مالي تحتج على إسقاط "طائرة مسيرة" بتحرك عدائي للجيش الجزائري    تفاعلا مع الورش الملكي لإصلاح المنظومة الصحية.. مهنيو الصحة 'الأحرار' يناقشون مواكبتهم لإصلاح القطاع    النظام الجزائري.. تحولات السياسة الروسية من حليف إلى خصم في مواجهة الساحل الإفريقي    كأس أمم إفريقيا لأقل من 17 سنة.. نبيل باها: من أجل التتويج باللقب لابد من بذل مجهودات أكثر    كأس أمم إفريقيا لأقل من 17 سنة (ربع النهائي).. المنتخب المغربي يواجه نظيره الجنوب الإفريقي يوم الخميس المقبل    روعة مركب الامير مولاي عبد الله بالرباط …    توقيف إفريقيين مقيمان بدول أوروبية بمطار طنجة لحيازتهما ل46 كيلوغرام من المخدرات    ولد الرشيد: المغرب يدافع "بكل حزم" عن احترام الوحدة الترابية للدول    أمم إفريقيا : منتخب U17 يضرب موعدا مع جنوب إفريقيا في ربع النهائي بعد فوزه على تنزانيا    خريبكة تلاقي تطوان بكأس العرش    تحطم طائرة مسيّرة تابعة للجيش المالي.. التحقيقات تكشف إسقاطها بهجوم صاروخي من الجيش الجزائري    توقيف شخص بإنزكان بشبهة السكر العلني البين وإلحاق خسائر مادية بممتلكات الغير    الذكاء الاصطناعي في الصفوف الأمامية خلال المؤتمر 23 لجمعية مكافحة الأمراض المعدية    عطاف يستقبل دي ميستورا بالجزائر    الإيطالي 'لوتشيانو دارديري' يتوج بلقب النسخة 39 من جائزة الحسن الثاني الكبرى للتنس    عودة حركة الملاحة إلى طبيعتها بين طنجة وطريفة بعد تحسن الأحوال الجوية    رولينغ ستونز إفريقيا في قلب صحراء امحاميد الغزلان    عشرات آلاف المغاربة يتظاهرون في الرباط "ضد الإبادة والتجويع" في غزة    وقفة تضامنية حاشدة في الحسيمة نصرة لفل سطين وتنديداً بالعدوان على غ زة    وزير الخارجية الفرنسي يعلن الاتفاق على بناء "شراكة هادئة" مع الجزائر    بيانات: المغرب ثاني أكبر مستورد للقمح الطري من الاتحاد الأوروبي    العربية للطيران تطلق خطا جويا جديدا بين الناظور ومورسيا    بعد انخفاض أسعار المحروقات وطنياً.. هذا هو ثمن البيع بمحطات الوقود في الحسيمة    آلاف المعتمرين المغاربة عالقون في السعودية    جدل الساعة الإضافية : كلفة نفسية على حساب اقتصاد طاقي غير مبرر    "أساتذة الزنزانة 10" يعلنون الإضراب    تأجيل تجمع "مواليد 2000 فما فوق"    الوكالة الوطنية للمياه والغابات تواجه رفضا واسعا للتعديلات القانونية الجديدة    بوزنيقة: المكتب الوطني المغربي للسياحة: افتتاح أشغال مؤتمر Welcom' Travel Group'    المغرب يحدد منحة استيراد القمح    الرصاص يوقف هائجا ويشل حركة كلبه    توقيف مروجين للمخدرات الصلبة بحي الوفاء بالعرائش    لوبن تدين "تسييس القضاء" بفرنسا    لاف دياز: حكومات الجنوب تستبعد القضايا الثقافية من قائمة الأولويات    وزان تحتضن الدورة الأولي لمهرجان ربيع وزان السينمائي الدولي    الجسد في الثقافة الغربية 11- الجسد: لغة تتحدثنا    الذكاء الاصطناعي.. سوق عملاق يُهدد العدالة الرقمية    سجل عشاق الراكليت يحطم رقمًا قياسيًا في مدينة مارتيني السويسرية    دش الأنف يخفف أعراض التهاب الأنف التحسسي ويعزز التنفس    "قافلة أعصاب" تحل بالقصر الكبير    أوبك بلس تؤكد عدم إجراء أي تغيير على سياسة إنتاج النفط    الرباط تصدح بصوت الشعب: لا للتطبيع..نعم لفلسطين    السفارة الأمريكية توجه تحذيرا لرعاياها بالمغرب    لسعد الشابي: الثقة الزائدة وراء إقصاء الرجاء من كأس العرش    أمن طنجة يوقف أربعينيا روج لعمليات اختطاف فتيات وهمية    توضيحات تنفي ادعاءات فرنسا وبلجيكا الموجهة للمغرب..    توقعات أحوال الطقس اليوم الأحد    ترامب يدعو لخفض أسعار الفائدة: الفرصة المثالية لإثبات الجدارة    المغرب يتوعد بالرد الحازم عقب إحباط محاولة إرهابية في المنطقة العازلة    طنجة .. وفد شبابي إماراتي يطلع على تجربة المغرب في تدبير قطاعي الثقافة والشباب    دعم الدورة 30 لمهرجان تطوان لسينما البحر الأبيض المتوسط ب 130 مليون سنتيم    بحضور عائلتها.. دنيا بطمة تعانق جمهورها في سهرة "العودة" بالدار البيضاء    الوديع يقدم "ميموزا سيرة ناج من القرن العشرين".. الوطن ليس فندقا    العيد: بين الألم والأمل دعوة للسلام والتسامح    أجواء روحانية في صلاة العيد بالعيون    طواسينُ الخير    تعرف على كيفية أداء صلاة العيد ووقتها الشرعي حسب الهدي النبوي    الكسوف الجزئي يحجب أشعة الشمس بنسبة تقل عن 18% في المغرب    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



ما أحوجنا لمعركة كرامة ترد لنا كرامتنا!!
نشر في أخبارنا يوم 21 - 03 - 2015

التشابه الذي تشهده أحداث التاريخ من وقت لآخر لا يعني بالضرورة دحضاً للمسلمة القائلة أن "التاريخ لا يعيد نفسه" لأن التاريخ بالفعل لا يعيد نفسه، حتى وإن وقع هذا التشابه بين بعض أحداثه المختلفة والمتباينة من حيث الأزمنة والأمكنة. ولربما أن من يُصر على الادعاء بذلك عن عمد، إنما يفعل ذلك بقصد تزوير الحقائق والوقائع لغرض تحريف التاريخ، خدمة لأنانيات فردية أو مصالح فئوية أو حزبية، داخلية أو خارجية. لكن عندما يكون المواطن العربي الذي يحمل الهم القومي في حضرة المشهد العربي الراهن بكل ما يظهره ويبطنه من مأساوية وسوداوية ووهنٍ وضعفٍ وتردٍ وانحطاطٍ وفقدان إرادة وهدر كرامة، فإن من واجبه ومن حق الوطن عليه أن يُعبر عن ألمه ورفضه للواقع العربي الطارئ ويظهر رغبة جامحة بالانتفاض عليه والنهوض به من جديد، بغض النظر عن أي تشابه يقع بين أحداث التاريخ المعاصرة والغابرة!! وهنا لا يقع الاستغراب إذا ما صدح المواطن العربي بأعلى صوته وبإلحاحٍ معلناً دهشته من خلال القول: "ما أشبه اليوم بالأمس"!!
ومما لا شك فيه أن ما يدعو للإلحاح باستدعاء ذلك القول هو أن ما تشهده الأُمةُ العربية هذه الأيام وتُمتحنُ على أساسه بفعل "الربيع العربي" المشؤوم الذي هو ليس أكثر من خريف عربي، وعلى خلفية جريمة احتلال العراق وما ترتب على هذه الجريمة من آثار جسيمة وخطيرة، وعلى نقر دفوف "الشقاق الوطني الفلسطيني" وما ترتب على ذلك من تباعد بين الضفة الغربية وقطاع غزة وأبنائهما، وفي ظل استمرار تدفق شلال الدم الفلسطيني وتضييق الخناق الاقتصادي على الشعب الفلسطيني جراء الاحتلال الصهيوني الفاشي والضغوط الأجنبية المكثفة والمتواصلة التي تُمارس عليه وعلى سلطته من قِبَل الحكومات الغربية وبالأخص حكومة الولايات المتحدة، يعيد إلى الأذهان من جديد ما سبق لهذه الأمة أن شهدته وامتُحنت على أساسه من نكسات وهزائم في عقودٍ زمنية سابقة، وأخص بالذكر هنا العقود التي تلت النكبة الكبرى التي حلت بالفلسطينيين وكل العرب في عام 1948. لكن من حُسن طالع هذه الأمة أن الأمل يبقى على عهده ووفائه لها، لأنها ما من مرةٍ فُقدت إرادتها أو هُدرت كرامتها إلا واستردتها من جديد، وفي كل المرات كان الفضل الأول والأخير في ذلك للشعب العربي لا لحكامه "الأشاوس" الذين لا حول ولا قوة لهم.
وكأي مواطن عربي حمل الهم القومي ونذر نفسه لخدمة الأمة والحفاظ على مصالحها، لطالما اعتدت القول: "ما أشبه اليوم بالأمس" أو "ما أشبه الأمسِ باليوم" وأنا أحاول "قدرَ ما تسع نفسي وتحتمل" أن أساهم في استنهاض الإرادة والكرامة العربيتين من خلال استذكار "ملحمة الكرامة" الخالدة والمشرفة، التي تتصادف ذكراها السابعة والأربعون مع الحادي والعشرين من شهر آذار الجاري. فعندما سطر المقاومون الفلسطينيون، بالتنسيق مع الجيش الأردني ودعمه، تلك الملحمة الأسطورية التي اصطُلح على تسميتها "معركة الكرامة" لألف اعتبار واعتبار وألف سبب وسبب كان أولها المكان الذي حدثت فيه وآخرها استعادة الكرامة العربية، لم تكن الأمة العربية قد استيقظت بعدُ من حالة الذهول التي كانت قد دخلت فيها جراء نكسة 5 حزيران 1967، خاصة وان تلك النكسة بكلِ ما أفرزته من إرهاصات ونتائج سلبية تمثلت بخيبة الأمل والانكسار وفقدان الكرامة، حدثت في أوجِ المدِ القومي العربي وفي ظل قيادة مارد عربي استثنائي هو الزعيم الخالد جمال عبد الناصر، تغمده الله بواسع رحمته.
يومها لم يكن قد مر عام واحد على حدوث النكسة، الأمر الذي جعل من تلك المعركة الملحمة وما ترتب عليهاَ من نتائج إيجابية لصالح الجانب العربي "حالة جديدة وفريدة من نوعها في تاريخ الصراع العربي الصهيوني". فلأولِ مرة منذ انطلاقتها في الأول من كانون الثاني 1965، وجدت الثورة الفلسطينية نفسها، جنباً إلى جنب مع الجيش الأردني، تخوض معركة عسكرية مباشرة ضد جيش الاحتلال الذي استعمل فيها جميع أنواع أسلحته الفتاكة، أميركية الصنع وعالية التقنية.
شكلت "معركة الكرامة" آنذاك حالةً فريدةً من نوعها، باعتبار أنها مكنت الثورة الفلسطينية والجيش الأردني الشقيق من إسقاط مقولة "الجيش الذي لا يُقهر" التي اعتاد الكيان الصهيوني والغرب على ترويجها منذ بدء الصراع العربي الصهيوني الذي تفجر مع الولادة القيصرية لهذا الكيان في قلب الوطن العربي مع نكبة عام 1948، وذلك بعدما تمكنت الثورة والجيش الشقيق من رد جيش الاحتلال على أعقابه وتحقيق الانتصار عليه في معركةٍ افتقرت إلى الحد الأدنى من التكافؤ العسكري بين الفريقين المتخاصمين.
لقد مثلَ العدوان الصهيوني الذي قاد إلى "معركة الكرامة" في ذلك الوقت أول توغلٍ حقيقي لجيش الاحتلال عِبَرَ نهر الأردن، بلغ في حينه مسافة عشرة كيلومترات على جبهةٍ امتدت من الشمال إلى الجنوب نحو خمسين كيلومتراً، وذلك من جسر الأمير محمد "دامية" شمال المملكة الأردنية حتى جنوب البحر الميت، بهدف القضاء على الفدائيين الفلسطينيين في مخيم الكرامة على بُعد خمسة كيلومتراتٍ من جسر الملك حسين "اللنبي" وفي مناطق أخرى إلى الجنوب من البحر الميت. كما أنه مَثَلَ أول عمليةٍ لجيش الاحتلال على نطاقٍ واسعٍ في ظل رئاسة الإرهابي حاييم بارليف لأركان جيش الاحتلال الصهيوني.
وقتها حشد الكيان الصهيوني قواتٍ كبيرةً مدعمة بجميع أنواع العتاد الحربي بما في ذلك الطائرات العامودية والمروحيات أملاً في أن "يُلقن" الثورة الفلسطينية بقيادة حركة التحرير الوطني الفلسطيني فتح "درساً رادعاً"، على حَدِ ما ورد آنذاك على ألسنة قادته السياسيين والعسكريين، من خلال "تحقيق نصر سريع ومفاجئ" يستغله في رفع معنويات الصهاينة التي كانت قد تدهورت بل انهارت تحت وطأة عمليات المقاومة في الأراضي الفلسطينية المحتلة، التي كان قد مضى على بدئها ثلاثة أعوام وبضعة أشهر فقط. لكن حكمة ووعي الثورة الفلسطينية والجيش الأردني فوتا على كيان العدو الفرصة التي كان يعول عليها، لأن تحركات وحشود جيشه المعتدي كانت في دائرة الرصد والمتابعة، وهو ما سهل مهمة التعامل مع العدوان وفقاً لمتطلبات الحرب الشعبية حسب ما جاء في التقييمات العسكرية الصهيونية والدولية التي صدرت حول "معركة الكرامة" في ما بعد.
فالعدوان الصهيوني الذي لم يكن مفاجئاً للثورة الفلسطينية والجيش الأردني مُني برغم ضخامته من حيث العدد والعتاد بخيبة أمل كبيرة، بعدما اصطدم بمقاومة عنيفة من قِبَل الثوار الفلسطينيين والجنود الأردنيين لم تكن في حسبان جيش الاحتلال وقادته. فنتائج ذلك العدوان لم تأتِ أُكُلَها بالنسبة للكيان الصهيوني لأن "رياحه" لم تسر كما اشتهت "سُفن" جيشه المعتدي، باعتراف بعض قادته، ومن بينهم رئيس الأركان الإرهابي حاييم بارليف. وقد دلل طلب أولئك القادة وقف القتال بعد ساعات قليلة من شروع جيشهم في شن عدوانه الهمجي على الهزيمة المبكرة لهذا الجيش، بعدما مُني بخسائر فادحةٍ في جنوده وعتاده العسكري، وبالأخص في آلياته وطائراته. لكن الثورة الفلسطينية والجيش الأردني وفي ظل نشوة الصمود والتصدي الجبارين، وربما في ظل نشوة النصر المبكر أيضاً، رفضا ذلك الطلب وأصرا على انسحاب كامل لجيش الاحتلال الصهيوني من جميع الأراضي الأردنية التي دنسها بعدوانه السافر قبل الحديث عن أي وقف لإطلاق النار مما أجبره على الاستجابة الفورية لذلك الإصرار.
نعم أُجبر جيش الاحتلال الصهيوني المعتدي على الانسحاب في أجواءٍ من البلبلة والتشتت مخلفاً وراءه جثث قتلاه وجرحاه. وقد تكبد مزيداً من القَتلى أثناء انسحابه بفضل الكمائن التي كان الثوار الفلسطينيون قد نصبوها له قبل وخلال تلك المعركة التاريخية. وفي محاولة يائسة دللت على عجزه وهمجيته وتدني روحه المعنوية المتهالكة والمنهارة، دمر جنوده الجبناء عدداً كبيراً من المنازل وأتلفوا مساحات واسعة من الأراضي الزراعية التي اعترضت طريق انسحابهم المهين، كما وخطفوا 147 مزارعاً أردنياً ادعت حكومة تل أبيب في ما بعد "أنهم من الفدائيين". وقد ارتكب الجنود الصهاينة تلك الأفعال المشينة في سياق مسرحية هزلية مفتعلة لذر الرماد في العيون!!
يُستدل من الوثائق الفلسطينية أن الجيش الصهيوني المعتدي قد بدأ هجومه فجر يوم 21 آذار 1968، وطلبت قيادته وقف إطلاق النار ظهر ذات اليوم، وأجبر الجيش على الانسحاب من الأراضي الأردنية في ساعات مسائه الأولى. انسحب الجيش الباغي وهو يجر وراءه ذيول الخيبة والهزيمة.
وبالاستناد إلى التقارير العسكرية التي تم تداولها بعد "معركة الكرامة"، فإن خسائر جيش العدوان قد بلغت 70 قتيلاً وأكثر من 100 جريح و45 دبابة و25 عربةً مجنزرة و27 آلية مختلفة و5 طائرات. أما الثورة الفلسطينية فقد خسرت 17 شهيداً في حين خسر الجيش الأردني 20 شهيداً و65 جريحاً و10 دبابات و10 آليات مختلفة ومدفعين فقط. وقد أكدت "الموسوعة الفلسطينية" و"مؤسسة الدراسات الفلسطينية" في "الكتاب السنوي للقضية الفلسطينية لعام 1968" صحة تلك الأرقام.
وهنا أرى أن الأمانة تتطلب الإشارة إلى أن أبرز الأهداف التي حددتها الثورة الفلسطينية كعناوين لصمودها وانتصارها في "معركة الكرامة" الأسطورية تمثلت، برفع المعنويات العربية بما فيها الفلسطينية التي كانت قد انحدرت إلى أدنى مستوى لها بعد نكسة الخامس من حزيران 1967، وتحطيم معنويات العدو الغاشم وإنزال الخسائر الفادحة في صفوفه، وتحقيق الالتحام الثوري مع الجماهير العربية من المحيط إلى الخليج بحيث تحول الشعب العربي إلى قوة واحدةً منيعةً ومتماسكة، وزيادة التقارب والثقة بين قوات الثورة الفلسطينية بجميع فصائلها من جهة والجيش الأردني البطل من جهة ثانية، وتنمية القوى الثورية داخل صفوف الشعب العربي واختبار ثقة المقاومين بأنفسهم في معارك المواجهة المباشرة والالتحام مع العدو.
وقد كان للثورة الفلسطينية من خلال "معركة الكرامة" ما أرادت، فحققت جميع هذه الأهداف بفعل الصمود والتصدي الواعيين لها، وبنتيجة حالة التقهقر التي أصابت جيش الاحتلال والهزيمة الحقيقية التي أُحدقت به والتي كانت الأولى من نوعها في تاريخه حتى تلك اللحظة.
اعترف عدد كبير من المراقبين المسكريين الإقليميين والدوليين بأن "معركة الكرامة" سجلت نقاطاً ناصعة البياض لصالح العرب عامة والفلسطينيين خاصة دخلت بشرفٍ واعتزازٍ السجل التاريخي للصراع العربي الصهيوني. واعترفوا أيضاً بأنها شكلت تحولاً إيجابياً كبيراً في مسيرة الثورة الفلسطينية بكل فصائلها وبالأخص حركة التحرير الوطني الفلسطيني "فتح" ، باعتبار أنها كانت وستبقى قائدة النضال الفلسطيني. وقد دلل على ذلك إقبال المتطوعين العرب ولا سيما المثقفين وأصحاب الكفاءات العالية على الثورة ، والهبة الجماهيرية العربية التي عبرت عن نفسها خلال دفن الشهداء في العواصم والمدن العربية المختلفة ، والالتفاف الشعبي العربي وحتى الأجنبي حول الثورة وتأييدها ومناصرتها والانخراط في صفوفها كإفرازٍ آلي لنصر الكرامة العربية. كما وإن "معركة الكرامة" من خلال "الصمود" والنصر أعادت للأمة العربية جزءاً كبيراً من كرامتها التي هُدرت في الخامس من حزيران 1967 وأعادت الثقة للقوات المسلحة العربية وثقة الشعب العربي بهذه القوات ، وذلك لأن "الكرامة " كمعركة عسكرية شكلت امتحاناً حقيقياً لتلك القوات بعد نكسة حزيران من خلال مشاركة الجيش الأردني البطل فيها بشكلٍ فاعل.
ويُشار في هذا الصدد إلى أنه إلى جانب الخسائر التي مُني بها جيش الاحتلال الصهيوني الغازي في عتاده وأفراده على غير ما اعتاد عليه في معاركه السابقة مع العرب في القياس الزمني ل"معركة الكرامة"، فقد فشل هذا الجيش في تحقيق الأهداف العسكرية والإستراتيجية التي رسمها لرفع معنويات الصهاينة. وليس من باب المبالغة القول أن "معركة الكرامة" قد ساهمت في رفع وتيرة الخوف والرعب في قلوبهم أكثر بكثير مما كانت عليه من قبل.
أضف إلى ذلك أن الثورة الفلسطينية مدعومة بالجيش الأردني ومؤيدة بالجماهير العربية قد فرضت على جيش الاحتلال الغازي نسقاً جديداً من الاشتباك الالتحامي لم يعتد عليه من قبل، وأسقطت نظرية الحرب الخاطفة والمفاجئة التي درج على شنها ضد العرب منذ نكبة فلسطين عام 1948 والتي عادةً ما كانت تحقق له انتصارات عسكرية ترافقت دائماً مع هزائم سياسية.
وبسقوط وتلاشي بدعة "الجيش الذي لا يُقهر" أمام الثورة الفلسطينية التي لم تكن تملك غير النذر اليسير من الأسلحة الخفيفة والدعم العسكري الأردني في ظل نصر الكرامة المؤزر، بدأت الإرادة العربية تعيد تشكيل نفسها على أرضية من الكرامة المتعافية لتبعث الأمل مجدداً باحتمال النصر العربي المقبل، الأمر الذي حَفَز َالقيادة المصرية بعد عام واحدٍ فقط من ذلك النصر على استعادة زمام المبادرة وإظهار الرغبة الصادقة والأمينة في تجديد المواجهة مع العدو.
فعلى خلفية نصر الكرامة المبارك، أعلن الزعيم العربي الكبير جمال عبد الناصر طيب الله ثراه بعد إقل من عام على ذلك النصر وتحديداً في الثامن من آذار 1969 بدءَ حرب الاستنزاف ضد الكيان الصهيوني الغاصب، وكلف الراحل عبد المنعم رياض بقيادة العمليات الفدائية على الجبهة المصرية الصهيونية. لكن رياض استشهد مع نفر من ضباطه وجنوده وهم يقومون بواجبهم القومي في التاسع من آذار من ذلك العام، أي بعد يوم واحد فقط من بدءِ الحرب. وقد أحيا القوميون العرب الذكرى التاسعة والثلاثين لاستشهاد رياض ورفاقه في التاسع من شهر آذار الجاري، في ذات الوقت الذي أحييت فيه الجماهير المصرية ذكرى جميع شهدائها، لأن يوم استشهاد رياض ورفاقه تحول إلى يوم يُستذكر فيه جميع شهداء مصر الأبرار.
رحيل القائد عبد المنعم رياض بتلك السرعة غير المتوقعة شد من عضد وأزر الجيش المصري بقيادة عبد الناصر وزاده إصراراً على مواصلة المواجهة والتحدي في إطار حرب الاستنزاف لتمهيد الطريق أمام النصر المنتظر، ثأراً وانتقاماً لنكسة حزيران وانتصاراً لفلسطين والحقوق العربية العادلة. وبالفعل أضافت "معركة الكرامة" جرعة إضافية من الثقة وشكلت حافزاً رئيسياً لحرب الاستنزاف المصرية ضد قوات الاحتلال الصهيونية، مثلما شكلت حرب الاستنزاف في ما بعد حافزاً بل أرضية عسكرية خصبة لانتصار العرب في حرب تشرين الأول 1973، باعتراف كبار العسكريين العرب والأجانب وباعتراف القادة العسكريين الذين شاركوا في تلك الحرب أو أشرفوا عليها.
خلال سنوات ما بعد "معركة الكرامة" التي تحل ذكراها السابعة والأربعون في الحادي والعشرين من الشهر الجاري اعتدت كلما تحدثت عن هذه المعركة أن أطرح التساؤل التالي:
ترى ألا يحتاج العرب وهم في حالة الاحتضار القائمة وفي ظل تقاعس وتخاذل واستسلام حكامهم لمشيئة الإرادة الأميركية الصهيونية المشتركة إلى "معركة كرامة"جديدة تعيد إليهم كرامتهم وتستنهض فيهم الهمم وتخرجهم من النفق المُظلم الذي زُجوا فيه بعدما تعذر عليهم تحرير فلسطين والجولان ومزارع شبعا من المحتل الصهيوني حتى الآن، وبعد غزو واحتلال العراق ومن ثم إدخاله في جحيم إرهاب "داعش"، وفي ظل تصاعد واستمرار التهديدات الخطيرة المحدقة بسوريا ولبنان وليبيا واليمن والسودان والصومال وأقطار عربية أخرى؟
واليوم وفي ظل استمرار وتفاقم تلك الظروف والأسباب، ومع بلوغ المؤامرة الكونية الشرسة ضد سوريا ونهج المقاومة والممانعة في الوطن العربي عامها الخامس دونما وجود مؤشرات بقرب انتهائها، أرى ضرورة أن يكون تساؤلي لهذا العام على الشكل التالي:
تُرى هل يأتي يوم يصبح بإمكاننا أن نحلم فيه ب " كرامة جديدة" ؟ يا ليته يأتي!!
ما أحوجنا إلى "معركة كرامة" ترد لنا كرامتنا !!
كل ذكرى كرامة وأنتم بألف خير...
وللأم في عيدها كل المحبة والوفاء...

وألف تحية ومباركة لكم في عيد الربيع "شم النسيم"...


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.