في بلادنا الجميلة التي أفسد تربتها السياسيون والبرلمانيون، الذين لا يفكرون إلا في تفصيل القوانين المناسبة لمصالحهم وحماية امتيازاتهم ومعاشاتهم، صار من غير المهم لديهم هدر الزمن السياسي في التطاحن والتلاسن، وتأخر ميلاد الحكومة وما ينجم عنه من تعطيل سير المؤسسات، وجمود سياسي وركود اقتصادي وضياع فرص الاستثمار. ولا من المهم كذلك هشاشة الأغلبية واختلاف برامجها الانتخابية وتنافر إيديولوجيات أحزابها، أو مرورها بأحلك الظروف والتعرض لألذع الانتقادات وأعنف الهزات، وإرجاء توقيع ميثاقها "الشرفي" عشرات المرات... فالمهم اليوم وبعد مرور تسعة شهور من القلق والترقب، أن الحرب الكلامية التي كادت أن تعصف بأحلام الأغلبية وضعت أوزارها، إذ لعن "الإخوان" الستة الشيطان وبادروا إلى إقامة حفل بهيج تحت أضواء الكاميرات مساء يوم ثاني شهر رجب المبارك من عام 1439، للمصادقة بمداد من التفاخر على ميثاقهم، والادعاء بعودة الدفء إلى أوصال بيتهم المتجمد الأركان. حيث خرج سعد الدين العثماني منتشيا ب"النصر المبين"، يريد إغاظة الشامتين والمشوشين وعلى رأسهم ابن عشيرته وزعيمها السابق، مجددا التأكيد على أنه القائد الشرعي والوحيد للحكومة الثانية بعد دستور 2011، ومتعهدا برص صفوف مكوناتها والسهر على زرع بذور التناغم في أحشائها، والالتفاف حول الأولويات التي ترقى إلى مطامح الجماهير الشعبية، والمتمثلة في إصلاح منظومة التعليم وقطاع الصحة ومعالجة ملف التشغيل. عاقدا العزم على التصدي لكل ما من شأنه إذكاء نيران التنابز بالألقاب وعرقلة مسار الإصلاح، ومبديا حرصه الشديد على اعتماد الحوار الجاد في تجاوز العقبات وتذويب الخلافات.
والميثاق كما هو وارد في بعض المعاجم العربية، يعني العهد، الموثق (بفتح الميم وسكون الواو). ويعرف في القانون بأنه تحالف أو تعاهد رسمي فيما بين شخصين أو أكثر، وهو رابطة تتألف من أجل عمل مشترك. وهناك مثلا ميثاق حقوق الإنسان أو ميثاق الأممالمتحدة، الذي يعتبر وثيقة سياسية تتضمن مبادئ الأمم والقواعد الأساسية المتفق عليها قصد احترامها أثناء الممارسة...
و"ميثاق الأغلبية" الذي طال انتظار "البصم" عليه شهورا عددا، ينص في ديباجته على أنه وثيقة تعاقدية ومرجعا سياسيا وأخلاقيا، يؤطر للعمل المشترك حسب المتوافق حوله من لدن أمناء الأحزاب الستة في البرنامج الحكومي، لتدبير مرحلة الحكومة وتلبية انتظارات المواطنين. وتقوم هذه الوثيقة/الميثاق على خمسة مبادئ أساسية: التشاركية في العمل والنجاعة في الإنجاز والشفافية في إدارة الشأن العام والتضامن في المسؤولية والحوار مع الشركاء. مع ما يلزم ذلك كله من انضباط لقرارات أحزاب الأغلبية وعدم الإساءة إلى أي مكون منها، واعتمادها حكما محترما في مختلف الخلافات الممكن حدوثها والسعي الحثيث نحو رفع مستوى التنسيق والانسجام على كافة الأصعدة والعمل المشترك بين الفرق البرلمانية سواء أثناء تقديم المقترحات أو تعديل القوانين أوالتصويت عليها...
فيا له من كلام مرصع وجميل ومبادئ أجمل وأشمل، هذه التي تم انتقاؤها بدقة متناهية في تزيين وصياغة ميثاقهم ! هل يا ترى سيفند توقيعه ما أتى على ألسنة بعض المغرضين وتنبأ به عديد المحللين السياسيين من انقسام وتصدع، ويكون لجاما حديديا لابن كيران رئيس الحكومة المعزول والأمين العام السابق للحزب الحاكم العدالة والتنمية، حتى يكف عن إرسال قذائفه النارية والعشوائية، ومفتاحا سحريا لفتح مغاليق الأبواب، والانطلاق الفعلي والصحيح نحو الآفاق الرحبة للإصلاح المأمول؟ فالمغاربة هرموا من فرط الانتظار الممل، ولا يريدون لهذه الحكومة أن تسير هي الأخرى في الاتجاه المعاكس وتجهض أحلامهم، بل يتطلعون إلى أن تشق طريقها بعزم وثبات نحو استكمال البناء الديموقراطي في
دولة يسودها الحق والقانون، يكون فيها المواطنون سواسية في الحقوق والواجبات، ويتمتعون بالمواطنة الكاملة والعيش الكريم. وتعمل على تكريس نظام الجهوية المتقدمة وتخليق الحياة السياسة ومحاربة الفساد واقتصاد الريع وترسيخ الحكامة الجيدة وتطوير النموذج الاقتصادي في أفق النهوض بالتشغيل والتنمية المستدامة...
نعم يتوسم المغاربة خيرا في أن يفلح العثماني وفريقه الحكومي في دحض كل التكهنات السلبية، إعادة بريق الأمل إلى الحياة السياسية وثقة المواطنين في المؤسسات، وتحريرهم من قيود اليأس والإحباط، من خلال تحقيق ما عجز عنه سلفه، الذي ملأ الدنيا ضجيجا وشغل الناس بقراراته اللاشعبية، التي ضربت القدرة الشرائية للطبقات الفقيرة والمتوسطة وأجهزت على الكثير من مكتسباتها الاجتماعية. فكل آمالهم باتت معلقة على أن تكون حكومته، قادرة على الإجابة عن مجموعة من التساؤلات الحارقة، حول مدى جرأته السياسية في مكافحة الفساد بمختلف ألوانه، الذي أمسى من أكبر المعضلات التي تهدد التنمية، والعمل على التخفيف من آثار الفقر بابتكار أساليب واستراتيجيات حديثة، بدل الاستمرار في محاولة التستر على مظاهره ومؤاخذة المحتجين الذين يعانون من ويلاته. والانكباب الجدي على ترجمة الأقوال إلى أفعال بخصوص إصلاح التعليم والإدارة والصحة والقضاء وحل أزمة البطالة الخانقة...
فالميثاق الحقيقي هو تماسك الحكومة وتوفر الإرادة السياسية القوية لمعاجة المعضلات الاجتماعية والاقتصادية وحسن تدبير الثروات الوطنية، الالتزام بتحقيق العدالة بين الفئات والجهات، تحسين ظروف العيش في ظل العدل والأمن والمساواة والحرية والعدالة الاجتماعية والكرامة الإنسانية وتكافؤ الفرص. والسعي نحو إرساء أسس مجتمع متضامن، تغيير العقليات المتكلسة من أجل ترسيخ ثقافة جديدة للمبادرة وروح الابتكار وربط المسؤولية بالمحاسبة تفاديا للمزيد من "الزلازل السياسية"، والنهوض بحقوق المرأة وأوضاع الشباب، باعتباره ثروة حقيقية وركيزة المستقبل الرئيسية...