لا يخفى على أحد ما سَطعَتْ به شمس الأدب العربي من شُعاعٍ متوهّج في بدايات القرن ال20 أتحف المكتبة العربية بدُرَرٍ أدبيةٍ خالدة ما زالت تُشكّلُ إلى اليوم عمادَ الدراسات العربية في الشعر والأدب، ولعلَّ ما أثرى هذا العطاءَ المُنهمر وفتح الأبواب أمامه لمزيدٍ من التألّق والإبداع، ما عُرف على أصحابه من تنافسٍ شريفٍ وتسابقٍ عفيف لا يَحيد عن مبادئِ الاحترام والتقدير، فكان أبطاله مِمّن نهلوا من مَنابع العِلْم القدرَ الوَافر، فاحترَفُوه وأتْقَنوه وأحَاطوا بكلِّ دَقائقه وتَفصيلاته، وخيرُ ما يشهدُ على مكانةِ آثارهم الأدبية ومخلفاتهم الذهبية تلك الألقاب الخالدة التي بَصموا بها على مسارٍ حافلٍ بالعطاء وإثراءِ الثقافة العربيّة، فهذا شاعر النيل حافظ إبراهيم، وذاك أمير الشعراء أحمد شوقي، وجبار الفكر عباس محمود العقاد، وفراشة الأدب مي زيادة وغيرهم، أحمد أمين والرّافعي ومحمود سامي البارودي واللائحة تطولُ لتضمَّ بين ثناياها خِيرة رجال الأدب ممّن أفنوا حياتَهم في سَبْر أغواره وتفقّد أسراره. وإذا كان التنافسُ بين رُوّاد الأدب العربي في زمانه قد حادَ بعضَ الشيء عن أُسُسِ الاحترام، فاتّهَمَ البعضُ البعضَ الآخر بالتقصير والجهل وغيره، فإن ذلك كان من باب الغيرة على الإنسان، وعلى تاريخنا وحضارتنا لا غير، ولم يَضر أصحابَهُ بقدرِ ما أعلى مقامَهم وأعظمَ شأنَهم وجَلبَ النّفعَ الكثيرَ للأدَب، ولم يصلْ حدود السبِّ الفاضحِ والقَذفِ الجارح، إذْ إنَّ همّهم الوحيد كان هو التعبير عن مواقِفهم دفاعًا عن رأيٍ أو تبنّيًا لتوجّهٍ يَرونَهُ سالمًا من الزّيغ وخادمًا للبشرية جمعاء وليس شيئًا آخر، فحَقَّ لَهُم ذلك، ولم تكنْ تدفعُهم من وراء أفكارِهم هذه مُراوغات المُجاملة والنّفاق، بل كانوا يعتمدون في جدالهم وسجالهم على أدلَّة مَنطقية دقيقة ودِراسات عِلمية مُستفيضة، يُصدِرون بخصوصها كتبًا ومؤلفات حتى تتّضح الصورةُ للقارئ ويَصِل المَغزى، بعيدًا عن الحسابات الشخصية الضيقة، ولعلَّ ما ساهم في الصّحوة الأدبيّة آنذاكَ وفتحَ شهيّةَ الأدباء لمزيدٍ من النّشرِ والتأليفِ والإبداع، هو هذا التنافس الشّديد بين الحداثة والرجعية الذي بلغ أوْجَهُ في عصرهم، حتى سُمّيت بالمعاركِ الأدبية بين الرافعي مثلًا الداعم للتراث إيمانًا منه بقدرته على مواكبة مستجدات العصر، وطه حسين المؤيد للحداثة، أو بين زكي مبارك وأحمد أمين، إلى درجة أن عُرف زمانهم بعصر القسوة في النقد العربي.
وإنَّ ما نعيشُه اليوم لَهُو عصرُ أزمة فكرية وتراجعٍ ملحوظٍ في جودة الإنتاجات الأدبيّة، إلا من بعض الزخّات المطرية التي ما زالت تُحاول إرواءَ أرض جدباء قاحلة يموتُ فيها عُشّاقُ الأدب والجمال عَطشًا وجوعًا، إلا أنَّ صَوتَهم وصِيتهم وإن كُنّا في عصر الأقمار الصناعية لا يصلُ إلى الباحثين عن الزّاد المعرفي إلا وقَدْ فَقَدَ قيمتَهُ وسط هذا الغُثاء، وكأنَّ روابط الاتّصال مقطوعة ومسافات اللقاء متباعدة، والحقيقة أنّنا في زمنٍ أصبح كل شيءٍ فيه متاحًا ومكشوفًا، بقدر ما هو غامض المَعالِم، وكل نقطة كُنا نَحسبها أبعد ممّا نتصوّر هي اليومَ أقرب ممّا كنا نَتخيّل، لكن تشاءُ الأقدارُ أن نتأثّر بما تَنثُره علينا الصناعةُ والحداثةُ من آثارها على الإنسانية، بقَدرِ ما تَجودُ به علينا من امتيازاتها الدنيويّة، وهذا من عجائب الزّمان ومن مُفارقات ضريبة التقدّم.
وأمام تاريخ أدبيّ وثقافي مُشرّف بشهادة الشّهود من خارج البيتِ العربي، نَرى اليومَ واقعًا مريرًا يُضاهي في مَرارته ما عَرفَه ذاك العهدُ من سُموّ أعلامه وعُلوّ كَعبهم، ورفعةِ مَدارسه ونُبوغ مُنتَسبيها، وبعد أن كان هؤلاء يلجؤون إلى القلم في ردّهم على ما لا يرونَهُ صوابًا أو مُجانبًا للصّواب، فيَهدمون بالمِداد ما بنَاه الآخرون من إسمنت، ويُلزِمون الحُجّة عليهم ويُبيّنون لهم أوجُه النّقص والضعف، فيُدحضون بالعقل ما شيّده نُظراؤُهم بالعقل نفسه، يردُّ بالمِثل أصحابُ الانتقاد بالدّفاع عن آرائهم والاستدلالِ على صحّتها ومَنطقيتها ومَحوِ كل شُبهةٍ ترمي إلى النّيل منها وتَحقيرها، وهكذا لا يخرجُ الصّراع عن دَفّتيْ كتاب، أو فقراتِ مَقال، ولا يتجاوزه إلى سلاحٍ فتّاك آخر سوى سلاحِ القلم والوَرق، فتصفو الأنفسُ حينًا وتثورُ الثّائرات حينًا آخر، ولا يزيدُ الأدب سوى تعظيمًا وتنوعًا وإبداعًا يجدُه القارئُ زادًا هنيئًا فيكفيهِ ويَكتفي به.
أما اليوم فقد أصبحَ الفيْصلُ في كل نِزاع سيفًا ومنجلًا، وكيفما كانت طبيعة هذا الخلاف فمَردّه إلى الدماء لا محالة، بل والتمادي في القتل والتنكيل في تغييبٍ صارخٍ للعقل البشري والانتماء الإنساني المُنزّه في طَبْعِه وطبيعته عن هذه الأفعال المشينة، فأصبح تكميمُ الأفواه لا يتمُّ إلا بالسّيف، وكان من قبلُ يُدركُ بحُجّة القلم وحُجية الحرف، وانشغلَ العارفون في زماننا وهُمْ على كَثرتهم أبعد ما يكونون عنِ المعرفة، بِكُره كل من يُخالفُهم الرأي، أو يتصدّى لتُرّهاتهم وخُزعبَلاتهم بعد أن عجزوا عن تحريكِ القلم وإعمال البُرهان، والردّ بمنطقٍ من حديد وليس بسلاح من حديد، ويبدو أن العُقول اليوم قد فَسدتْ وعميتْ وطُمِرت في خنادق الظّلامية والجهل حتى وصلَ بها السبيل إلى طريقٍ مسدود تجمّعت في آخره وتناحرتْ وتقاتلتْ وتلطّختْ أياديها بالدماء فلم يَسلمْ منها أحد، فكل من يستفردُ برأيه ويرى ما يَراه، يصنعُ لنفسه جماعةً تقوّي شوكتَه وتَحميه من كَيْد خُصومه وتربّص أعدائه كما يَعتقد، فيبدأ بكَيْل الاتهامات جُزافًا بالتّخوين والتّكفير وما إلى ذلك، ولا يرى نفسَهُ إلّا وحيدًا وسط هذا العالم الفسيح من يتَّبِعُ الصّواب ويسيرُ بخطى ثابتة نحو الفوز بالنعيم، إلى درجة أن يوهِمه خَرفُهُ بأنه ضَمِن لنفسه الجنة ولن يزاحمه فيها أحد، أما غيرُه فمن المُنحرفين الضّالين المضلّين وبالتالي ما عليه إلا أن يحملَ في يده سوطًا ثم يبدأ بتفريق الجُموع ومُعاقبتهم بين من يراه أهلًا للجنة كونهُ يمشي على أثرهِ ويرى ما يراه، وبينَ من ينتظرهُ عذابُ جهنّم ولا أملَ له في النّجاة، وقد نَسِي المسكين أو تناسى أنه بذلك يُزاحم الله سبحانه وتعالى في مُلكه ومَشيئته، إذ لا تَخرج هذه الأمور عن تدبير العزيز الحكيم، هو في غِنى عن عبادته وعن العالم كلّه، وهو لا يملكُ لنفسه نفعًا ولا ضرًّا فكيفَ يتحكّم في مَصائر الأفراد ويَتنبّأ بمآل أُمَم.
وأمام هذه السلطة الطائشة المُستفرد بها، وهذه العَجرفة المُبالغ فيها، تسقطُ أرواحٌ بريئة ليس لها في كل هذا النّفاق المتجذّر من ذنب ولا حتى من رأي تُعبّر عنهُ بحرية، فتُهدَمُ قرى على رؤوس قاطنيها، وتُشرّد مدنٌ بأكملها، وتلتهبُ الصراعات الطائفية والسياسية، وتُكرَّس العقليات المُنغلقة، في غياب تامّ لآليات الحوار التي من المُفترض أن تنشأ عليها المجتمعات الإنسانية، فتُرجّح كفة العناد والانتقام على كفّة الليونة والالتئام، ولا شيءَ يعلو فوق سُلطة العُنف.
متى تعود المعارك من جديد؟ ولكن ليس بالصواريخ وقنابل البارود أو الطعن بالسكين من الخلف، بل أن تعود كما كانت بسلاح الكلمة والإقناع، مع ترك التشبث بالرأي والتعصّب له، ويبقى التراجع عن المواقف من شِيم العُلماء، والرّضوح إلى الحق لا يَعيب المرءَ في شيء ولا ينقصُ من قيمتِه، بل يُميّزُه عن باقي المخلوقات بالعقل الذي يُوجّهه إلى حيث يكون الصّواب، فقد تراجعَ من قبلُ عميد الأدب العربي طه حسين عن بعض مَواقفه، وسار على دَرْبه الكثيرون، ولولا هذه المُجابهات الأدبية والتنازلات الشجاعة البنّاءة، فلا الفكرُ بلغَ الثّراءَ ولا الأدَبُ تقدّم، ولدخلَا في حلقةِ الخمول والفتور كما هو حاصلٌ اليوم.