ككلّ سنة وكعادته قام بنَسْخِ كلّ ما يمتلكه من شواهد علميّة، نِتاج عمره الطّويل من الجدّ والاجتهاد، والصّبر والجلَد على الزّمن الجلاّد، والكفاح المُسلّح ضدّ كيدِ الحُسّاد، والثّقة المُطلقة بربّ العباد، حملها كلّها في ظرفٍ من الحجم الكبير، بعد أن عبّأ جلّ مداركه ومعارفه وثقافته في رأسه الصغير، ثم شدّ الرّحال صوب سيدي رحّال، الجهة الأكثر حاجة لحلمه الذي لطالما راوده "أستاذ"، وما إن وضع إحدى رجليه بتلك المؤسسة التّعليميّة حتى تراءَت له جحافل من الوافدين الذين جاؤوا من كلّ نحبٍ وصوب متراصّين في طوابير طويلة طُول حلمه الذي لازال متمسّكاً به رغم الصّعاب، لكنّه سُرعان ما استوعب الأمر بعد أن امتثل لحقيقة الأمر، وأخذ مكانه يتحيّن وصول الدّور، وبين أفواجٍ تأتي وأخرى تنصرف، وعرقٍ يسيلُ ودموعُ حسرةٍ وترقّبٍ تَنْذَرِف، دقّت ساعته بعد مرور ساعات تلو السّاعات، ليجد نفسه أمام مكتب يمتطي كرسيّه موظّف، يُطالبه بظرفه دون أن يتلطّف، فكّر قليلا وعن لومه تعفّف، مخافة وقوع عراقيل قد تحول دون وصول الظّرْف _وأنتم تعرفون الظّرْف_، فسلّمه إيّاه بابتسامة بشوشة كما يقتضي العُرْف، تصفّح الموظّف أوراقَه وهو يتربّص أخطاءَه، فإذا به يسأله عن بطاقة التّعريف؟ ضحك المُترشّح ضحكة هستيريّة وهو يردّد ما هذه البلِيّة؟ هل أنا في مكتب لقَبول الطّلبات أم بدائرة أمنيّة؟ أنا يا هذا من هجرتني الوِسادة بعد أن سهرت اللّيالي في الجدّ مستعيناً بالدّعاء والعبادة، واجتزت كلّ الإمتحانات بتفوّق كالعادة، وتقلّدتُ مراتب التّعليم حتى أضحت شواهده في رقبتي قِلادة، وهي الآن بين يديك، فهلاّ تصفّحتها يا صاحب السّعادة؟ ستجد وسط الظّرف الكبير آخرَ صغيراً، افتحه وستجد نسخة عن بطاقة التّعريف، مطابقة للأصل وليست تزييف.. فاحمرّت وجنتا الموظّف خجلاً، وهو يُوهم نفسه أنّ جواب المُترشّح لا يخلو من أن يكون شعراً أو دَجَلاً، فسلّمه رقمه في الإمتحان، ليعود أدراجه وسط الزّحام، وهو يُفكّر في المرحلة الأهم (وقت إجراء المباراة)، وما هي إلاّ أيّام معدودة حتى بصم المُترشّح على العودة، بعد أن حان وقت الإمتحان حيث يُعزّ المرءُ أو يُهان.. أخذ مكانه كما تقتضي الضّرورة مُتحلّياً بالثقة رغم الإختلالات المسعورة، وما إن تسلّم أوراق الإمتحان حتى اتضح المشهد للعيَان، ذاك غائب عن المباراة تحت ذريعة "ابن فلان"، وذاك لا يكلّف نفسه عناء الإجابة فنجاحه لا يختلف عليه اثنان، وذاك تُسرّب إليه الإجابات في جوّ من الطّمأنينة والأمان، وهو كالأبله مُسمّرٌ في مكانه فجعان، تحرُصه نظراتُ المجنيّ عليهم والجاني الشّمتان، ثم ابتسم لحرقة المشهد ساخراً، وغادر القاعة حائراً منتحراً، وهو يُردّد في قرارة نفسه وبأعلى صوته: الأمر محسوم والإمتحان حقلٌ خصب ملغوم، وما " اجتيازي للمباراة سوى جبرٌ خاطرٍ ليسَ إلاّ ".