تكاد لا تخلوا أي مدينة من المدن المغربية من حي اسمه "الباطوار"، و هو اسم فرنسي ، و يقابله في اللغة العربية "المسلخ"، حيث يسبغ تواجد الباطوار شعبيا اسمه على المنطقة ككل، ضدا في الأسماء التي اختارتها البلدية و تقسيماتها الترابية، فمن ذكاء الذهنية الشعبية قدرتها الخارقة على إلصاق أسماء المرافق على المناطق السكنية المحيطة، و مايميز الباطوار كمرفق خدماتي و انتاجي و اقتصادي، هو طبيعة الساكنة، ففي هذا الحي نسبر أغوار و خبايا النفس الطيبة، نتنفس صدق و سلام، هنا يرقد سحر لا يقاوم يسكن الذاكرة ، و خطوات أباء و أجداد تبصم تجاعيد الدروب و الأزقة، هنا تصطف الجدران البيضاء، كما هي سرائر ساكنيها، كل من يمر هنا يلقي السلام، و كل من يستقر هنا يعيش في اطمئنان، هنا يوجد الجار الذي فقه أحوال الجيران حتى صار فردا من العائلة يؤخذ برأيه، و يساهم في تأديب أبناء الجيران إذا ما ارتكبوا الحماقات، هنا لا يزال الصغار يقبلون أيدي الكبار في ترسيخ نادر للقيم ، و ضدا في عولمة الأخلاق، في الباطوار لازال طعم الشاي المنعنع و رائحة البن المبهر يتسلل كل صباح عبر الزقاق الضيق و الأعمدة الكهربائية البليدة و الحيطان، حيث تتناغم سيمفونية بائع السمك مع فرقة كناوا الجوالة و حديث الجيران، و صراخ أم من مطبخ بيتها على ابنها الذي تأخر عند البقال، لتكون قطعة موسيقية رائعة يستهل بها الحي كل صباحاته. و في المقهى المعلوم ينشط الحديث، و السؤال، و التحليل، و التفسير و حل الكلمات المسهمة و المتقاطعة، حيث يستحيل المكان إلى فضاء فكري و أدبي و رياضي و سياسي مفتوح، تنشط فيه النقاشات و الإسهامات ، ربما أكثر إقناعا من التحليلات الإذاعية الضيقة في الحدود و المعرفة. في حي الباطوار يتأسس التضامن في أبهى حلله و أعظم تجلياته، حيث الإخاء و التآزر و الدعم و النصح و النصيحة، بأسلوب حضاري قوامه صدق المشاعر، و لا يزال الحي يحتفي بأولاده ونساءه و صغاره بالحماية في إطار نموذج يستحق الأخذ به، ففي مثل هذه الأحياء لا توجد الأفكار المتطرفة و الهدامة، لأنها تأسست على الحوار و التعددية و النقاش و احترام الأخر و حقه الجوهري في التعبير ، فالكل هنا عائلة واحدة و الكل يعرف الكل، و عبر فضاءات المساجد و المقاهي و الشوارع، تتجسد الألوان و الأشكال و الرغبات و الطموحات، في ظل توافق رائع، لم تعلمه فصول المدارس، و لا كتب النوازل، بل علمه الحي بعلاقات البنيوية و الاجتماعية ، و قد صدق ابن خلدون عندما صاغ في كتابه المقدمة نظرية العمران، عن تأثير الأحياء على السلوك و الطباع. وكنبوءة قديمة تعترينا في أحيائنا حالة من التأمل و الانتشاء، فهنا الفرن التقليدي المتمركز جنب بائعي مواد البناء و الإنشاء، و هنا بائع البيض بالجملة و التقسيط و الاسكافي و بائع السجائر ، و هنا تصطف البيوت و الدكاكين و صراخ الأطفال اللاهثين وراء كرة بلاستيكية و على وجوههم ترتسم ابتسامات عريضة، وهنا أبواب البيوت التي لا توصد، و ثنائيات أحاديث ربات البيوت الساذجة و الفضولية، هنا ترقد صور شتى من قناعة و رضا و حب و أخوة، حيث تتحول بيوت الجيران إلى موسم حاشد في الأفراح و الأطراح. مثل هذه الأحياء هي التي تعبرنا و تسكننا، و تظل شاهدة على ذكريات طفولية مغروسة في الأذهان. الباطوار ليس مجرد حي يسكنه الناس، بل هو مجموعة من الناس يسكنهم الحي، حيث التفرد في المسارات و التقاطعات و العلاقات، حيث نبل الأهداف و القيم، و حتى إن فرضت الظروف على إحدى العوائل الانتقال إلى منطقة أخرى، يبقى الارتباط الروحي و الوجودي بالحي مغروس للأبد، و لأن العزلة لا تملك تاريخا على حد تعبير الفيلسوف "غاستون باشلار"، فقد أسس الباطوار نموذجا لتخليد الأسماء و الأماكن و كتابة مراكز الانتماء، فهنا ولد الشاعر و التاجر و المعلم و الفنان و الإداري و العسكري و الأديب و المفكر و العامل و الصانع، و هنا كتبت أروع مواويل التضامن الاجتماعي، حيث أسماء الأشخاص و الأفراد نادرا ما ينادى بها، لان داخل هذا الفضاء هناك لقب لكل شخص. و في المساء عندما تهجر الشمس الديار، يلد الحي أبناءه و بناته، فالمسألة ليست في الوصف و التوصيف، فثمة شئ غريب لا أعرفه، لكني وقعت في أسره، إنه الحب الروحي، فهل تبادل الأحياء روادها و أبناءها المخلصين بالمثل؟ لا أدري، لكنه سيكون موضوع نقاش جيد في مقهى الحي رفقة ابن خلدون و غاستون باشلار. فإذا كان على الإنسان أن يعمل الصالحات حتى يدخل الجنة في الآخرة، ففي الدنيا عليه الذهاب للباطوار حتى يعيش.