عموما صعوبة الموضوع و شساعته، تقودنا إلى رحلة البحث هاته لتشريح الواقع المغربي بشكل دقيق و طرح مئات الأسئلة و آلاف الأجوبة كالبحث عن إبرة في كومة قش خصوصا على اعتبار أن العدالة و التنمية ليست لوحدها التي تشكل الحكومة و عوامل أضافية أخرى عديدة مثلا هذه التجربة تأتي ضمن سياق و وضع عربي و دولي متميزين، ساعدت على تعويم الموضوع إلى درجة أنه كلما اعتقدنا أننا اقتربنا من فك طلاميسه تبين أننا ابتعدنا عنه أكثر، وعموما سنعتمد التجاوز و نضيق التحليل في مقابل الاقتراب من تحليل عملي نفسر به من خلال مقاربتنا لواقع الديموقراطية والتغيير مع العدالة و التنمية. أولا نبذة عن الديموقراطية وكيفية حمايتها: تشير الدراسات التاريخية إلى أنه قلما توطد نظام ديموقراطي بدون ممارسة الجماهير لدورها في النضال و التحرك على نطاق واسع، و لفترات طويلة أحيانا، و بتضحيات شخصية على الطريقة البوعزيزية، حيث يجب إقناع الناس العاديين بضرورة وجود سلطة ديموقراطية لتحقيق طموحاتهم الأساسية، كما يجب تنظيم المطالبة بها، و بمعنى أخر لا تأتي الديموقراطية على شكل منحة من الأعلى، فالحكام القدافيون و البنعليون و المباركيون( نسبة إلى رؤساء المطاحون معمرالقذافي و بن علي و حسني مبارك) و الديكتاتوريون العسكريون و المتنفذون الشيوعيون و الحكام مدى الحياة و المحتلون الأجانب ليس من يتخلى عن السلطة مختارا، بل فقط عندما يفقد النظام اعتباره على نطاق واسع، ويقنعه الحراك الشعبي بأن استمراره في السلطة لن يعمل إلا على تعميق الإضطراب و الفوضى و التظاهر، و لاريب في القبول أن تكون هناك مساعدة الديمقراطيات الخارجية في انتصار قوى الديمقراطية و إقامة مؤسسة ديموقراطية وعلى رغم هذه المساعدة فإنها لا يمكن أن تكون بديلا للنضال الشعبي ضد الحكم المستبد، ومن أجل حمايتها تتطلب حملة تشن على وجهتين في وقت واحد، يوجه النضال في الوجهة الأولى ضد القوى المعادية للديموقراطية ورموزها، هذه القوى التي لم تروض نفسها على القبول بالمؤسسات الحرة أو بالتأثير الذي يمارسه الناس العاديون على العملية السياسية، ويوجه في الوجهة الثانية لاحتواء القضايا التي تتسبب الشقاق خصوصا إبان فترة الانتخابات، كالتنافس على منصب رسمي و الميل إلى التعامل مع الآراء السياسية المختلفة، عموما يعتمد النضال في الوجهة الأولى على اقتناع المؤسسات التي لها مصلحة في استمرار الديموقراطية و استعدادها للدفاع عنها ، ويعتمد في الوجهة الثانية على شيء من ضبط النفس في ممارسة السلطة و الرغبة في المحافظة على الحوار مفتوحا مع المعارضين و الفرقاء السياسيين، وعلى احترام الجماهير بشكل عام للحقوق السياسية للآخرين.
ثانيا نبذة عن الواقع السياسي المغربي الراهن. باستحضارنا لمقولة الفيلسوف الليبرالي جون استيوارت ميل في القرن التاسع بأن تأسيس السلطة الديموقراطية يتطلب مستوى متقدما من الحضارة، وأن وجود الشعب المثقف مفيد بالتأكيد للديموقراطية، لأنه يعمل على تضييق الهوة بين الحاكم و المحكوم، وبربطها بالوضع السياسي المغربي الراهن، الذي يعيش في مرحلة مخاض تميزها نوعية جديدة من التناقضات علينا أن نعبرها بوعي حتى نصل بسلام إلى مرحلة يكون فيها المجتمع أكثر انسجاما مع متطلبات العصر، وأيضا مادامت الساحة النضالية قد امتلأت عن آخرها بمثقفين لا يحملون من المضمون إلا الاسم وقليل من الملاحظة، يبرز هذا النوع من المثقفين الذين يضعون مصالحهم الشخصية أهدافا فوق كل اعتبار و باعوا صمتهم و أحالوا نقدهم على المعاش المبكر طمعا في الجاه و المال أو منصب و لكون أهداف و مآرب هذا النوع بعيدة كل البعد عن معانات و هموم المقهورين بل هي إلى جانب "الناس الكبار" فهؤلاء يقبلون بكل شيء مقابل المال و الجاه والمنصب و بالتالي تنطبق عليهم تسمية المثقف العاهرة السياسية. في رأيي الشخصي يصبح المجتمع المغربي في هذه الحالة بحاجة إلى حذق و ذكاء وبطش أحيانا للمثقف العضوي أو الملتزم (بتعبير أنطونيو غرامتشي) و سأحاول فك رموز هذا المثقف الذي يشبه بطل الخير في الحكايات الشعبية التي يسردن لنا الجدات عندما كنا يافعين إبان فترات الشتاء. هذا المثقف يسمى بالعضوي لأنه مرتبط عضويا بالمجتمع و همومه كارتباط الغصن بالجدع في صورة زواج كاتوليكي لا طلاق فيه، كما يسمى لدى السلطة بالمشاغب الفكري إذ لا يكف عن طرح السؤال و إنتاج النقد، ليس النقد من أجل النقد و إنما النقد البذيل و خلخلة الجاهز من الطروح و هدم اليقينيات و اقتحام مناطق الظل و العتمة و مسألة الواقع و المراهنة الدائمة على تغييره في الاتجاه الذي يخدم الأغلبية وهم طبعا أناس القاع والعمق الاجتماعيين، فالمثقف الملتزم بل المناضل هو الذي يحمل في أعماقه هواجيس التغيير و النزوح نحو الممكن تجاوزا لكائن يبحث على الارتياح إنه ذلك الذي يجسد نوع من الضمير النقدي المنتج دائما باستمرار للسؤال و المحرض أيضا على طرح السؤال لمواجهة المجتمع بحقيقته التي يسعى دائما رجل السلطة إلى حجبها و الهروب منها ولكي يكون المثقف أكثر تجسيدا لمفهومه يجب عليه الانتباه إلى التحولات التي يعيش بها المجتمع من أجل التقاط إشاراتها و إبراز شروط إنتاجها و تكريسها و في ذلك كشف مباشر لغموضها الذي ينضوي في الغالب صراع مصالحي بين فئات و حقول المجتمع و بكشفه لحدود الصراعات و طبيعتها، يكون المثقف العضوي الملتزم قد اختار الدخول طوعا في مواجهة الذين يجنحون دوما إلى الحفاظ على الوضع وهم بالضبط "الناس الكبار". لكن لا بأس رغم غياب المثقف الملتزم و حضور المثقف العاهرة بشكل كبير في الساحة السياسة المغربية، سنستضيف ضيفا جديدا ألا و هو حزب العدالة و التنمية لاستكشافه، لكن بعد تبيان الشروط و الحيثيات التي أوصلته إلى ما هو عليه. نتيجة الحراك الذي شهدته المنطقة المغاربية و العربية ظهرت بالمغرب حركة 20 فبراير، شارك فيها مئات الآلاف من المواطنين و خاصة الشباب رافق تلك المسيرات شعار المطالبة بدستور جديد و من أجل تخفيف الاحتقان الاجتماعي تجنبا لاتساع مدى حركة التظاهر و تفاديا للانخراط فئات جديدة فيها. اتخذت عدة إجراءات من تعديل الدستور إلى إجراء الانتخابات البرلمانية التي حققت فوز حزب العدالة والتنمية الإسلامي المعتدل ب 107 مقعد من مقاعد البرلمان البالغ عددها 395. ثم شكل الائتلاف الحكومي من أربعة أحزاب وليس من حزب واحد، و تجدر الإشارة أن هذه التجربة تعرف لأول مرة مشاركة بعض الأحزاب بشكل مؤتلف، بعد ذلك تعددت الوعود لوزراء البيجيدي بل أيضا هناك قرارات جريئة، وإشارات متعددة في اتجاه تعزيز منطق الشفافية في تدبير المال العام، وأيضًا تعزيز آليات الحكامة من قبيل الإعلان عن المستفيدين من رخص النقل، وإعلان لائحة المستفيدين من الدعم السينمائي، وذلك من أجل ترجمة شعارهم الخالد لحملتهم الانتخابية في لافتة عريضة ألا وهو "إسقاط الفساد والاستبداد" مما جعل فئات واسعة من الشعب المغربي أو بالأحرى معظمه يدخلون بشكل تدريجي في لائحة الانتظار و يتبنون أطروحة التفاؤل و التكالية و يركنون إلى مقاعد غرفة الانتظار، فبات انتظار ما سوف تقدم عليه الحكومة من الإصلاحات و ماذا سيقدمه وزراء العدالة و التنمية بالخصوص. إذن هل العدالة و التنمية هي رصاصة الخلاص من الفساد و الاستبداد؟، أم هي جزء من مشهد سياسي مغربي عام المعروف بعدم التنظيم وبقصر الرؤى و بصراعات فئوية و طموحات و مصالح شخصية و هلم جرا....؟، هؤلاء الخطين هما ما سأحاول إبرازه بشكل مختصر فيما يلي. الرهان على أن يكون حزب العدالة و التنمية هو قائد التغيير مسألة فيها نظر، فنلاحظ أولا أنه كيفما كان الحزب، أي حزب و قدرته التعبوية و قاعدته الإجتماعية و تصوره الإيديولوجي و إمكانيته التنظيمية و تكتيكاته و انسجام تأطيره لا يمكن أن يغير مجتمعا بقدر يفوق قدرة ذلك المجتمع على التغيير، اللهم إذا كان قد وصل إلى الحكم عن طريق ثورة أهلته ليكون مسيطرا على كل الأدوات، و حتى في هذه الحالة فإن القدرة على التغيير، وقد رأينا في عدة التجارب ثورية بمفهومها الحقيقي تكون حلما في البداية و لا يلبث أن يصحوا على التراجعات، و المثال السوفياتي واضح سواء في عهد لينين عند انتهاج سياسية اقتصادية جديدة أو بعده في عهد ستالين حينما اتجه النظام السوفياتي إلى نظام ديكتاتورية بورجوازية من صنف بروقراطي أدى في النهاية مع " البرسترويكا" إلى أن انقلبت الأمور على أعقابها بعد أن فشلت الثورة في تحقيق أحلامها، و تفككت الإمبراطورية السوفياتية، وعادت الحركات الإنتهازية و الوصولية و الصوفية إلى الظهور من جديد في تيارات و صياغات مختلفة و سيطرت برجوازيات بل و مافيات جديدة، و هنا أستحضر مقولة كارل ماركس من كتابه " نقد الإقتصاد السياسي" مفادها أن أي مجتمع لا يمكنه أن يتغير حتى يكون قد تطور و بشكل يكون فيه المجتمع الجديد الذي يخلفه قد أصبح منبتا داخله و بشكل مسيطر، فلا يمكن تغيير أي مجتمع إلى مجتمع إلا بالقدرة الذاتية التي يمكنه أن يتغير بها، وفي حالة حزب العدالة و التنمية في المغرب فهو جزء من مشهد سياسي عام لا يعبر بكيفية مطلقة عن المجتمع و ليست له القدرة الكافية على تعبئة المجتمع ككل، بالإضافة إلى اختلالات التنظيمية و التناقضات السياسية الموجودة داخله، و الاختلافات فيما يخص التصور لما عليه الوضع و لما يجب أن يكون عليه، وعموما لقد تم الاعتماد على العدالة و التنمية في التجربة الحالية لما يتوفر عليه من رصيد معنوي و أيضا نظرا لرمزية قادته وتاريخه، لكن من وجهة النظر العملية لا تتوفر السيطرة الإيديولوجية و السياسية الكفيلة لتأهيله عمليا بتحمل و تفعيل مهمة التغيير، ومن هنا كان التحالف مع عدة تعابير سياسية داخل الحكومة لا يحكمها نفس الخط الإيديولوجي و الإطار السياسي، فعمليا نجد هناك في المغرب العميق كما يقول الفرنسيون تأييد للتجربة لكن بالمقابل نجد أجهزة ووزراء المشاركين في التجربة و التي كان يفترض أن يكون في خدمة التأثير و الدفع بالتجربة، يلعبون في كثير من الأحيان دورا انتقاديا و في الأحيان الأخرى دورا سلبيا، بحكم عدم التنظيم و بحكم صراعات فئوية و طموحات و مصالح شخصية. لذلك يطرح التساؤل التالي، كيف يمكن وضع المغرب على سكة الديموقراطية و التغيير الحقيقي؟ ومن المؤهل للقيام بهذا الدور؟ الجواب بسيط و واضح المعالم، بطبيعة الحال الطبقات الشعبية المقهورة التي يجب عليها أن تخلق نقلات ثقافية على مستوى المرافق التالية: الصحافة و كل ما يرتبط بها مباشرة من دور النشر و مجلات و كتب وجرائد و مختلف الوسائل التي يمكن بواسطتها التأثير على الرأي العام كالمؤسسات متعددة و كالأسر و النوادي والجامعات و النوادي و غيرها. وذلك لا يمكن أن يتأتى لها، إلا إذا وجد جيل من المناضلون، لهم إمكانية تحمل حرقهم على حازوق أو أن ينفون أو أن ينبذوا أو أن يصلبوا...وهم يشجبون الفساد ويدافعون عن الضعفاء ويتحدون السلطات الجائرة أو غير الشرعية حسب تعبير جورج باندا.