سفير ألمانيا في الرباط يبسُط أمام طلبة مغاربة فرصا واعدة للاندماج المهني    بوريطة: المقاربات الملكية وراء مبادرات رائدة في مجال تعزيز حقوق الإنسان    ولي العهد الأمير الحسن يستقبل الرئيس الصيني بالدار البيضاء الذي يقوم بزيارة قصيرة للمغرب    تحطم طائرة تدريب يودي بحياة ضابطين بالقوات الجوية الملكية    متابعة موظفين وسماسرة ومسيري شركات في حالة سراح في قضية التلاعب في تعشير السيارات    هل يؤثر قرار اعتقال نتنياهو في مسار المفاوضات؟    عشر سنوات سجنا وغرامة 20 مليون سنتيما... عقوبات قصوى ضد كل من مس بتراث المغرب        رسميا: الشروع في اعتماد 'بطاقة الملاعب'    أبناء "ملايرية" مشهورين يتورطون في اغتصاب مواطنة فرنسية واختطاف صديقها في الدار البيضاء    الحكومة توقف رسوم الاستيراد المفروض على الأبقار والأغنام    الصحراء: الممكن من المستحيل في فتح قنصلية الصين..        المغرب التطواني يقاطع الإجتماعات التنظيمية مستنكرا حرمانه من مساندة جماهيره    أول دبلوم في طب القلب الرياضي بالمغرب.. خطوة استراتيجية لكرة القدم والرياضات ذات الأداء العالي    الحزب الحاكم في البرازيل يؤكد أن المخطط المغربي للحكم الذاتي في الصحراء يرتكز على مبادئ الحوار والقانون الدولي ومصالح السكان    تعيينات بمناصب عليا بمجلس الحكومة    مجلس الحكومة يصادق على مشروع مرسوم بوقف استيفاء رسم الاستيراد المفروض على الأبقار والأغنام الأليفة    "بتكوين" تقترب من 100 ألف دولار مواصلة قفزاتها بعد فوز ترامب    الرباط : ندوة حول « المرأة المغربية الصحراوية» و» الكتابة النسائية بالمغرب»    المنتدى الوطني للتراث الحساني ينظم الدورة الثالثة لمهرجان خيمة الثقافة الحسانية بالرباط    بعد غياب طويل.. سعاد صابر تعلن اعتزالها احترامًا لكرامتها ومسيرتها الفنية    القوات المسلحة الملكية تفتح تحقيقًا في تحطم طائرة ببنسليمان    استطلاع: 39% من الأطفال في المغرب يواجهون صعوبة التمدرس بالقرى    تناول الوجبات الثقيلة بعد الساعة الخامسة مساء له تأثيرات سلبية على الصحة (دراسة)    بإذن من الملك محمد السادس.. المجلس العلمي الأعلى يعقد دورته العادية ال 34    المغربيات حاضرات بقوة في جوائز الكاف 2024    توقعات أحوال الطقس ليوم غد الجمعة    الاستئناف يرفع عقوبة رئيس ورزازات    المركز السينمائي المغربي يقصي الناظور مجدداً .. الفشل يلاحق ممثلي الإقليم    مؤشر الحوافز.. المغرب يواصل جذب الإنتاجات السينمائية العالمية بفضل نظام استرداد 30% من النفقات    طنجة.. توقيف شخصين بحوزتهما 116 كيلوغرام من مخدر الشيرا    ميركل: ترامب يميل للقادة السلطويين    لأول مرة.. روسيا تطلق صاروخا باليستيا عابر للقارات على أوكرانيا    زكية الدريوش: قطاع الصيد البحري يحقق نموًا قياسيًا ويواجه تحديات مناخية تتطلب تعزيز الشراكة بين القطاعين العام والخاص    وزارة الإقتصاد والمالية…زيادة في مداخيل الضريبة    ارتفاع أسعار الذهب مع تصاعد الطلب على أصول الملاذ الآمن        رودري: ميسي هو الأفضل في التاريخ    أنفوغرافيك | يتحسن ببطئ.. تموقع المغرب وفق مؤشرات الحوكمة الإفريقية 2024    ارتفاع أسعار النفط وسط قلق بشأن الإمدادات جراء التوترات الجيوسياسية    بعد تأهلهم ل"الكان" على حساب الجزائر.. مدرب الشبان يشيد بالمستوى الجيد للاعبين    8.5 ملايين من المغاربة لا يستفيدون من التأمين الإجباري الأساسي عن المرض    مدرب ريال سوسيداد يقرر إراحة أكرد    انطلاق الدورة الثانية للمعرض الدولي "رحلات تصويرية" بالدار البيضاء    الشرطة الإسبانية تفكك عصابة خطيرة تجند القاصرين لتنفيذ عمليات اغتيال مأجورة    من شنغهاي إلى الدار البيضاء.. إنجاز طبي مغربي تاريخي    تشكل مادة "الأكريلاميد" يهدد الناس بالأمراض السرطانية    اليسار الأميركي يفشل في تعطيل صفقة بيع أسلحة لإسرائيل بقيمة 20 مليار دولار    شي جين بينغ ولولا دا سيلفا يعلنان تعزيز العلاقات بين الصين والبرازيل    جائزة "صُنع في قطر" تشعل تنافس 5 أفلام بمهرجان "أجيال السينمائي"    تفاصيل قضية تلوث معلبات التونة بالزئبق..    دراسة: المواظبة على استهلاك الفستق تحافظ على البصر    اليونسكو: المغرب يتصدر العالم في حفظ القرآن الكريم    بوغطاط المغربي | تصريحات خطيرة لحميد المهداوي تضعه في صدام مباشر مع الشعب المغربي والملك والدين.. في إساءة وتطاول غير مسبوقين !!!    في تنظيم العلاقة بين الأغنياء والفقراء    غياب علماء الدين عن النقاش العمومي.. سكنفل: علماء الأمة ليسوا مثيرين للفتنة ولا ساكتين عن الحق    سطات تفقد العلامة أحمد كثير أحد مراجعها في العلوم القانونية    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الزمزمي يرصد الرفق والرحمة في تطبيق الحدود الشرعية

لقد شمل الإسلام بيسره ورحمته أهل الذنوب والآثام، وأولاهم حظهم في الرعاية والاعتبار، ولم يهدر كرامتهم بخطاياهم، ولم يجعل ما وقعوا فيه من السيئات والفواحش مانعاً لهم من فضل الله وعفوه، ولا موجباً لحرمانهم من حقوقهم الإنسانية والاجتماعية، فالإنسان في الإسلام غير مطهر من الذنوب ولا معصوم من الخطايا والآثام.
كل بني آدم خطاء، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث القدسي: "يا عبادي إنكم تخطئون بالليل والنهار...الحديث" (رواه مسلم)، وقال: " ما من عبد مؤمن إلا وله ذنب يغشاه الفينة بعد الفينة، وذنب هو مقيم عليه لا يفارقه حتى يفارق الدنيا، إن المؤمن خلق مفتَّناً تواباً نسياً إذا ذكر ذكر" (صحيح الجامع الصغير).
أي أن المؤمن وهو خير الناس من شأنه أن يذنب بين الحين والآخر، وأن يقع في حدود الله تارة بعد أخرى، غير أنه لا يسترسل في معصية ولا يصر على ذنب، بل يتوب إلى الله ويستغفره من كل خطيئة اقترفها.
وذلك من صور خضوعه لله عز وجل وكمال عبوديته، كما قال النبي: "لو لم تذنبوا لذهب الله بكم وجاء بقوم يذنبون فيستغفرون فيغفر لهم" (رواه مسلم) وقال: "لو لم تكونوا تذنبون لخفت عليكم ما هو أكبر من ذلك، العُجب العُجب" (صحيح الجامع الصغير).
والإنسان يذنب بكل عضو من أعضائه، ويقترف الخطايا ما ظهر منها وما بطن بكل جارحة من جوارحه، بسمعه وبصره ولسانه ويديه ورجليه وبفرجه وقلبه، وتختلف ذنوبه في إثمها ووزرها، وتتفاوت في كبرها وسوء آثارها، فمنها ما يصنف في أكبر الكبائر، ومنها ما يعد دون ذلك، ومنها ما يعتبر من اللمم والصغائر.
والإسلام لم يشرع عقوبات رادعة لكل الذنوب التي يقترفها المسلم، وإنما فرض الحدود لبضعة منها فقط وهي الردة والحرابة وشرب الخمر والقذف والسرقة والزنا، وذلك لما لهذه الذنوب من آثار ضارة بالحياة العامة، ومس بالأمن ونشر الفاحشة في الأمة، بل إن في الذنوب ذنوباً هي من أكبر الكبائر لم يشرع لها الإسلام عقوبات مفروضة، وإنما وكل الأمر فيها إلى المذنب، إن شاء تاب إلى الله منها، وإن لم يفعل كان في مشيئة الله إن شاء عذبه وإن شاء غفر له، وذلك كالإشراك بالله وأمور الجاهلية والربا وعقوق الوالدين وأكل مال اليتيم والقمار والكذب والغيبة والخيانة والنميمة، وغيرها من الذنوب التي تعد بالمئات كما أحصاها من ألف فيها من أهل العلم .
وما شرع الإسلام حدوداً للذنوب الست أو نحوها إلا لردع المذنب وحمله على الاستقامة وإنقاذه من شر نفسه أولاً ولتثبيت الأمن والاطمئنان بين الناس ودفع المفاسد عن حياتهم ثانياً وتلك هي الرحمة التي أرادها الإسلام أن تسود الحياة وتعم كافة الناس، كما يفهم من قوله سبحانه: (فإن كذبوك فقل ربكم ذو رحمة واسعة ولا يرد بأسه عن القوم المجرمين) فالمفهوم من الآية أن إنزال البأس بالمجرمين ومعاقبتهم على إجرامهم يحقق رحمة الله للناس بكف أذى الظالمين عنهم وحمايتهم من شرورهم وإضرارهم.
وهكذا جاءت العقوبات الشرعية مصبوغة بالرفق والرحمة ومحفوفة بالتيسير والتخفيف، وذلك ما يتجلى إن شاء الله من خلال عرض وجيز للمبادئ والقواعد التي أسست عليها العقوبات الشرعية.
ومن أول هذه المبادئ: أنه لا يجب على المذنب أن يقدم نفسه إلى القضاء ويعترف بما وقع فيه من الإثم ليعاقب على ذنبه، بل ينبغي له أن يستر نفسه ويصلح شأنه ويتوب إلى ربه، كما أنه لا يجب على من اطلع عليه وعلم بذنبه أن يبلغ عنه أو يسلمه إلى القضاء، بل يجب عليه أن يستره ويتركه لشأنه، ما لم يكن مجاهراً بذنبه ومشيعاً للفاحشة بإثمه، فهذا لا يجوز التستر عليه ولا حمايته من العقوبة الواجبة عليه، لقول النبي ص: "لعن الله من آوى محدثاً" (رواه مسلم).
وهذا ما تفيده النصوص التالية:
يقول النبي ص: "كل أمتي معافىً إلا المجاهرين وإن من الجِهار أن يعمل الرجل بالليل عملا ثم يصبح وقد بات يستره ربه فيقول عملت البارحة كذا وكذا وقد بات يستره ربه ويصبح يكشف ستر الله عنه" (رواه الشيخان).
وفي قصة ماعز الذي اعترف عند النبي ص بالزنا أن النبي ص قال له: "ويحك ارجع فاستغفر الله وتب إليه" (رواه مسلم) فلم يقبل ص منه اعترافه وأمره أن يستر نفسه ويتوب إلى الله من ذنبه.
وفي رواية الموطأ وأبي داود لهذه القصة أن النبي "ص" قال لهزال وكان هو الذي أمر ماعزاً أن يأتي النبي ص ويعترف عنده بذنبه : "يا هزال لو سترته بثوبك كان خيراً لك".
ويقول "ص": "تعافوا الحدود فيما بينكم فما بلغني من حد فقد وجب" (رواه أبو داود والنسائي) ليعفوا بعضكم عن بعض في الذنوب الموجبة لعقوبة صاحبها قبل أن تبلغوا بها إلى القضاء، فإنها إذا بلغت القضاء وجب فيها إقامة الحد على صاحبها.
وعن صفوان بن أمية أن سارقاً أخذ رداءه فأخذ صفوان السارق فجاء به النبي ص "فأمر به النبي ص أن تقطع يده" فقال صفوان: إني لم أرد هذا يا رسول الله هو عليه صدقة، فقال النبي ص: "فهلا قبل أن تأتيني به" (رواه مالك وأبو داود والنسائي).
ويقول "ص": "من أصاب حدّاً فعجل عقوبته في الدنيا فالله أعدل من أن يُثَني على عبده العقوبة في الآخرة، ومن أصاب حدّاً فستره الله عليه فالله أكرم من أن يعود في شيء قد عفا عنه" (رواه الترمذي).
وثاني هذه المبادئ: التعسير في إثبات الذنب على المتهم واستصحاب براءته الأصلية، وطلب المخرج له من تهمته، واجتناب الشرع في إنزال العقوبة به.
ففي قصة ماعز أنه حين اعترف عند النبي ص بالزنا وكان متزوجاً لم يقبل منه النبي ص اعترافه ولم يسمع لقوله بل حاول ص عدة مرات أن يحمله على تغيير قوله والرجوع عن إقراره، كما بحث له عن مخارج شرعية تخلصه من العقوبة وتجعل اعترافه باطلا غير صحيح، فسأل النبي "ص" هل به جنون؟ هل هو سكران؟ ففي الصحيحين أن ماعزاً جاء إلى النبي ص فقال يا رسول الله طهرني فقال: "ويحك ارجع فاستغفر الله وتب إليه" فرجع غير بعيد ثم جاء فقال يا رسول الله طهرني فقال ص: "ويحك ارجع فاستغفر الله وتب إليه" صنع ذلك ثلاث مرات، حتى إذا كانت الرابعة قال له رسول الله ص: "مم أطهرك؟" قال من الزنا، فقال رسول الله ص: "أبه جنون؟" فأخبر أنه ليس بمجنون فقال: "أشرب خمراً؟" فقام رجل فاستنكهه أي شم فمه فلم يجد منه ريح خمر، فقال له رسول الله: "أزنيت؟" قال نعم، قال: "لعلك قبلت أو غمزت أو نظرت" قال: لا يا رسول الله، قال: "أنِكتها؟" قال: نعم، قال رسول الله ص: "حتى غاب ذلك منك في ذلك منها؟" قال: نعم، قال: "كما يغيب الميل في المكحلة والرشاء في البئر" قال: نعم، قال: "هل تدري ما الزنا؟" قال: نعم أتيت منها حراماً ما يأتي الرجل من أهله حلالاً، قال: "فما تريد بهذا القول؟" قال إني أريد أن تطهرني...الحديث".
ومن هذا القبيل أن المرء لا يؤخذ باعتراف غيره عليه ولا يلزم به ولا يعاقب بذنب لم يثبت عليه ببينة شرعية، فإذا أقر أحد عند القضاء باقترافه ذنباً وقال إنه كان معه فلان، فإن إقراره يتعلق به وحده ولا يلزم غيره الذي أشركه معه في ذنبه، وإن دلت الأحوال والملابسات أنه مذنب بالفعل، فما لم تقم على ذنبه بينه صحيحة يعتبر بريئاً، ولا يشرك مع صاحبه في العقوبة، فعن سهل بن سعد الساعدي: "أن رجلا جاء إلى النبي ص فأقر عنده أنه زنى بامرأة فسماها له، فبعث النبي ص إلى المرأة فسألها عن ذلك فأنكرت أن تكون زنت فجلده الحدَّ وتركها" (رواه أبو داود) ويؤيده الحديث الثابت في الصحيحين: "لو يعطى الناس بدعواهم لادّعى ناس دماء رجال وأموالهم...الحديث".
ومن هذا القبيل أيضاً أن لا يؤخذ المتهم بالشبهة والظن، ولا ينسب إليه ذنب لم يثبت عليه بحجة قاطعة، فمن وجَد مثلا مع امرأته رجلا في خلوة لا يجوز له أن يتهمهما بالزنا ولا يكون من حقه أن يعيبها بسوء لأنه لا يملك بينة شرعية تثبت اقترافها للذنب، وإن كانت العادة والأحوال تقتضي أنهما آثمان، فعن سعد بن عبادة أنه قال للنبي ص: أرأيت الرجل يجد مع امرأته رجلا يقتله؟ قال: "لا" ...الحديث (رواه مسلم).
وعن ابن عباس أن هلال بن أمية قذف امرأته عند رسول الله ص بشريك بن سحماء فقال رسول الله ص: "البينة أو حد في ظهرك" فقال يا رسول الله إذا رأى أحدنا على امرأته رجلا ينطلق يلتمس البينة، فجعل النبي ص يقول: "البينة وإلا حد في ظهرك...الحديث" (رواه البخاري).
وثالث هذه المبادئ: أحوال لا تقام فيها الحدود، ولا يعاقب فيها المذنب وإن ثبت عليه الذنب، وذلك لاعتبارات إنسانية أو ظرفية أو منطقية، كما توضحه النصوص التالية:
توبة المذنب قبل القدرة عليه
إذا تاب المذنب إلى ربه وأقلع عن ذنبه قبل أن يقع في قبضة القضاء فلا يقام عليه الحد ولا يؤاخذ بما اقترف من الذنب قبل توبته، وفي ذلك يقول عز وجل: (إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فساداً أن يقتَّلوا أويصلَّبوا أو تقطَّع أيديهم وأرجلهم من خلاف أو ينفوا من الأرض ذلك لهم خزي في الدنيا ولهم في الآخرة عذاب عظيم إلا الذين تابوا من قبل أن تقدروا عليهم فاعلموا أن الله غفور رحيم) والآية تفيد أن توبة المحاربين وهم قطاع الطرق قبل الظفر بهم تسقط عنهم العقوبة الشرعية المذكورة فيها.
وذهب بعض أهل العلم إلى القول بأن الآية نزلت في المشركين، ولكن لا دليل على قولهم هذا لا في سياق الآية ولا في سبب نزولها، ومن أجل ذلك ذهب أكثر الأئمة وأهل العلم إلى أنها عامة في المذنبين سواء كانوا مشركين أو مسلمين، قال ابن كثير: وأما المحاربون المسلمون فإذا تابوا قبل القدرة عليهم فإنه يسقط عنهم القتل والصلب وقطع الرجل، وهل يسقط قطع اليد فيه قولان للعلماء.
وظاهر الآية يقتضي سقوط الجميع وعليه عمل الصحابة كما روى ابن أبي حاتم عن الشعبي قال: كان حارثة بن بدر التميمي من أهل البصرة وكان قد أفسد في الأرض وحارب، فكلم رجالا من قريش منهم الحسن بن علي وعبد الله بن عباس وعبد الله بن جعفر وسعيد بن قيس الهمداني فكلم فيه علي بن أبي طالب، فقال:
يا أمير المؤمنين أرأيت من حارب الله ورسوله وسعى في الأرض فساداً حتى بلغ (إلا الذين تابوا من قبل أن تقدروا عليهم) فقال: "اكتب له أماناً"، روى ابن جرير عن عامر الشعبي قال: جاء رجل إلى أبي موسى الأشعري وهو على الكوفة في خلافة عثمان فقال: يا ابا موسى هذا مقام العائذ بك، أنا فلان بن فلان كنت حاربت الله ورسوله وسعيت في الأرض فساداً ثم تبت من قبل أن تقدروا علي فقام أبو موسى، فقال هذا فلان بن فلان، تاب من قبل أن يُقدر عليه، فمن لقية فلا يعرض له إلا بخير، فإن يك صادقا فسبيل من صدق، وإن يك كاذبا تدركه ذنوبه، فأقام الرجل ما شاء الله، ثم إنه خرج فأدركه الله بذنوبه فقتله.
وروى ابن جرير أيضاً أن علياً الأسلمي حارب وأخاف السبيل وأصاب الدم والمال فطلبه الأئمة والعامة فامتنع ولم يقدر عليه حتى جاء تائباً، وذلك أنه سمع رجلا يقرأ هذه الآية: (قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله...الآية) فوقف عليه فقال: يا عبد الله أعد قراءتها فأعادها عليه فغمد سيفه، ثم جاء تائباً حتى قدم المدينة من السحر ثم اغتسل ثم أتى المسجد فصلى الصبح، ثم قصد إلى أبي هريرة في غمار أصحابه.
فلما أسفر عرفه الناس فقاموا إليه فقال: لا سبيل لكم علي جئت تائباً قبل أن تقدروا علي فقال أبو هريرة: صدق، وأخذ بيده حتى أتى مروان بن الحكم في إمرته على المدينة في زمن معاوية فقال : هذا علي جاء تائبا ، ولا سبيل لكم عليه ولا قتل . قال : فترك من ذلك كله (انتهى).
رجوع المعترف بالذنب عن اعترافه
إذا أقر المتهم بذنبه ثم أنكره بعد ذلك وتراجع عن اعترافه وجب إعفاؤه من العقوبة وتقبُّلُ تراجعه عن اعترافه إذا لم تقم بينة على ذنبه، إلا اعترافه، وذلك لكون الذنب بعد تراجعه صار غير ثابت عليه ببينة تامة، وصار متردداً بين الثبوت وعدمه، فوجب التمسك بأصل البراءة الثابتة لكل إنسان، وهذا الحكم مأخوذ من حديث ماعز الآنف ذكره.
وفيه أن النبي أمر بإقامة الحد عليه بعد اعترافه بالزنا، فلما أخذوا في رجمه هرب فتبعوه حتى قتلوه، فقال لهم النبي: "هلا تركتموه لعله يتوب فيتوب الله عليه" (رواه أبو داود والحاكم) واستدل الشافعي وأحمد وغيرهما بهذا الحديث على أن المحصن المعترف بالزنا إذ شرعوا في رجمه فهرب أن يترك ولا يتبع، ولكن يراجع في قوله فإن رجع عن الإقرار ترك، ويكون قبول رجوعه عن الإقرار واجباً إذا كان اعترافه أصلاً منتزعاً منه بالتخويف والتعذيب فإن إقرار المرء بالذنب أو بالكفر تحت الإكراه لا يلزمه ولا يجوز أن ينسب إليه، لقول الله تعالى: (من كفر بالله من بعد إيمانه إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان)
وفي الحديث المشهور: "رفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه" وقوله ص في الحديث: "لعله يتوب فيتوب الله عليه" لا يعني أن توبته بعد الشروع في إقامة الحد عليه تسقط عنه العقوبة الشرعية، ولكنه يعني أن هروبه من ألم الحجارة قد يحمله على الرجوع عن إقراره وإنكاره لذنبه فيكون ذلك موجباً لرفع العقوبة عنه، ثم يتوب إلى الله في سره فيتوب الله عليه.
الحامل من الزنا
إذا حملت المرأة من الزنا لا يقام عليها الحد وهي حامل، بل تترك حتى تضع حملها وترضع وليدها سنتي رضاعه، ثم يقام عليها الحد بعد ذلك، وفائدة هذا التأجيل أنها إذا ماتت في هذه المدة فازت بمغفرة الله لذنبها لكونها رضيت بالعقوبة الشرعية وسلمت نفسها إلى القضاء، فعن علي قال: أن أمة لرسول الله ص زنت فأمرني أن أجلدها فأتيتها فإذا هي حديثة عهد بنفاس، فخشيت إن أنا جلدتها أن أقتلها فذكرت ذلك لرسول ص فقال: "أحسنت، اتركها حتى تماثل" (رواه مسلم).
وعن عمران بن حصين أن امرأة أتت النبي ص وهي حبلى من الزنا فقالت يا رسول الله أصبت حداً فأقمه علي، فدعا نبي الله وليها فقال: "أحسن إليها فإذا وضعت فأتني" ففعل، فأمر بها نبي الله ص فرجمت ثم صلى عليها، قال عمر أتصلي عليها وقد زنت! فقال رسول الله ص: "لقد تابت توبة لو قسمت بين سبعين من أهل المدينة لوسعتهم، وهل وجدت أفضل من أن جادت بنفسها لله عز وجل" (رواه مسلم والترمذي).
وفي رواية الموطأ أن النبي ص قال لها: "اذهبي حتى تضعيه" فلما وضعته جاءته فقال لها: "اذهبي حتى ترضعيه" فلما أرضعته جاءته فقال: "اذهبي فاستودعيه" فاستودعته، ثم جاءته فأمر بها فرجمت.
المضطر إلى السرقة
من سرق من الطعام ما يسد جوعه لكونه لم يجد من يطعمه، أو كان في سفر تقطعت به الأسباب ونحو هذا من الأحوال الاضطرارية فإنه لا يقام عليه حد السرقة، وإن جيء به إلى القضاء، بل يعفى من العقوبة اعتباراً للاضطرار الذي حمله على السرقة، فعن عباد بن شرحبيل قال أصابتني سنة مجاعة فدخلت حائطاً من حيطان المدينة مزرعة ففركت سنبلا فأكلت منه وأخذت معي في ثوبي، فجاء صاحبه فضربني وأخذ ثوبي وجاء بي رسول الله ص فقال ص: "ما علمت إذ كان جاهلا ولا أطعمت إذ كان جائعاً" فأمره فرد علي ثوبي وأعطاني وسقاً أو وسقين من طعام. (رواه الترمذي وأبو داود)
فلم يأمر النبي ص بقطع يد هذا الرجل الذي دخل أرض غيره وأخذ منها طعاماً بدون إذن صاحبه، لكونه لجأ إلى ذلك مضطراً غير مختار، والجائع يجب إطعامه على من علم به من إخوانه، لأن المؤمنين في تعاطفهم وتراحمهم كمثل الجسد الذي إذا اشتكى منه عصو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى، ومن أجل ذلك عاتب النبي ص صاحب المزرعة لكونه لم يطعم هذا الجائع ولم يعلمه ما يجب أن يعلمه من الطرق المشروعة من طلب الطعام.
ومن ذلك أيضاً سرقة الضيف الذي لم ينل حقه من الإكرام والضيافة، فهذا من حقه أن يأخذ الطعام بالقوة وينتزع نصيبه من الضيافة، من القوم الذين نزل بهم وفرطوا في حقه، لقول النبي ص: "إذا نزلتم بقوم فأمروا لكم بما ينبغي للضيف فاقبلوا فإن لم يفعلوا فخذوا حق الضيف الذي ينبغي لهم" (رواه الشيخان).
ومن هذا القبيل كذلك سرقة المسافر، فإن السفر مظنة الحاجة فقد يضطر المسافر إلى السرقة لضياع ماله أو لخصاصته، ومن أجل ذلك لا تقطع يده إذا سرق في سفره، لقول النبي ص: " لا تقطع الأيدي في السفر" (رواه أحمد)
سرقة المال المتروك بدون حماية
من سرق من مال غير محروس ولا محصن سواء كان بضاعة أو زراعة أو ماشية فإنه لا تقطع يده، وذلك لكون صاحب المال قد فرط في حفظ ماله وعرضه للسرقة بتركه عاريا من الحماية والحراسة، وفي ذلك يقول النبي ص: "لا قطع في ثَمر ولا كثَر" (رواه مالك وأبو داود) يعني الثمر المعلق في شجره ونحوه، والتمر المعلق في نخله، والكَثَر بفتح الكاف والثاء الجمار، وإنما نفى القطع فيه لزهادته وقلة شأنه، فلا تقطع فيه يد سارقه.
ويقول ص: "ليس على خائن ولا منتهب ولا مختلس قطع" (رواه الترمذي وأبو داود والنسائي) قال الشوكاني في نيل الأوطار:
الخائن: هو الذي يأخذ المال خفية ويظهر النصح لصاحب المال.
والمنتهب: ينتهب المال على جهة القهر والغلبة.
والمختلس: الذي يأخذ المال على طريقة الخلسة، وقال في النهاية: هو من يأخذ سلباً ومكابرة، (انتهى)
ورابع هذه المبادئ: التخفيف في تطبيق الحدود، ويندرج في هذا المبدئ عدة تشريعات، من بينها: مراعاة حال المريض المستوجب للعقوبة بما اقترفه من الذنب، فيجب أن يعاقب عقاباً يسيراً يلائم مرضه وضعفه وقدرته على التحمل.
عن أبي أمامة بن سهل بن حنيف عن بعض أصحاب النبي من الأنصار أنه اشتكى رجل منهم حتى أضنى فعاد جلدة على عظم فدخلت عليه جارية لبعضهم فهش لها فوقع عليها، فلما دخل عليه رجال قومه يعودونه أخبرهم بذلك وقال استفتوا لي رسول الله ص قد وقعت على جارية دخلت علي، فذكروا ذلك لرسول الله ص فقالوا ما رأينا بأحد من الضر مثل الذي هو به، ولو حملناه إليك لتفسخت عظامه، ما هو إلا جلد على عظم، فأمر رسول الله ص أن ]اخذوا له مائة شمراخ فيضربوه بها ضربة واحدة. (رواه أبو داود)
وفي راوية النسائي أن النبي ص أتي بامرأة قد زنت فقال: "ممن؟" قالت: من المقعد الذي في حائط سعد فأرسل إليه فأتي به محمولا فوضع بين يديه فاعترف فدعا رسول الله ص بأشكال فضربه به ورحمه لزمانته وخفف عنه.
ومن ذلك تخفيف العقوبة عن العبيد، اعتباراً لما هم عليه من ذل الرق ومهانة العبودية، فكانت عقوبتهم في الشريعة إذا اقترف أحدهم ما يوجب إقامة الحد عليه نصف ما على الحر من العقوبة، كما جاء ذلك في كتاب الله عز وجل إذ قال: (ومن لم يستطع منكم طولا أن ينكح المحصنات المؤمنات فمن ما ملكت أيمانكم من فتياتكم المؤمنات والله أعلم بإيمانكم بعضكم من بعض فانكحوهن بإذن أهلهن وآتوهن أجورهن بالمعروف محصنات غير مسافحات ولا متخذات أخدان فإذا أحصن فإن أتين بفاحشة فعليهن نصف ما على المحصنات من العذاب).
ومن ذلك ما ورد في الأمر بالتخفيف في التعزير، وهو العقاب الذي يستوجبه من اقترف ذنباً ليس له حد معلوم في الشريعة، فيكون الأمر فيه إلى اجتهاد ولي الأمر، فلا يجوز أن يكون العقاب في هذه الحال فوق عشرة أسواط، لقول النبي ص: "لا يجلد فوق عشرة أسواط إلا في حد من حدود الله" (رواه البخاري) وقوله ص: "لا تعذبوا بعذاب الله" (رواه البخاري) يعني لا يجوز أن يعاقب المذنب عقاباً شديداً كالإحراق بالنار والمثلة بجسده ونحو ذلك من أنواع التعذيب.
ومن هذا القبيل قوله ص: "أقيلوا ذوي الهيئات عثراتهم إلا الحدود" (رواه أحمد وأبو داود) قال الشافعي: ذو الهيأة من تظهر منه ريبة، وبين المراد منه حديث حاطب بن أبي بلتعة الذي كتب إلى قريش عام الفتح يخبرهم بمقدم النبي ص إليهم، فعلم النبي بأمره فدعاه وسأله عن ذلك، فاعتذر إلى النبي "ص"، وقبل النبي عذره، وعفا عنه، فقال عمر دعني يا رسول الله أضرب عنق هذا المنافق فقال ص: "وما يديرك يا عمر لعل اطلع على أهل بدر فقال اصنعوا ما شئتم فقد غفرت لكم" (رواه البخاري)
وهكذا كان تطبيق الحدود مصبوغاً بالرفق والرحمة، ومحفوفاً بالتخفيف والتيسير في الشريعة الإسلامية، شريعة الرحمة والسماحة ورفع الحرج، شريعة أنزلها الرحمن الرحيم، وجاء بها النبي الرؤوف الرحيم، ومن مقاصدها نشر الرحمة بين العلمين.
أما القصاص فشرع الإسلام فيه العفو، لقوله عز وجل: (وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس...فمن تصدق به فهو كفارة له...الآيات).


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.