إن المتتبع لنصوص الوحيين يجد بما يبلغ درجة اليقين؛ أن الشريعة الإسلامية قررت مبدأ المساواة في عموم تفاصيلها وخصوصها، وطبقته تطبيقا كاملا في عظيم شؤون الناس وحقيرها. ومن هنا يرتكز التشريع الإسلامي على مبدأ المساواة ليتحقق بذلك العدل بين أفراد المجتمع، إذ تطبيق العقوبة على الجميع يحقق العدالة، بحيث يعتبر كل أفراده سواسية أمام التشريع الإسلامي، فليس لإنسان على آخر فضل إلا بالتقوى. ولابد لأي تشريع جنائي -كي ينجح في أداء رسالته - من أن يطبق القانون على كافة من يخالفونه دون حَيف، بحيث لا يتم التمييز بين الناس على أساس اللون أو الجنس أو النسب...، وبذلك تسري فيه روح المساواة (l'esprit de l'égalité ) سريان السمن في اللبن. ومن ثم اعتبرت المساواة أهم المبادئ التي تستند إليها الأنظمة السياسية الحديثة؛ لأن انتفائه يُفقد الناس ثقتهم في تحقيق التشريع للعدالة، وتبرز دوافع السعي للانتقام والثأر، وبذلك يختل نظام المجتمع وينعكس حاله من انتظام إلى انفراط، وبحسب مجتمعٍ مِن الشر أن ينحدر حاله إلى هذا الدرك الوبيل.
إن نظرة عجلى على تاريخ العرب في جاهليتها تؤكد أن الإسلام جاء والحياة العربية قائمة على التفاضل بينهم بالنسب والجاه والمال، وصور هذا التفاضل تطغى على جميع مظاهر الحياة الدينية والدنيوية، فكانت دية القتيل من الأشراف –مثلا – أضعاف دية الشخص العادي، وكان هؤلاء لا يرضون أحيانا بقصاص من القاتل إلا أن يشمل كل قبيلته.(1)
وقد واجه الإسلام هذه العادات القبلية الجائرة بالإنكار الصريح، مقررا مبدأ المساواة بين الخلق أجمعين، وأنهم جميعا متساوون أمام أحكام الله تعالى. فقرر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن المسلمين تتكافأ دماؤُهم، فمن قتل فإنه يقتص منه القصاصَ العادل؛ إلا أن يعفو أولياء المقتول، فتجب لهم الدية، وجعل دية القتيل مئة إبلٍ دون تفرقة بين شخص وآخر.
فنظرية المساواة نزلت على الرسول صلى الله عليه وسلم وهو "يعيش في قوم أساس حياتهم وقوامها التفاضل، فهم يتفاضلون بالمال والجاه، والشرف واللون، ويتفاخرون بالآباء والأمهات، والقبائل والأجناس، فلم تكن الحياة الاجتماعية وحاجة الجماعة هي الدافعة لتقرير نظرية المساواة، وإنما كان الدافع لتقريرها من وجه هو رفع مستوى الجماعة ودفعهم نحو الرقي والتقدم، كما كان الدافع لتقريرها من وجه آخر ضرورة تكميل الشريعة بما تقتضيه الشريعة الكاملة الدائمة من مبادئ ونظريات" (2).
ونزيد خطوة في بيان أسبقية التشريع الجنائي الإسلامي في ترسيخ مبدأ الساواة، فنقول: لئن كانت نظرية المساواة قد عُرفت في الشريعة الإسلامية من أربعة عشر قرناً فإن القوانين الوضعية لم تعرفها إلا في أواخر القرن الثامن عشر، وقد بدأ تقدير هذا المبدأ في العصر الحديث في (إعلان الحقوق الفرنسي: la déclaration française des droits de l'homme ) الصادر في سنة 1789م، أي بعد قيام الثورة الفرنسية مباشرة، هذا الإعلان الذي يعد أكثر إعلانات الحقوق شهرة؛ لأنه أحرز قيمة عالمية بتبني معظم دساتير العالم لمبادئه وتضمنها نصوصاً تدل بوضوح على التأثر به، حيث اتخذت هذه الثورة شعار: "الحرية والأخوة والمساواة" (. Liberté . Egalité fraternité).
في مقابل ذلك نجد التشريع الإسلامي الجنائي يضع الناس - من بداية تنزل الوحي - في مواضعهم التي وضعهم الله فيها، فلا يفرق بين طبقات المجتمع على الأسس التي ابتدعتها أوضاع المجتمعات الظالمة، بل الكل سواء أمام أحكام الشريعة لا فرق بين شريف وضعيف، ورفيع ووضيع، ووزير وخفير، وسيد ومَسود، وحاكم ومحكوم، قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} (الحجرات:13)، وقال صلى الله عليه وسلم من حديث جابر: (يا أيها الناس؛ إن ربكم واحد و إن أباكم واحد، ألا لا فضل لعربي على عجمي، ولا لعجمي على عربي، ولا لأحمر على أسود، ولا لأسود على أحمر إلا بالتقوى) رواه أحمد وأبو نعيم.
الناس من جهة الآباء أكفاء.. أبوهم آدم والأم حواءُ فإن يكن لهم من أصلهم نسب يُفاخِرون به فالطين والماءُ
فنصوص الشريعة تسري على كل الأشخاص، ولا يُعفى منها أي شخص مهما كان مركزه أو ماله أو جاهه أو صفاته، وتعمل الشريعة على تطبيق مبدأ المساواة إلى آخر حدوده، ولا تسمح بتمييز شخص على شخص، أو هيئة على هيئة، أو فريق على فريق. إن المساواة في إيقاع العقوبة وتطبيقها على كلّ مجرم دون تمييز بينهم، يعتبر مدخلا رئيسا لسد ذريعة التمييز بين الجناة، ومن أهم ما سدت به الشريعة هذا الباب تحريم الشفعة في الحدود، بحيث لم تخوّل هذا الأمر لأحد ولو كان نبيا مرسلا، بقصد ضمان المساواة في التطبيق، وبالتالي يترتب على ذلك تحقق الجزاء العادل المقابل لكلّ جريمة.
ولذلك نجد الرسول صلى الله عليه وسلم قد أرسى قواعد المساواة والعدالة في موقفه من المرأة المخزومية التي سرقت، ففي حديث عائشةَ رضي اللّه عنها أنّ قُرَيْشاً أَهَمَّهم شأنُ المرأةِ المَخْزُوميّةِ التي سَرَقَتْ، فقالوا: "مَن يُكَلِّم فيها رسولَ اللّه صلى الله عليه وسلم ؟". فقالوا: "مَن يَجْتَرِئُ عليه إلا أُسامةُ بنُ زَيْدٍ حِبُّ رسولِ اللّه صلى الله عليه وسلم؟ فَكلَّمَه أسامةُ، فقال رسولُ اللّه صلى الله عليه وسلم: (أتَشْفَعُ في حَدٍّ من حُدُود اللّه تعالى؟) ثم قام، فاخْتَطَبَ، ثم قال: (إِنَّما أَهْلَكَ الذين مِنْ قَبْلِكم أَنَّهم كانوا إِذا سَرَقَ فيهم الشَّرِيفُ تَرَكُوه، وإِذا سَرَقَ فيهم الضَّعِيفُ أقاموا عليه الحَدَّ، وايْمُ اللَّهِ لَوْ أَنَّ فاطمةَ بِنْتَ محمدٍ سَرَقَتْ لَقَطَعْتُ يَدَها). متفق عليه
بل إنه أعطى من نفسه القدوة في ترسيخ هذا المبدأ بحيث عرض نفسه للقصاص، ففي غزوة بدر كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعدل صفوف أصحابه بقدح كان في يده، فمر بسواد بن غزية، حليفِ بني النجار، وهو مستنتل - أي خارج - من الصف، فطعن رسول الله في بطنه بالقدح [=قطعةٌ من الخشب تُعرَّض قليلاً وتُسَوَّى، وكان يستعمل في المَيْسِر]، وقال : استو يا سواد، فقال: أوجعتني يا رسول الله، فأقِدْني، فكشف رسول الله عن بطنه، فقال: استقد. فاعتنقه وقَبَّلَ بطنَه، فقال رسول الله: ما حملك على ما صنعت؟ فقال : يا رسول الله، حضر ما ترى، ولم آمن من القتل، فأردت أن يكون آخر العهد بك أن يمس جلدي جلدك، فدعا له رسول الله بخير(3).
وهكذا يتبين من هذه النصوص أن الشريعة الإسلامية قد قررت مبدأ المساواة أمام النصوص الجنائية وطبقته تطبيقا كاملا، بعكس القوانين الجنائية الوضعية التي وضعت استثناءات تتمثل في إعفاء بعض الأشخاص من العقاب على ما يرتكبون من جرائم، مثل استثناء رؤساء الدول وأعضاء البعثات الدبلوماسية، وأفراد القوات المسلحة الأجنبية من تطبيق العقوبات على الجرائم التي يقارفون.
أما الشريعة فقد أقرت منذ الوهلة الأولى مبدأ المساواة في العقاب، "فليس لأحد امتياز في الإجرام، ولو كان الإمام الأعظم الذي ليس فوقه أحد من الولاة بحكم منصبه، واتفق العلماء على ذلك، فإذا ارتكب الإمام جريمة قصاص أو حدا استحق العقاب، فليس له شخصية مصونة لا تمس، إنما شخصه يتساوى مع الجميع على السواء أمام شرع الله تعالى"(4).
فالحاكم والمحكوم متساوون بين في تطبيق الحدود، وقد كان في تطبيق رسول الله صلى الله عليه وسلم حد القذف على من قذفوا السيدة عائشة – رضي الله عنها – ما نفهم منه اطراد مبدأ المساواة في تطبيق العقوبات الإسلامية. فقال السهيلي في شرحه على سيرة ابن هشام عند ذكر توقيع الرسول صلى الله عليه وسلم عقوبة الحد على القَذَفة: "وفيه التسوية بين أفضل الناس بعد النبي صلى الله عليه وسلم، وأدنى الناس درجة في الإيمان: لا يزاد القاذف على الثمانين وإن شتم خير الناس بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا ينقص منه"(5).
ومن صور المساواة في الشريعة الإسلامية أيضاً؛ أن العقاب يكون من جنس الجرم، كما قال عز وجل: {وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا} (الشورى: 40)، فالقاتل يُقتل، وقطع الأطراف يقابله قطع الأطراف، والجروح جزاؤها جروح مثلُها، قال تعالى: { وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالْأَنفَ بِالْأَنفِ وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ فَمَن تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَّهُ وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} (المائدة: 45). ففي هذه الآيات دلالة صريحة على مبدأ المساواة بين الناس دون أي تمييز أو ظلم، سواء في شرعنا أو شرع من قبلنا؛ ف"شرع ما قبلنا شرع لنا ما لم يكن له ناسخ"، كما هو مقرر في قواعد الأصول.
وقال تعالى: { وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} (البقرة: 179)، فالقصاص على جميع البشر وجيمع الأجناس فلم تستثني الآية أحداً من العقاب إذا كان يستحقه.
إن التشريع الجنائي الإسلامي يرتكز على مبدأ المساواة العامة التي أقرها الإسلام حين اعتبر الناس سواسية كأسنان المشط، ولم يكتف بمجرد رفعه شعارا فحسب، بل نقله من فكرة مجردة إلى واقع ملموس، ولم يجعله محض قول، وإنما طبقه فعلاً بين الناس، فالحلال حلال للجميع، والحرام حرام على الجميع، والفرائض ملزمة للجميع، والعقوبات مفروضة على الجميع. وقد تفيأ المسلمون ظلال المساوة والعدالة في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم، مما سبق أن ألمعنا إلى بعضها. وفي عهود الخلفاء الراشدين نجد كثيراً من الصور والأمثلة لتطبيق مبدأ المساواة بين جميع الناس، دون تفريق أو تمييز. وحسبنا في ذلك قصة عمر بن الخطاب رضي الله عنه مع جبلة بن الأيهم، ملك غسان، الذي وطئ إزاره أعرابي أثناء طوافه بالبيت الحرام، فغضب الأمير الغساني لذلك ولطمه لطمة قاسية هشمت أنفه، فأسرع الأعرابي إلى أمير المؤمنين يشكو إليه ما حل به، فأرسل الفاروق إلى جبلة يدعوه إليه، ثم سأله فأقر بما حدث، فقال له عمر: لقد أقررت، فإما أن ترضي الرجل، وإما أن أقتص له منك. فقال جبلة: وكيف ذلك وهو سوقة وأنا ملك. فقال عمر: إن الإسلام قد سوى بينكما. فطلب جبلة أن يمهله ليفكر في الأمر، فأذن له عمر بالانصراف، وخرج من مكة هو وقومه في جنح الظلام، وفر إلى القسطنطينية، فتنصر بها، ومات على ذلك. ----------------- 1- القصاص في الشريعة الإسلامية، أحمد محمد إبراهيم ص 9 – 10. 2- التشريع الجنائي الإسلامي، عبد القادر عودة: ج1 ص 126. 3- البداية والنهاية، ابن كثير: ج 3 ص 271. 4- الجريمة والعقوبة في الفقه الإسلامي، محمد أبو زهرة: ص 253. 5- الروض الأنف، السهيلي: ج2 ص 225. 6- البداية والنهاية، ابن كثير الدمشقي: ج7 ص 9.