إن الحق والواجب متلازمان ، بل هما وجهان لعملة واحدة . و بهما يقاس تقدم الدول أو انحطاطها . و إذا كان الواجب كلفظ يحيل إلى معنى الإكراه والإلزام، فإنه مع ذلك يعبر عن سمو الإنسان وحريته والتزامه بما يشرعه لنفسه ، لان أداء الواجب يضمن الحق كما يعبر عن ذلك الدكتور خالص جلبي : " لعل أكبر خرافة تعلمناها في تربيتنا السياسية شعار ( الحقوق تؤخذ ولا تعطى ) ، وفي الحقيقة فالحقوق لا تؤخذ ولا تعطى، وإنما هي ثمرة طبيعية للقيام بالواجب " .
في بلدنا كثرت في الآونة الأخيرة ، و بتأثير من الربيع العربي ، المطالب الحقوقية والحركات الاحتجاجية سواء في الشارع أو عبر الصحافة و منتديات التواصل الاجتماعي وعلى رأسها الفايسبوك . وهذا طبيعي في بلد اختل فيه التوازن بين الحق والواجب ، وتضخمت أنا الفرد – سواء كان حاكما أو محكوما - بشكل مفرط ، وأمام كثرة التطلعات و الإنتظارات و تفاقم الحاجيات الاجتماعية بفعل غياب واجب إحقاق بالعدالة . وان كانت أحيانا تتم المبالغة في المطالبة بهذه الحقوق – التي اصطبغت بصبغة احتفالية و تضفي على مطالبها طابعا سياسويا يتم في إطار مزايدات لا نتيجة لها - من قبل بعض الفئات التي لا تشبع ، فتكون كمن يشرب من ماء البحر كلما اعتلت منه ازدادت عطشا ..
من دون شك فالإصلاح الحقيقي هو الذي يستطيع فيه الحاكم والمحكوم التوفيق بين الحق والواجب وخلق توازن معقول بينهما . و من أصعب الخيارات وأكثرها تأثيرا على عملية الإصلاح هو التركيز على جانب واحد في الإصلاح . إما عن طريق المطالبة المفرطة بأداء الواجب فيصبح المواطن كمن يعيش في ثكنة عسكرية لا يحس بأدنى شعور بقيمة الحرية أو الكرامة فيقل مردوده وتضعف إنتاجيته ، أو عن طريق التفريط في أداء الواجب الذي يصبح أوامر لا تنبع من إرادة حرة ، مع الإصرار على كسب المزيد من الحقوق التي غالبا ما تكون طبيعتها مادية نفعية أو شخصية ..
إن الصعوبات التي تعترض المغرب من هذه الناحية ، ليست هي وضع القوانين مهما كان سموها أو تعديلها .. فنحن نتوفر على ترسانة لا باس بها من التشريعات في مختلف المجالات ، والتي تتضمن لزاما الحق والواجب بقدر من الاتزان بينهما ، كما يمكن أن يؤدي تفعيلها إلى تحقيق نوع من السلم الاجتماعي والأمن الروحي ... إنما هي تطبيق هذه القوانين و أجرأتها الميدانية بما يضمن إحقاق الحق وأداء الواجب هو الذي ينقصنا . فهل يتم تنزيل هذه القوانين على ارض الواقع كما يجب ، أم أنها تبقى حبيسة الأوراق ... ؟؟؟
لا يمكن الجزم وتحديد نسبة تنزيل القوانين التي تصادق عليها المؤسسة التشريعية في بلادنا ما دامت غير قابلة للقياس الحسابي الدقيق . لكن يمكن التأكيد على أنها نسبة ضعيفة في الغالب ولا تصل إلى الحد الأدنى من التطلعات . ويعود هذا الضعف لعدة أسباب منها ما يتعلق بضعف المراقبة الإدارية للدولة أو تعثر عملية المتابعة والمحاسبة في حق من يقوم بخرق القوانين لعدم ثبوت الأدلة أو لضعفها أو بالتحايل على القانون نفسه ببنود من جنس القانون نفسه أو لتقديم رشوة ... و منها ما يساهم فيه المواطن بنفسه بجهله لهذا القانون أو بالتحايل عليه بدربة و دراية نتيجة لانحطاط أخلاقي أو سلوكي واستغلال عملية ضعف المراقبة وضعف الوازع الديني ... وعموما تتضافر العوامل التي ذكرناها وغيرها لتجعل القانون في واد والواقع في واد أخر .
أزمة قيم :
إن مشكلة المغرب الأساسية والتي تفاقم فيه باقي المشاكل الاجتماعية بل وحتى الاقتصادية وتراكمها ، بل وقد تخلقها ، هي أزمة الأخلاق و القيم التي تعرف انحطاطا ربما لم يسبق له مثيل . ورحم الله أمير الشعراء : " إنما الأمم الأخلاق ما بقيت ...... وان ذهبت أخلاقهم ذهبوا " فلما ذهبت أخلاقنا تلاعبت بنا الريح كما شاءت و حركت أيادي الغرب كما أرادت ووجهتنا إلى حيث تريد .
في العمل مثلا ، نلفي الكثير منا لا يجتهد في عمله إلا تحت المراقبة . فنجد العامل يجد ويكد لما يحضر رب العمل أو رئيسه في المقاولة أو الإدارة . لكن بمجرد انسحاب المراقب يتراخى ويغش في أدائه و يفتخر بذلك على اعتبار انه أمضى يومه في العمل بأقل مجهود ممكن حتى وان لم يتقنه ولا يلتفت إلى ما جاء به حبيبنا محمد ( ص) :" رحم الله عبدا عمل عملا فأتقنه" ، ولا يهمه أن يستحل رزقه الذي يحصل عليه من اجر العمل .. كما يسر بأيام الإضرابات التي يعتبرها عطلا للراحة فلا تهمه لا النقابة الداعية للإضراب ولا مطالبها ..كل ما يهمه هو معرفة متى يبدأ الإضراب ومتى ينتهي وهل ستقوم الدولة بالاقتطاع ؟ وهكذا يتفشى الغش كالوباء في العمل في كل القطاعات : المقاولات المهنية ، الإدارات العمومية والمؤسسات التعليمية والمراكز الصحية والمستشفيات والأسواق والشارع وعلى الطريق ....وفي ما يروى من طرائف مستمدة من الواقع عن الاستهتار بالقانون ، مثال ذاك الشخص الذي لم يتوقف عند الإشارة المرورية التي تمنعه من المرور ( الضوء الأحمر ) أوقفه الشرطي ، و سأله : لم لمْ تتوقف ، الم تنتبه للضوء الأحمر ؟؟ أجابه الشخص نعم لقد رايته لكن لم انتبه لوجودك !!! ...
مقابل ذلك في العالم المتقدم و في المجتمعات التي يحترم فيها الإنسان إنسانيته أثبتت الكاميرات الخفية أن اغلب شعوب هذه البلدان تحترم الإشارات المروية في جوف الليل حيث الطريق خالية من المارة سواء كانوا راجلين أو من السيارات .. رغم خلو الطريق ، يتوقف السائق لان القانون قد طلب منه ذلك ولو كان متأكدا أن لا احد يراه .وقس على ذلك ، فهذا غيض من فيض ينطبق على سائر مجالات الحياة . إنهم يقدسون القانون ويعتبرونه عقيدة ، و يحرصون على تزيله لأنهم يؤمنون بأهميته كما أنهم يحترمونه لأنهم باحترامهم القانون يضمنون على أنفسهم التميز على باقي الكائنات .. فالفرق بيننا وبينهم هو أنهم يتقيدون بالواجب بإرادة حرة وفردية مما ينعكس إيجابا على الجميع ، أما نحن فيجب أن يوضع على رأس كل مواطن مراقب وان يراقب المراقب بدوره ، لان القيام بالواجب في نظرنا نعتبره أمرا ثقيلا وحتى إن قمنا بتأديته لا نؤديه بالنجاعة المطلوبة . ففي الوقت الذي يسهل فيه غيرنا على الدولة أداء عملها نقوم نحن بالعكس مع العلم أننا امة مكارم الأخلاق ومميزات القيم ..
إن السلوك المجتمعي في بلادنا يعكس عمق هذه الأزمة ، فنلاحظ يوميا أشخاص يطرحون الازبال على الأرض وعلى مقربة منهم حاويات القمامة ، ومقابل ذلك يندد نفس الشخص برداءة الخدمات المقدمة من قبل عمال النظافة . كما نلاحظ آخرين يطالبون بقانون جزري ضد الغش في الامتحانات ، وهم الذين يسهلون عملية الغش كما يغشون في امتحاناتهم المهنية . حتى بيوت الله لا تراعى حرمتها ، فنجد أن الشخص الذي يدخل المسجد هو الذي توضأ في مرافقها الصحية دون أن يعتني بنظافتها . ولعل من المشاهد التي يندى لها الجبين وتشمئز منها النفس هي أن نجد المراحيض التابعة لبيوت الله متسخة إلى درجة أن الشخص الذي يقضي حاجته لا يكلف نفسه عناء صب الماء لصرف مخلفاته في أنابيب المرحاض ، ويدخل نفس الشخص إلى المسجد مبتهلا متبتلا ، وأنى له الخشوع ورسول الله يقول " النظافة من الإيمان " أي انه على قدر إيمان المسلم يكون حرصه على نظافته . كما نجد أن نفس الشخص الذي خرج توا من الصلاة هو الذي يتبول على الجدار الخلفي للمسجد دون حياء ولا استحياء و لا يدرك أن "الحياء شعبة من شعب الإيمان" ثم يغادر المسجد إلى المقهى ليلعب الورق و يرشف السيجارة .. ولعل السلوك الذي يسلكه المواطن هو الذي سيعامل به " كما تدين تدان " و " كما تكونا يولى عليكم " ...
ففي الوقت الذي كانت منظومة الأخلاق شيء مقدس عند العرب ، يتفاخرون بحرصهم عليها بل وحتى اشد الناس كفرا كانوا ملتزمين بها ومنها أداء الأمانة والوفاء بالعهد والكرم والشهامة وغيرها وتم إتمامها ببعثة النبي الأكرم محمد ( ص ) . نلفي أن هذه المنظومة في بلدنا حاليا قد انهارت إلى الحضيض ، وهنا مكمن الفرق ، فلا يكفي أن تصدر الأوامر أو تشرع قانونا بل يستوجب ذلك أن يكون هناك من يستوعب هذا القانون ويطبق الأوامر للتسريع من وتيرة الإصلاح . و مع انتشار السيئ من الأخلاق من الكذب والخيانة والغدر والغش ... فسد المجتمع واختل الأمن وضاعت الحقوق وانتشرت القطيعة بين أفراد المجتمع وضعفت الشريعة في نفوس أهلها وانقلبت الموازين ..
لا إصلاح بغير أخلاق :
ولعل التغيير بذلك لن يبدأ من الأعلى أو من المؤسسات لأنه لن يكون له اثر مادامت العقليات السائدة غير مستوعبة لذلك ، وهذا لا يعني أن المؤسسات ينبغي إن تبقى جامدة بل يتطلب الأمر التغيير بشكل متوازن عموديا بين القمة والقاعدة المشكلة للهرم لكي لا يغلب احدهما على الأخر وأفقيا بين أداء الواجب كما هو مطلوب ومنصوص عليه ومشرع به عقيدة و تشريعا وعرفا مقابل التمتع بالحق في حدود الحاجة ودون الإجهاز على حقوق الآخرين ، ويسبق أداء الواجب التمتع بالحق ، لان القيام بالواجب من طرف كل شخص يضمن التمتع بشكل أوتوماتيكي بالحق بنفس القدر الذي يؤدى به الواجب .
إن عملية الإصلاح السياسي ينبغي أن توازيها عملية إصلاح مجتمعي . تشارك فيها كل الفئات الحية من علماء وأحزاب سياسية ومنظمات مهنية وجمعيات المجتمع المدني ويساهم في المواطن الواعي بنفسه ، تستهدف القيام بثورة ثقافية . فمن محيط الأسرة التي يسود فيها الاحترام و التقدير و طاعة الأوامر دون عقوق ولا تأفف ولا تثاقل على الآباء ومن هنا تبنى المسؤولية المرتبطة بالأسرة والمؤثرة على المجتمع .. مرورا بالمدرسة التي يستكمل فيها الطفل دروس التربية دون مشاغبة لا استهتار و لا استهزاء أو اعتداء على الذي كاد أن يكون رسولا ، كما أن هذا الأخير ملزم بأداء الأمانة وتبليغ الرسالة ..ثم الشارع الذي يعتبر من اكبر مدارس التربية على القيم التي تنعكس إيجابا أو سلبا على الأسرة والمدرسة وفيه يتم الاحتكاك بين مختلف الفئات ويتجلى السلوك المجتمعي وهنا لابد للمجتمع المدني أن يؤدي دوره في إطار التدافع القيمي لتطهير المجتمع من سيء الأخلاق و أراذلها ثم دور الدولة في فرض احترام القانون و تفعيل المراقبة والمحاسبة وأخيرا أهمية الإعلام في التربية و التكوين على المواطنة الصالحة التي تستمد سلوكها من المرجعية الإسلامية ومنظومة القيم والأخلاق الحسنة العالمية ..
باختصار لا إصلاح بغير أخلاق .. وبقدر ما تعلو الأخلاق تعلو الأمة . وبقدر ما تنحط أخلاقها وتضيع قيمها تنحط حضارتها وتذهب هيبتها بين الأمم ..