رمضان شهر الصيام.. رمضان شهر القيام.. رمضان شهر الجود.. رمضان شهر الانتصارات.. لقد جمع رمضان كل هذا الخير وغيره كثير.. وجمع معه أيضا أنه شهر الدعوات المستجابات. والدعاء من أجل القربات وأعظم الطاعات، وقد وصف بأنه العبادة كما في الحديث [الدعاء هو العبادة].. لأنه جمع مقاصدها. وهو أكرم شيء على الله، ومن أعظم أسباب دفع البلاء قبل نزوله، ورفعه بعد نزوله، كما أنه سبب لانشراح الصدر، وتفريج الهم، وزوال الغم، وهو مفزع المظلومين، وملجأ المستضعفين.
والدعاء وإن كان سنة مشروعة مندوبا إليها في كل وقت وحين، إلا أنه في أوقات مخصوصة وأماكن معلومة يكون آكد سنيَّة، وأشد طلباً، وأرجى قبولا.. ومن الأوقات التي يُلتمس فيها الدعاء ويُطلب أيام رمضان ولياليه؛ فقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن دعاء الصائم مقبول وأن دعوته لا ترد. فقد روى ابن ماجه في سننه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: [إن للصائم عند فطره دعوة لا ترد] قال في (مجمع الزوائد): إسناده صحيح . وروى الإمام أحمد والترمذي وابن ماجه من حديث أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: [ثلاثة لا تُرد دعوتهم: الإمام العادل، والصائم حتى يفطر، ودعوة المظلوم](صححه الألباني). وكلام العلماء في تفسير الحديث يدل على أن الدعاء يكون قبل الإفطار ووقت الإفطار وبعده. ورجح بعضهم أنه وقت الفطر أدعى للقبول والله تعالى أعلم.
وفي كتاب الله تعالى ما يدل على الترغيب في الدعاء للصائمين، فقد ذكر الله في وسط أيات الصيام قوله سبحانه: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ}[البقرة:186].. وهذه الآية في وسط آيات الصيام إشارة إلى أن الدعاء في هذا الشهر من أجل العبادات، وأن الصائمين المتضرعين أرجى للقبول والحظوة عند الرب الغفور.
قال البيضاوي: اعلم أنه تعالى، لما أمرهم بصوم الشهر، ومراعاة العدة على القيام بوظائف التكبير والشكر، عقَّبه بهذه الآية الدالّة على أنه خبير بأحوالهم، سميع لأقوالهم مجيب لدعائهم، مجازيهم على أعمالهم، تأكيداً وحثّاً عليه. [تفسير البيضاوي: 1/221].
وقال ابن عاشور: نظم الآية مؤذن بأن الله تعالى بعد أن أمرهم بما يجب له عليهم أكرمهم فقال: وإذا سألوا عن حقهم علي فإني قريب منهم أجيب دعوتهم... ثم قال رحمه الله: وفي هذه الآية إيماء إلى أن الصائم مرجو الإجابة، وإلى أن شهر رمضان مرجوة دعواته، وإلى مشروعية الدعاء عند انتهاء كل يوم من رمضان.
ادعوا ربكم تضرعا وخفية وأما صفة الدعاء المستجاب فقد ذكرها جل في علاه في قوله في سورة الأعراف: {ادْعُواْ رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} [الأعراف: 55]. فأمرهم سبحانه أولا بالدعاء.. وإن كان بعض أهل العلم فسره على أنه أمر بالعبادة مطلقا.. إلا أن الصحيح هو أنه أمر بعبادة مخصوصة وهي عبادة دعاء المسألة، وهي سؤال العبد ربه كل ما يحتاجه من أموره. فهو سبحانه لواسع كرمه وعظيم فضله وجوده وبره يأمرهم أن يسألوه ثم يعدهم أن يستجيب لهم ويحقق لهم طلبتهم ويعطيهم سؤلهم.. فالدعاء عبادة محبوبة إليه يغضب على من تركها كماقال النبي صلى الله عليه وسلم: [من لم يسأل الله يغضب عليه]. لا تسألن بني آدم حاجة .. .. وسل الذي أبوابه لا تحجب الله يغضب إن تركت سؤاله .. .. وبني آدم حين يسأل يغضب وأمره سبحانه بالدعاء مشعر في ذاته بالإجابة لأنه لو لم يرد أن يعطي لما أمر بالسؤال. لو لم ترد نيل ما أرجو وأطلبه .. .. من جود كفك ما علمتني الطلبا
وقوله ربكم: أي الذي رباكم بصنوف النعم، وأغدق عليكم أنواع المنن، ولطائف الفضائل، ومازال يتولاكم مذ كنتم نطفا في أصلاب آبائكم، ثم أجنة في بطون أمهاتكم، ثم ما زال يغذوكم بفضله، ويوالي عليكم نعمه حتى صرتم كبارا.. فالفضل كله بيديه، والقدرة كلها عنده، والأمر كله إليه، لا يعجزه شيء، ولا يصعب عليه شيئ.. ومثل هذا يدعى دون غيره.. كما قيل: لا تجلسن بباب من .. .. يأبى عليك دخول داره وتقول حاجاتي إليه .. .. يعوقها إن لم أداره اتركه واقصد ربها .. .. تقضى ورب الدار كاره فرب الكون هو الذي يقصد وحده، فاقصده في جليل أمرك وقليله؛ كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: [ليسأل أحدكم ربه حاجته كلها حتى شسع نعله إذا انقطع فإنه إن لم ييسره لم يتيسر].
تضرعا: أي تذللا وتمسكنا وافتقارا.. خاضعين له، متمسكنين عنده، منكسرين بين يديه، متذللين له سبحانه.. واسألوه سؤال المسكين، وادعوه دعاء الخائف الذليل، سؤال من رغم له أنفه، وخضعت له رقبته، وذل له قلبه، وفاضت له عيناه.. دعاء الغريق الذي يعلم أنه لا ملجأ له ولا منجا من الله إلا إليه. "فما الغريق في لجج البحر على خشبة في تضرعه إلى الله بأحوج إلى الله من الآمن المستقر في قعر بيته" كما قال ابن قدامة يرحمه الله.
ومن التضرع رقع اليدين عند الدعاء .. فإن الله يستحي من العبد أن يرفع إليه عبده يديه ثم يردهما صفرا خائبتين.
ومن التضرع كثرة الإلحاح والتكرار، وألا تتبرم إذا أبطأت عليك الإجابة؛ فإن الله يستجيب لعبده ما لم يعجل ويقول دعوت فلم يستجب لي فيستحسر حينئذ ويدع الدعاء.
واعلم أنك رابح مع الدعاء في كل حال؛ فإن الله إما أن يعطيك مسألتك ويجيب دعاءك، وإما أن يصرف عنك من السوء مثلها، وإما أن يدخرها لك يوم القيامة.
ومن التضرع الثناء على الله وتحميده وتمجيده ووصفه بما هو أهله.. والصلاة والسلام على رسوله في أول الدعاء وآخره.
ومن التضرع أن تحضر قلبك وقت الدعاء، فتجمع همتك، ويواطئ القلب اللسان، فإن الله لا يقبل دعاء قلب لاه.
وأن تعزم المسألة فإن الله تعالى لا مستكره له، وأن توقن بالإجابة فقد قال صلى الله عليه وسلم: [ادعوا ربكم وأنتم موقنون بالإجابة]... وقد قال عمر والله إني لا أحمل هم الإجابة ولكني لا أحمل هم الدعاء.. يعني إذا جاء الدعاء فالإجابة معه لأن الله تعالى قال: {ادعوني أستجب لكم}.
وخفية أي أخفوا دعاءكم، واجعلوه فيما بينكم وبين الله، ولا ترفعوا به أصواتكم رفعا منكرا.. فالدعاء الخفي أولى بالقبول كما العمل الخفي، وكلما كان العمل أخفى عن الخلق كلما كان أدعى للإخلاص، وأبعد من الرياء، وأرجى للقبول عند رب الأرض والسماء. وقد مر النبي صلى الله عليه وسلم على جماعة يرفعون أصواتهم في دعائهم فقال: [اربعوا على أنفسكم، إنكم لا تدعون أصمّاً ولا غائباً، إنكم تدعون سميعاً بصيراً] [رواه البخاري ومسلم]
لا يحب المعتدين وقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أنه سيكون قوم يعتدون في دعائهم.. ومن الاعتداء في الدعاء: الدعاء بظلم أو إثم أو قطيعة رحم.. وهذا دعاء مردود على صاحبه غير مقبول: "يستجاب لأحدكم ما لم يدع بإثم أو قطيعة رحم".
ومن الاعتداء في الدعاء أن يدعو الإنسان بما لا يجوز أو المستحيلات الشرعية، كأن يسأل الله منازل الأنبياء، أو يصعد الله به إلى السماء وأمثال هذا.
ومن التكلف في الدعاء: الإطالة المفرطة والمبالغة في السجع، وفي صحيح البخاري عن ابن عباس رضي الله عنهما: "فانظر السجع من الدعاء، فاجتنبه فإني عهدت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه لا يفعلون إلا ذلك الاجتناب".
أيضا ورد النهي عن التفصيل المخل، فعن ابن لسعد بن أبي وقاص -رضي الله عنه- أنه قال: (سمعني أبي وأنا أقول: اللهم إني أسألك الجنة ونعيمها وبهجتها وكذا وكذا، وأعوذ بك من النار وسلاسلها وأغلالها وكذا وكذا. فقال: يا بني، إني سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: «سيكون قوم يعتدون في الدعاء» فإياك أن تكون منهم، إنك إن أعطيت الجنة أعطيتها وما فيها من الخير، وإن أعذت من النار أعذت منها وما فيها من الشر) [رواه أبو داود وحسنه الحافظ ابن حجر].
وعن عبد الله بن مغفل سمع ابنه يقول: "اللهم إني أسألك القصر الأبيض عن يمين الجنة إذا دخلتها. فقال: يا بني، سل الله الجنة وعذ به من النار، فإني سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: «يكون قوم يعتدون في الدعاء»، فسمى التفصيل في الدعاء اعتداء.
وإنما ينجي من هذا الاعتداء التزام أدعية القرآن الكريم، وما ورد من جوامع أدعية النبي صلى الله عليه وسلم؛ فإنها خير الدعوات وأحبها إلى الرب سبحانه، فإن النبي صلى الله عليه قد أوتي جوامع الكلم واختصر له الكلام اختصارا.
وأخيرا فإن التماس أوقات الدعاء المرجو القبول فيها يجعلها أقرب للإجابة كعند الأذان وبين الأذان والإقامة، وفي ثلث الليل الآخر.. وغيرها من الاوقات التي ذكرها النبي صلى الله عليه وسلم في أحاديثه الصحاح.
نسأل الله أن يتقبل منا ومنكم الصيام والقيام والدعاء وسائر الأعمال. وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا.