إن الإنسان بطبعه اجتماعي ويحب الاختلاط بالآخرين ويحب كذلك تبادل المعلومات والمشاركة في الحديث والطعام وغيره من سلوكيات متبادلة , ولولا هذا التداخل الاجتماعي لبقي الفرد من الناس جاهلا عدوانيا متوحدا , ولذلك لا تبنى المجتمعات وترتقي على طريقة الانعزال والتنافر بل كل ما توحد الناس وتقاربوا فيما بينهم وساد بينهم المحبة والوئام والتعاون كان ذلك المجتمع أقرب للرقي والتطور في جميع الميادين. لذلك أول ما فعله الرسول صلى الله عليه وسلم في المدينة أن آخى بين المؤمنين أي بين المهاجرين والأنصار فسكنوا في بيوت بعض وشاركوهم في طعامهم وتجارتهم وزراعتهم فصاروا كقطعة غالية من قلوبهم يخافون عليهم كما يخافون على أنفسهم , ولم يغفل رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى عن فقراء المسلمين من المهاجرين إذ جمعهم في بيت يقال له بيت الصفة ولم يتركهم يتبعثرون ويتفرقون في نواحي المدينة بل كان يتفقدهم في كل يوم ويرسل لهم الطعام وما يتيسر من مال , فمرة ذات يوم أهدي لرسول الله صلى الله عليه وسلم لبن في إناء وأبو هريرة متواجد عند رسول الله يتضور جوعا وفرح بهذا القدح المملوء باللبن ولم يكن معهم أحد فقال له أذهب وناد في أهل الصفة فقال في نفسه وماذا عسى أن يكفي هذا اللبن فحضر جميع أهل الصفة ودار قدح اللبن بين الجميع حتى شربوا وشبعوا ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يبقى إلا أنا وأنت أشرب يأبا هريرة فشرب ثم أعاد عليه ثلاث مرات ليشرب فقال والله لا أجد له مسلكا , ثم شرب رسول الله صلى الله عليه وسلم وبقي بقية في الإناء وهذه من معجزات النبي صلى الله عليه وسلم وعنايته بأصحابه. إن الصحبة الصالحة هي من الضروريات لثبات الإنسان على دينه وإلا سيضعف ويتخطفه الشيطان كما يتخطف الذئب فريسته من الغنم القاصية , فهم يعينون المؤمن على طاعة الله ويذكرونه بما ينفعه وإن وجدوا منه ضعفا تقوى بهم حتى يزول عنه ذلك الضعف , فلذلك كانت تلك الأخوة بين المؤمنين لتزرع بينهم المحبة والألفة , قال تعالى في وصفهم ( إنما المؤمنون إخوة ) الحجرات (10) , ولا يكونون أخوة حتى يتحابوا فيما بينهم , ولذلك رفع الله قدر هؤلاء الناس بسبب تلك المحبة التي بينهم , فقد ذكر الألباني في صحيح الترغيب بسند صحيح عن معاذ بن جبل قال , قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " قال الله عز وجل المتحابون في جلالي لهم منابر من نور يغبطهم النبيون والشهداء " , وهذه المنزلة لم تدرك إلا بالتعاون على حب الخير للناس وخاصة الصالحين منهم في تفقد أحوالهم والسؤال عنهم والنصح لهم في الله , حيث لا تربطك بهم مصلحة دنيوية زائلة إنما تريد بهذا العمل وجه الله والدار الآخرة , ذكر الألباني في صحيح الترغيب بسند صحيح عن معاذ بن جبل قال , قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " المتحابون في الله في ظل العرش يوم لا ظل إلا ظله ، يغبطهم بمكانهم النبيون والشهداء . قال : ولقيت عبادة بن الصامت فحدثته بحديث معاذ ، فقال : سمعت رسول الله يقول عن ربه تبارك وتعالى : حقت محبتي على المتحابين في ، وحقت محبتي على المتناصحين في ، وحقت محبتي على المتبادلين في ، وهم على منابر من نور ، يغبطهم النبيون والشهداء والصد يقون. ومرافقة الصالحين ومخالطتهم هو من الأعمال الصالحة والأجر فيه كثير حيث تزول بينهم الكلفة والروابط الدنيوية وتبقى تحفهم رابطة الدين والإيمان فلا ينظرون إلى الفوارق بينهم كفارق المال والنسب والعرق واللون فهذه بينهم لا أثر لها فتجد قلوبهم طاهرة نقية لا تنشغل إلا بتذكر الآخرة وطلب الزيادة فيما يرفع الدرجات والنصح بإخلاص على عمل الصالحات وترك المنكرات , فهذا ديدنهم يطوون بها الأيام والسنين وهم على هذا الحال حتى يلقوا ربهم , فقد ذكر الألباني في صحيح الترغيب بسند حسن عن أبي الدرداء قال , قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " ليبعثن الله أقواما يوم القيامة في وجوههم النور ، على منابر اللؤلؤ ، يغبطهم الناس ، ليسوا بأنبياء ولا شهداء قال : فجثى أعرابي على ركبتيه ، فقال : يا رسول الله ! جلهم لنا نعرفهم ؟ قال: هم المتحابون في الله من قبائل شتى ، وبلاد شتى يجتمعون ، على ذكر الله يذكرونه. ولا يجب أن يتبادر لذهن الرجل الصالح أن هذه الأوصاف تنطبق على هؤلاء المتصوفة الذين يتصنعون الصلاح والذكر وهم يرقصون بذكر الله وينتفضون ويتمايلون كما يتمايل السكارى من نشوة الطرب , فهؤلاء قد سلك بهم الشيطان واديا يقربهم إلى النار وليس ذلك من فعل الصالحين ولم يكن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من هذا الصنف لا من قريب ولا من بعيد بل هم للشرك والذنوب أقرب وأكثر حظا , إنما الذكر هو قراءة القرآن والتسبيح والصلاة والصيام والصدقة وسائر العبادات , ومن العمل الصالح تفقد الصالحين وحثهم على المحافظة والمثابرة على دين الله , فإن كنت في محاضرة تنصت لشيخ فاضل فأنت في ذكر الله وإن أمسكت مصحفا والتحقت مع إخوانك لتقرئونه وتتدارسونه فيما بينكم فأنتم في ذكر الله , وإن جلست لوحدك تذكر الله في بيت من بيوت الله تنتظر الصلاة فأنت في ذكر الله وعلى أجر عظيم , وليس ذكر الله التجمع والصياح والرقص وضرب الدفوف وترديد كلمة الله - الله هو من الذكر بل هذا ربما من الاستهزاء باسم الله الأعظم والسخرية منه فلم يأمرنا نبينا محمد صلى الله عليه وسلم بفعل هذه الأفعال. إن التواصي بالمسلمين وتعليمهم الخير وإرشادهم للصواب هو من العمل الصالح ولو تفقد الواحد منا أصحابه وناصحهم وأرشدهم لما كثرت بيننا الخرافات التي انتشرت في عرض البلاد وطولها , فالمحبة أن تحب لأخيك ما تحب لنفسك ولولا رفعة هذه المنزلة لما جعل فاعلها من السبعة الذين يظلهم الله تحت ظله , فقد روى البخاري في صحيحة عن أبي هريرة أنه قال , قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " سبعةٌ يظلُّهم اللهُ يومَ القيامةِ في ظلِّه يومَ لا ظلَّ إلا ظلُّه : إمامٌ عادلٌ ، وشابٌ نشأَ في عبادةِ اللهِ ، ورجلٌ ذكر اللهَ في خلاءٍ ففاضت عيناه ، ورجلٌ قلبُه معلقٌ في المسجدِ ، ورجلان تحابا في اللهِ ، ورجلٌ دعته امرأةٌ ذاتُ منصبٍ وجمالٍ إلى نفسِها فقال : إني أخافُ اللهَ ، ورجلٌ تصدق بصدقةٍ فأخفاها حتى لا تعلمَ شمالُه ما صنعتْ يمينُه " , فانظر في هذا الحديث منزلة المحبة في الله والتي يراد بها محبة الصحبة الصالحة والتي لم تبنى على مصلحة دنيوية بل هي أخوة خالصة لله وفي ذات الله تريد بها وجه الله , فهل المسلمون بينهم هذه الأخوة أم أحيانا التنافر والمعادة هو السائد حتى بين الصالحين والدعاة. إن العاقل لا يضيع المنازل العالية والتي يحبها الله ويقرب فاعلها إليه , وثمنها أن تحب أخيك في الله , فليس على المؤمن إلا بذل هذه المحبة وتصفية القلب من كل عوالق وبذل الخير والنصح لكل مؤمن , فإن فعلنا ذلك أدركنا تلك المنازل وصلح المجتمع وازداد الترابط والألفة بيننا أسئل الله أن يوثق قوة الإيمان بيننا وأن يجعلنا متحابين فيه الله والحمد لله رب العالمين.