و التعود ومن تم تغدو مع الوقت عادة روتينية و ممارسة تلقائية لا تحتاج إلى تبرير أو تعليل ، بمعنى أنها تأخذ صفة التطبع لتصير جزءا من ثقافتنا و كينونتنا و سيرورتنا الاجتماعية و لتكتسب مع الزمن قوة التأثير و الإقناع فتتحول من صيغة المؤقت والعبور و الفعل النشاز إلى العادة اليومية و الممارسة المستدامة تكتسي صفة الاستمرار من دون أن تثير أي ضجيج أو استهجان ، لدى يتوجب على كل من انبرى إلى رصد هذه التغيرات و التحولات أن يتملك الحاسة السادسة و العين الثالثة التي تغوص في تفاصيل التفاصيل وتبحث في ثنايا النسيج الحياتي المشترك ، و تترصد كل ثابت أو متحول يحاول البزوغ و التعريف بنفسه في خضم قضايا و أحداث متلاحقة ، فتجعله كمتتبع يعجز بادئ الأمر عن بلورته بالشكل اللازم و مقاربته المقاربة الصحيحة مع أنه يشي ببداية حصول انتقال و تحول نحو ولادة نسق وبناء اجتماعي جديدين ، بمعنى أن فعل التغيير " يصبح ملاحظا في الزمان ، يلحق ، بطريقة لا تكون عابرة في بنية و سيرورة النظام و البناء الاجتماعيين " كما يقول غي روشيه ، فكيف وجهت كورنا إذا علاقاتنا مع مجتمعنا في اتجاه الفردانية ؟ وكيف صاغت تفاعلاتنا مع أنفسنا وغيرنا وطورت أشكال تفاوضنا مع الزمن والمكان؟ وهل كان للزمن الكوروني تأثير كبير على تحول نسقنا الاجتماعي وبنياته؟ من بديهيات الاشتغال على أي مجتمع أن لا نضعه في صندوق ثلج كما يقول إيكلمان بمعنى لابد من استحضار وجود تحول وتغير مستمرين ما دام الواقع يسير دائما نحو التقدم و التبدل و إن كان لا يلمس بسهولة ، وبالتالي فإن أي تغيير يطرأ على القناعات الفكرية و السلوكيات العملية هو عملية مخاض طويل ومستمر يحتاج لنفس و قوة كما يتطلب رصدا مطولا يتعدى الزمن القصير، ومع هذا و في خضم قراءتنا لتفاصيل الحياة اليومية في
الزمن الكوروني يستفز الملاحظ بروز نوع من الفردانية التي باتت تطفو يوميا بين ثنايا الحياة اليومية لتمد جذورها بين كواليس العلاقات الاجتماعية في غفلة من مجتمع بات همه تدبير مرحلة الخروج من هذا الوباء بأقل الأضرار، مع أن قيمه المترسخة و حمولته الثقافية وتقاليده المتجذرة في التاريخ ترفض الفردانية المتطرفة و تلفظ كل نزوع نحوها ، وهي بالمقابل تتعصب وتعلي من حظوة العقل الجمعي و العمل الجماعي ، يقول برتراند راسل " لا تخش أن تكون فكرتك اليوم غريبة ، فكل الأفكار المقبولة اليوم كانت غريبة فيما مضى " أو بصيغة أوضح أن أية ثقافة جديدة تتشكل هي تعبير عن فعل و ردة فعل تلبي في نفس الوقت ظهور حاجات جديدة كما يقول مالينوفسكي ، وهي في تدرجها الاجتماعي تحتاج إلى مجموعة من التوابل حتى تختمر و تنضج عبر آليات اجتماعية تساعد في فعل الوجود و التثبيت من مثل : أولا المرونة في التواصل اللفظي والإجماع على استعمال الرموز بشكل جماعي وثانيا من خلال تملك القدرة على الاكتشاف و الاختراع و ثالثا الرغبة في خلق أشكال من التفاعل و التوافق تيسر ميلاد وقائع جديدة ، وقد أجبرنا الزمن الكوروني وفترة الحجر المنزلي على بزوغ نوع من الإبداع عبر ممارسات يومية تتجه للفردانية ، فأصبحت سلوكا غير عابر بعدما لم تعد تثير دهشة المشاهد أو استغراب الملاحظ و لا امتعاض الشريك و الصاحب ، ولعل من بعض مظاهر السلوك الفرداني التي باتت تطبع علاقاتنا العادية ما تم رصد بعض من جوانبه في الأشكال التالية :
* إن البيوت كفضاء أسري وثقافي وكتشكيل معماري و مظهر جمالي تتجلى فيه الروح الحضارية التي تسكن روح الشعوب ما فتأت اليوم تختزل أوجه الصراع والتنابز بين بعض القيم التي تؤطر نظرة المجتمع للوجود ، لتعبر اليوم و لو بشكل لا إرادي عن توجه أفراده نحو الانفرادية في خضم الاستعمال اليومي لفضاءات هذه البيوت من خلال أزمنة و أمكنة الاجتماع و أساليب التفاعل وأشكال التفاوض مع الوقائع التي تمس جانبا من أنشطة الأسرة العادية ، فالواقع يقول أن حجم الأسر المغربية بدأ في النزوع المكثف باتجاه الأسرة المركزية التي في الغالب لا يزيد عددها عن أربعة أشخاص و في بيوت باتت تضم على الأقل 3 غرف كمعدل عام نسبي ، بمعنى غرفة للزوجين و غرفة منفردة لكل طفل أو طفلة ، مما يفضي الى استفراد كل فرد بحيزه المكاني فيرسم حدود الاتصال و الانفصال مع باقي الأعضاء الشيء الذي ينعكس على طريقة تدبير حياته اليومية من أكل ونوم ودراسة و مشاهدة التلفاز ومشاركة في النقاشات العائلية فيكبر رويدا جبل الجليد الذي يوسع البون بين الأطراف ، وهو ما تكرس بشكل فاضح في فترة الحجر المنزلي مع الآثار الاجتماعية و النفسية التي صاحبته ، جعلت الأطفال منهم خصوصا ينزعون نحو الوحدانية و العزلة لحد الاغتراب في ظل اشتياقهم للفعل الدراسي و ابتعادهم القسري عن أصدقائهم في المدرسة بما تعنيه من توفير لفضاءات التفاعل بينهم تجعلهم يكتسبون طرقا في التعبير و الاتصال الجماعي عبر الأنشطة و الألعاب التي تكون على هامش الزمن الدراسي .
* تحول الزمن الافتراضي إلى موجه أساسي نحو الفردانية وهو الذي صار مدخلا أساسيا للتعبير عن مجريات العصر و ككينونة وجودية للإنسان المعاصر، بعدما تخطى واقع الإنترنيت فعل التسلل إلى التجدر وانتقل من دهشة البداية الى عادة التطبع والتعود ، وبعدما تحولت هوية الانسان الواقعية إلى هوية رقمية تعكس علاقاته و تفاعلاته اليومية و نظرته للمحيط و الكون بصفة عامة ، وهي هوية بدأت بمفهوم عكسي حيث تم استثمارها من قبل الصغار و الشباب في بداية الأمر كجيل تواجه لأول مرة مع مفرزات هذا الاجتياح لحد التخمة لينتقل و ليمتد تأثيره إلى الكبار في دور تعقبي إجباري مفروض على هذه الفئة خشية عدم اللحاق بالمجتمع الشبكي ، وقد عرى الزمن الكوروني تجليات هذا التفاوض الاجتماعي للأفراد بصيغة تتسم بهيمنة الأضداد كما يوضح السوسيولوجي المغربي عبد الرحيم العطري فالحضور يكون برفقة الغياب ، فنحن نرتحل من موقع لأخر بلا انتقال ، و نحضر و نشارك بلا وجود ، و نتحدث ونقترب بلا جيرة ، وهو ما لامسناه في الدروس التعليمية عن بعد و في العمل عن بعد ومختلف أشكال التواصل اليومي بيننا كأقارب و عوائل و كأفراد في هذا المجتمع ، بمعنى آخر أن كورونا شرعنت الحضور الالكتروني الفرداني في سيرورتنا اليومية وأجبرتنا على التقيد بكل شروط التعلم وعوالم الإبحار في هذا العالم المجهول بالرغم عنا مع ما أفرزته من أعطاب قيمية .
* إن انغلاق الأطفال و الشباب على أنفسهم تكرسه اليات استخدام الوسائل التقنية المستعملة من حواسيب و هواتف نقالة و لوحات الكترونية ...و التي تحتم ضرورة توفر كل الأفراد على حسابات رقمية ( Facebook ، WhatsApp، Instagram ، Email...) هي بمثابة حسابات افتراضية شخصية ممهورة بشفرات سرية من أجل الولوج إليها ، يمارس فيها المستعمل نوعا من الخصوصية الفردية والسلطة الوهمية في تدبير تفاعلاته اليومية لتصبح علاقاته معها من مثل الحسابات البنكية التي لا يجوز لغير صاحبها الاطلاع عليها ومن تم فهي ملك شخصي تتيح له ممارسة فعل التملك و الانتفاع بلغة أهل القانون ، مع طمس كل امكانية لمشاركة الغير إلا برغبة ارادية منه ، م فيغيب معه أي شكل من الجماعية و التشاركية في الاستعمال أو أية أشكال للتفاوض المشترك بين الأفراد كحق متاح للجميع ، كما أن النجومية في هذه الوسائط تمتح من الفردانية و النرجسية في حب الظهور و الاستعراض ( Buzz ، Scoop ، Tendance ...) بما يعنيه من إقصاء ضمني للعمل التعاوني الجماعي الدي ينتصر لروح الجماعة ، بل تعدى الأمر لمجموع المستعملين (أو ما يسمى الجمهور بلغة الرياضيين ) الذين يتسمون في أسلوب تعبيرهم عن مشاعرهم و أشكال تفاعلاتهم و في تقييمهم لما ينشر على صفحات هذه الوسائط بالبرودة و الانعزالية الموغلة في الفردانية فيكتفون باستعمال مفردات لغوية نمطية جافة مثل ( like ، partager، vue ...) التي لا تخلق أي مجال للانفعال و
الهوس الجماعي ، بمعنى غياب أية حميمة أو احتفالية تمتح من الغليان والاحتفال الجماهيري كما تعودنا عليها في مدرجات الملاعب أو المسارح.
* تحولت كل أشكال التعبير الرمزية و الطقوس الجماعية ومختلف التقاليد والمظاهر الثقافية الجماعية في زمن كورونا الى لغة من الإيماءات و الرموز الإيحائية و التمظهرات التي تنهل من الفعل الفرداني ، و التي بدأت أولا تحت تأثير الضبط القانوني من خلال فرض اجراءات الحجر المنزلي و التباعد الاجتماعي كإجراء وقائي إلزامي للحيلولة دون استفحال المرض ، لتتحول في غضون الأشهر اللاحقة الى ممارسة مألوفة تكتسب نوعا من "القعيدة " و التطبع و لتحظى بنوع من القبول الإجباري في البداية ثم الإرادي بعد ذلك ، و لتعلن عن حضورها الموازي مع أشكال العلاقات الأخرى التي صار الأفراد يبتعدون عنها شيئا فشيئا من مثل السلام بالأيدي و اشكال العناق والقبل عند النساء وكذلك في صيغ التباعد المفروض الذي نلحظه على موائد المقاهي و المطاعم ووسائل النقل و في ارتياد المرافق العمومية و في المساجد ...وفي غياب التجمعات و الأنشطة الجماهيرية أو الطقوس الجنائزية ومناسبات الأفراح العائلية ، وفي إغلاق المساجد أمام الصلاة الجماعية وصلاة الجمعة و التراويح و الأعياد ...كأشكال من العلاقات التي لطالما نهلت من الوعي الجماعي والديني للمجتمع و عبرت عن قيم التضامن و التكتل الجماعي التي تنصهر فيه الجماعة بشكل كلي ، و من تم فان غيابها يبلور سلوكيات فردية بتنا نستأنس بها يوميا لتستقر في الحالة الذهنية للأفراد و في لاوعيهم الجماعي فتولد لديهم قناعة بالقبول ، و لتظهر في ممارسات صارت شيئا فشيئا تكتسب صفة الطبيعي العادي و في حل من أن يتم تبريرها واقعيا أو شرحها اجتماعيا ما دامت قد اكتسبت صفة الشرعية الاجتماعية في خلسة من أي ضبط او ممانعة .
هي إذن بعض من المظاهر التي طفت على السطح في أيامنا هذه لتعبر عن بدايات للضمور الجماعي للعلاقات الاجتماعية اليومية في اتجاه اعلاء اشكال من الفردانية والانعزالية و الغربة التي يزيد منسوبها يوما عن يوم فيتلقى الفرد كل ساعة جرعات من خلطتها تفيض عن الحد المسموح به تجعله يكتسب صفة الاعتياد و التعود بل قد يتحول لإدمان يحوز صفة العادة الطبيعية العادية ، و هو أمر يجد مستنده و سنده في القصف الإعلامي الليبرالي اليومي عبر رأسملة المجتمع و تفتيته و تصدير أشكال الحياة الغربية التي تتبنى قدرة التأثير الفردي تدريجيا في احداث موجات من التحول الفكري و المجتمعي بتمجيد كل ما هو فرداني و الابتعاد عن روح الجماعة والعقل الجمعي و حظوة المجتمع الذي اعتبره جون ستيوارت ميل كنوع من" استبداد الجماهير التي تتخوف من الأفكار الفردية التي تخرج عن طوع المجتمع و ذوقه العام" ، في حين يجب التذكير من باب النصح ليس إلا على أن التعاون المجتمعي ظل عنوانا تاريخيا ميز سيرورتنا الزمنية عبر قرون ، وأن الواجب يحتم إعادة التفكير في المسارات و التوجهات التي باتت تؤطر
علاقاتنا اليومية في اتجاه إعلاء الروح الجماعية مع إيجاد هامش منطقي للتعبير الفردي من دون أن تصير ظاهرة مزمنة و التي لاشك سيكون لها أثار سلبية على مجتمعنا ، بمعنى أصح إيجاد نوع من التوازن و التكامل بين " النحن" و الأنا " لأنه لا يمكن ان يحل الفرد مكان الجماعة و لن تكون هناك هوية من دون " النحن " ، فاليد تغسل الأخرى و أما الوجه فيغسله الاثنان كما يقول المثل اليوناني و نحن جميعا نجذف في القارب نفسه .