في مهنتي كمحلل نفساني أجد الكثير من الصعوبات لتمكين الفرد من مراجعة نفسه والتساؤل في فكره وعن انفعالاته وتأويلها التأويل الصحيح وبالخصوص مسألة تقبل "الصراحة" التي يواجهُ بها من طرف الآخرين و في علاقاته الاجتماعية و المهنية. فعلى سبيل المثال زارتني موظفة عمومية وكانت من عاداتها إحضار الشاي في مكتبها وكان لديها كل اللوازم لذلك. وذات يوم جاء مدير جديد بالإدارة ولما رأى ما تصنعه الموظفة الكاتبة منعها من ذلك لأنه شيء لا يليق بطبيعة العمل الإداري المحترم. تأثرت تلك الموظفة وانفعلت بقوة ودخلت في نوبة هستيرية حادة وجرى نقلها إلى المستعجلات الطبية بواسطة سيارة إسعاف. و راحت هذه الموظفة تقص علي الحادثة وهي مؤمنة كل الإيمان بأنها ضحية لاستفزاز عدواني من تعسف و ظلم المدير الجديد لها. فحاولت مساعدتها لكي تدرك بأن سيادة المدير لم يُخطئ، لكن المحاولة فشلت حيث بقيت تصر على القول: "كان عليه أن يكلمني بطريقة أخرى". فهمت أنها ترفض الحوار المباشر والصريح وترفض أن نسمي "القط بالقط " كما يقول الفرنسيون في مثلهم الشهير. المغربي غريب الأطوار في واقعه اليومي لأنه يسمح لنفسه بأن يواجه من يريد تصفية حساباته معهم ب"الصراحة" ولكن لا يتقبل هو نفسه أن يُواجَه ب"الصراحة" من طرف الآخرين حتى لو كانوا من أقرب الناس إليه. في ثقافتنا النزاعية التنازعية كل ما يسمى ب"الصراحة" في الواقع هو وسيلة لتصفية الحسابات والتصريح بالأقوال القاسية والمؤلمة المتعمدة ولا علاقة له بالحوار الناضج الواضح والصريح الإيجابي لإزالة سوء الفهم بين المتحاورين. فكلما تحدث شخص معنا ب"الصراحة" نعتبره قاسياً وشريراً معنا. مثلاً اذا طلب شخص منك أن يقترض منك مالاً أو شيءً أخر وكان بالفعل هذا الطلب مستحيلاً عليك تنفيذه فإنك ترد عليه بهذا الشكل "أعتذر ليس بإمكاني هذا" ب"كامل الصراحة" غير أن ذلك الشخص سوف لن يصدقك وينقلب عليك أو كما يقال باللهجة العامية الدارجية "يتسيف عليك" وسيتهمك بكل الأوصاف الشريرة المعروفة في الثقافة العامية مثل "ولد الحرام عاد شرى تلفزيون بلازما أو سمارتفون أو سيارة... ويقولي ماعندوش، الله ينعل والديه، بن الكلب" وسيعاديك ويعتبرك في الحين من الأعداء وينتظر كل فرصة لانتقام منك. لكن هناك مشكل آخر ويا ليت المغاربة كان باستطاعتهم الحوار والرد عليه بمنتهى "الصراحة" وبحسن النية. و هذه المشكلة تتمثل في أن المغربي إذا طلِب منهُ شيء مثلاً فإنهُ سوف يرد على طالبه بإحدى الطرق الآتية: 1) ليست لديه الشجاعة الكافية ليرد بما يتمناه و هو الرفض لذلك، سوف يرد إذا بالعبارة العامية الدارجة: "مرحبا ماكين مشكل فوق الراس والعينين". لكنه سوف يتعذب ويؤنب نفسه بقساوة ويتهم شخصيته بالضعف ويردد ليلا ونهارا ب صوت داخلي"علاش أ لحمار ما تقولوش ميمكليش" ولماذا أنا ضعيف لكي لا أستطيع أن أرد عليه صراحةً ويدخل بذلك في صراع مستمر مع نفسه لأن هذه التجربة ليست بالأولى في حياته. وحينما يشتكي عن معاناته للمحيطين به يزيد غرقاً وآلاماً لأن المحيط ينفعل عليه بمزيد من التأنيب : "غلطتي والواحد خصو تكون عندو الشخصية قوية". لكن هذا المحيط الاجتماعي الذي يزعم الاختصاص في كل شيء بما في ذلك علم النفس بمستوى خريجين من جامعة أكسفورد هم ناصحون غارقون في التناقض بحيث لو كان كل واحد منهم في نفس وضعية زميلهم السائل فإنهم سيتصرفون بنفس طريقته و لن يطبقوا شيءً من نصائحهم العنترية. 2) تفادياً للحرج يلجؤ إلى الكذب و يُقسم كما هو معهود في مثل هذه الحالات :"والله ما حيدتو ليك والله لراني غارق فواحد الأزمة هي منقوليكش " وبما أن هذا يعتبر رفضاً مُقنَعاً وليس مُقنِعاً فيُنهِي رده بهذه الجملة المشهورة في ثقافتنا "ولكن والله حتى نشوف كندير أنا غدي نشوف مع خويا ولا دراري ونشوف كنضبر عليك" ويبقى هذا الوعد والذي سوف يمزق راحته ويتعذب به لأن الشخص الطالب المعني سوف يرجع لطلبه في يوم أو يومين. و في كلتا الحالتين المغربي يتألم من عدم قدرته على الرد ب"الصراحة" ورفضه لإستقبال الرد ب"الصراحة". و هي معادلة صعبة لا حل لها. الشخص الذي يجب عليه الرد ب"الصراحة" يجد نفسه في عذاب داخلي لا يُطاق والذي يستقبلُ الرد لا يتقبله و يعتبرهُ هجوماً ضد شخصه. من المنظور التحليلي، الاشكالية هي اشكالية "حب النفس". المغربي يعاني بدرجة عالية من ضعف "حب النفس" وكل ملاحظة أو انتقاد يعتبره هجوماً ضده و تعدياً شخصياً عليه و يبرر ذلك بالمقولة المعروفة :"حيت ما عندو زهر حتى واحد ما كيبغيه" لأنه في الواقع هو أول من يهين نفسه ولا يحب شخصه لأنه لا يرى ألا سلبياته! الاشكالية الأخرى والناتجة عن ضعف حب النفس هو "التأويل السهل". فكلما تلقى شخص ملاحظةً سلبيةً يؤولها مباشرة بعبارة:"حيت كيكرهني وماعرفتش علاش، انا ماعندي زهر". لكن مع الأسف المغربي لا يتساءل أو يُراجع نفسه أبداً، فهو دائما على حق وهو دائما "ضحية وغير محبوب من الآخرين". نفس الشيء يحدث بالنسبة للذي طُلِب منهُ الطلب، يتألم ويتعذب لأنه يرغب أن يرفض الطلب لكن اذا رفض فسيفقد إعجابه من الطالب و معزته لديه ولربما يخاصمه ولن يحبه أبداً وهو يخشى من رد الفعل العدواني هذا ويعتقد اعتقاداً جازماً بهذا ويرى نفسه مُرغماً على الرد ب"الله يا ودي ما يكون هي خاطرك" متناقضا مع ما يريده دهنه ويدخل في صراع مؤلم مع نفسه لكي يشتري إعجاب الآخر بثمن عظيم بالإكراه. هكذا نلخص هذه الاشكالية بأن المغربي يخوض غِمار العلاقات الاجتماعية بالخداع لأنه غير تلقائي وصريح وصادق فيرتدي عدة أقنعة و يراوغ لأنه لا يملك حب وتقدير النفس وهو يبحث عنه بدون انقطاع. فأصل هذا التوعك و جذوره تكمن في تربية الطفل الذي لم يتوفر له الحب والحنان والعطف قدر احتياجاته من طرف آبائه ولكن هناك كذلك التربية المغربية التي تفتقد مفهوم احترام الآخر ومفهوم تشجيع الطفل على أن يظهر على حقيقته بدون قناع لكسب اعجاب الآخرين. إن التربية المغربية المتأصلة في مجتمعنا تعلمنا مع الآسف استعمال الأقنعة فنرتدي القناع المناسب حسب الشخص الذي نتعامل معه أو وفقاً للوضعية التي أمامنا لإرضاء الآخر والفوز بإعجابه و تقديره و هذا ما تعبر عنه هذه العبارات الدارجة في ثقافتنا الشعبية: "خليك بعقلك باش تعجب الناس" أو "عنداك الى درت هدشي حتى واحد مغدي يبغيك". و هذه هي قواعد التربية المغربية او بعبارة أخرى "تعلم كيف تمثل لتنال اعجاب الآخر". ما هذا الخداع والكذب و التلون؟ فهل نحن نربي اطفالنا و نُعدُّهم للانطلاق السليم في العلاقات الإنسانية في سبيل بناء المجتمع أم نحن مدرسة لتكوين ممثلين مخادعين لأنفسهم و لغيرهم ؟ و منطقياً بل عقلانياً من المستحيل علينا أن ننال إعجاب و تقدير جميع الناس ، حتى الرسل و الأنبياء لم يجمع على الإيمان بهم و تقديرهم حق التقدير جميع الناس فكيف لنا أن نكذب على أطفالنا و نقول لهم أنه بإمكان كل واحد منهم الفوز بإعجاب و تقدير الجميع اذا كان ماهراً في التمثيل و استعمال الاقنعة المناسبة ؟ لماذا لا نعلم الطفل الصدق في حياته وأن يسعى لرضى نفسه وليس الفوز برضى الآخرين حتى ينال الثقة الكافية في نفسه ويصل للاكتفاء الذاتي و الاعتزاز الداخلي ويتعلم أن دوره الحقيقي في المجتمع ليس إرضاء الاخرين ولكن بذل كل الجهد للمشاركة في بناء مجتمع ناضج قائم على قيم المحبة و الصدق و الصراحة. ان التربية المغربية بمفهومها الشائع و تطبيقاتها السلبية الحالية تدمر شخصية الطفل وتجعله يمتلك الآلاف من الأقنعة والآلاف من الشخصيات عدا شخصيته الحقيقيَّة المدفونة بداخله والمشلولة العاجزة عن التحرك و التعبير عن نفسها. كلنا على علم بهذه الظاهرة فكيف تريد مني أن أصدقك حينما يكون ردك لطلبي ب"والله ما عندي ولو كان عندي والله ما نخبعو عليك" ؟ كيف تريد أن اثق فيك وأنا أرى القناع الذي ترتديه معي وسرعان ما تغيره مع أحد آخر؟ لهذا نحن في مجتمع تغيب الثقة فيه ويغيب الصدق عنه يعيش حالة من الارتياب و الحذر و عدم الثقة يعكسها المثل الشعبي القائل "ما تيق حتى فواحد حتى راسك ما تيقش فيه" ولذلك نحن دائما مجندون للرد فوراً للخروج من المواقف المحرجة كما رأينا ذلك في الامثلة السابقة ولو بحلول غير مرضية قائمة على التخفي و الخداع و الكذب و الرياء. فلا سبيل لنا اليوم لتحرير أنفسنا من هذه الحلقات المفرغة و الرجوع للقيم الحقيقية الاصيلة المتمثلة في قيم الصدق و المحبة و الصراحة التي تبنى عليها العلاقات القويمة و السلوكيات الاجتماعية الناضجة.