كانت مهمة السفسطائيين في اليونان القديمة تعليم الطلبة ( من يستطيع الدفع منهم طبعا) طرائق الإقناع وبلاغة الإفحام الموصلة لمناصب النفوذ في الدولة، وكانت الدعوى موضوع الإقناع ثانوية في تدريسهم، والمهم هو الكيفية المناسبة لبناء الحجة و إحكام الاستدلال ولف حبل الإفحام على عقل المستمع، أو الالتفاف على رقابة هذا الأخير. في اعتقاد السفسطائي كل الأفكار سواسية وكلها يمكن الإقناع بها إذا استعملت الحجج المناسبة للجمهور المناسب، بل إن آية التمكن من الخطابة هي قدرة الطالب على الإقناع بالفكرة ونقيضها، فالهدف هو دفع السامع إلى تبني الموقف الذي يريد، وليس إلى “كشف” الحقيقة .هذه “الثغرة” الأخلاقية في تعاليم السفسطائيين كانت وراء زوالهم على أيدي من يهددون نفوذهم، وبالأساس على يد واحد منهم والذي استطاع بمهارته في “السفسطة” أن يكشف خطورة منزعهم وعبثيته، كان ذلك سقراط. وقد نجح في “محو” أثرهم الفكري بل وجعل اسم مذهبهم سبة يتبرأ منها كل مفكر “محترم”. وفي الأزمنة المتأخرة تمت تبرئة السفسطائيين وإعادة الاعتبار لتراثهم بعد انتعاش الدراسات الحجاجية والبلاغية، وبعد أن تبين أن الخطاب الطبيعي ليس مكان الحقيقة المطلقة، إنما ملتقى للتفاوض والتشاور والتراضي، لأن الاجتماع البشري تلزمه توافقات آنية ليستكمل مساره لا أن ينتظر الحجة المفحمة للجميع، والتي لن تاتي حتى لو أتى “غودو” بيكيث. أهمية السفطائيين لا تكمن فقط في تعليم الإقناع ولكن في التدريب على تمييز الخبيث فيه من الطيب، وهي من المهارات الأكثر راهنية في عصر السفسطة الجديدة. السفسطائيون الجدد أقوام محترمون يتخرجون ويعملون في جامعات محترمة وفي حقول معرفية “نافذة” كالتداوليات واللسانيات وعلم الأعصاب وغيرها، ونظرة سريعة في الموضوعات المطروقات في الحقول المعرفية المذكورة تكشف عن الغرض الكامن وراءها، وهو التحكم في قناعات الناس واختياراتهم والتعرف على الآليات المؤثرة في السلوك والمغيرة للقناعة والمحددة للرأي، عضوية كانت أو لسانية، لتوظيفها في تشكيل الرأي العام و”إنتاج” المواطن المناسب للبضاعة المناسبة، سواء كانت سلعة معروضة أو رئيسا حاكما. ومن التقنيات التي “طورها” السفسطائيون الجدد بعد اكتشافها عبر رصد آثارها المذهلة: تقنية “سرد الحكاية” the storytelling ، وحاصلها أن القصة الجيدة و المحكية بالطريقة المناسبة لها قوة إقناعية تفوق وبكثير تلك التي للحجاج والاستدلال. ومن قوتها أنها ليست في حاجة لتحديد المطلوب منك، فأنت من سيستخرج العبرة من بين السطور، كما أنها لا تحتوي استدلالا يستثير الحاسة النقدية، بل تشتغل مباشرة على العاطفة وتوّلد الشعور المنتظر لحظة الاستماع. في الانتخابات قبل الأخيرة في الولاياتالمتحدة، أي سنة 2004 وفوز بوش أمام كيري، صرح استراتيجي شهير شارك في إدارة حملات كل من كلينتون وآل كور وكيري وهو ستان غرينبيرغ بأن ما كان ينقص كيري هو قصة جيدة ، كما أن مهندس الحملة الناجحة لكلينتون جيمس كارفي قال :” أعتقد أن بالإمكان انتخاب أي ممثل من هوليود إذا كان لديه سرد يحكي من خلاله للناس عن ماهية البلد و وكيف يرونه”. تحولت تقنية “السرد الحكائي” إلى هدف مهم عند الشركات الكبرى وأضحت تنظم بشأنها تكوينات مستمرة للمدراء و المهندسين وغيرهم، وهذا أحد كبار المنظرين لهذه التقنية في مجال التسيير والإدارة ومدير سابق في البنك الدولي ومكون يجوب العالم لإلقاء محاظرات في “السرد الحكائي” ستيفن دينينغ Stephen Denning يقول في كتابه الصادر في 2007 ” اللغة السرية للزعامة”: لا نستطيع أن نقرر ما سنقوم به ما لم نقرر أي قصة أو قصص نرى أنفسنا داخلها. وإذا أردنا أن نغير الطريقة التي يسلك بها الناس علينا أن نغير هذه القصص” (ص 105). وليس غريبا أن يكون الرئيس جورج بوش “الأصغر” من أكثر الرؤساء توسلا “بالسرد الحكائي” فهو خريج مدرسة للتسيير وإدارة الأعمال، ومباشرة بعد دخوله البيت الأبيض يسحب التقنية الجديدة من قبعته، ويقدم مكتبه للصحافة قائلا:”لكل واحد منهم قصته الفريدة، وتحكي هذه القصص مجتمعة ما يمكن وينبغي أن تكونه أمريكا” بدأت “قصة” هذه التقنية في ثمانينيات هذا القرن مع الرئيس الأمريكي رونالد ريغان، وفي خطابه حول حالة الأمة سنة 1985 يقول:”قرنان من تاريخ أمريكا كان عليهما أن يعلمانا ألا شيء مستحيل. قبل 10 سنوات، تركت فتاة مع أهلها الفيتنام وهاجروا إلى الولاياتالمتحدة بلا متاع ودون معرفة بالإنجليزية…والآن تتخرج من الأكاديمية العسكرية في ويست بوينت، قلت في نفسي إنكم قد تحبون الالتقاء ببطلة أمريكية اسمها جين نغويين” وتقوم الفتاة من مكانها وتنطلق التصفيقات. بعد ذلك ومع كلينتون يصبح “للسرد الحكائي” مسشارون في البيت الأبيض ويتحول إلى صناعة تخترق السياسة والإشهار وعلم الإدارة. ويبقى سؤال ساذج هنا حول أصالة القصة، هل على القصة أن تكون حقيقية؟ الجواب من الواقع العملي هو النفي، ونختم المقال بمثال، لكن من فرنسا التي “استوردت” التقنية في السنوات الأخيرة. في حوار تلفزي بتاريخ 26أبريل2007 أي قبل أن يفوز ساركوزي بالانتخابات الرئاسية صرح الأخير بأن الوجود العسكري في أفغانستان كان ضروريا ولم يعد الأمر كذلك اليوم. ثم مباشرة بعد انتخابه يقرر دعم الوجود العسكري الفرنسي في أفغانستان وحجته قصة يرويها في لقاء تلفزي بتاريخ 24أبريل2008، يقول: “ليس لنا الحق في أن نرجع أشخاصا يقطعون يد امرأة لأنها صبغت أظافرها” وفي 20غشت2008 يتحدث عن قطع يد طفلة لأنها صبغت أظافرها، ثم في 4سبتمبر2008 وفي لقاء تلفزي يتحدث وزيره في الدفاع إيرفي موران عن قطع رؤوس أنامل بنات صغيرات لأنهم صبغن أيديهن. والرئيس الفرنسي هنا لم يستورد التقنية فقط وإنما استورد القصة كذلك، فقد استعملتها لأول مرة عقيلة الرئيس بوش في إطار تعبئة الرأي العام وإقناعه بضرورة الإسراع بغزو طالبان وكان الاتفاق يقضي بالتركيز على قضية تحرير المرأة الأفغانية، ثم روت القصة حرفا بحرف بعد ذلك عقيلة توني بلير في محاضرة أمام نساء أفغانيات، وبعد الغزو طويت قضية تحرير المرأة إلى إشعار آخر. وحقيقة القصة أربعة أسطر وردت في تقرير لمنظمة العفو الدولية بصيغة تمريض:”في حالة واحدة على الأقل في أكتوبر1996 قد تكون (Woud ) طالبان قطعت طرف إبهام امرأة لأنها صبغت أظافرها”، والتقرير يتحدث عن حالة واحدة وبصيغة تمريض وعن طرف إبهام وبلا شهود عيان، لتتحول القصة بعد ذلك إلى إحدى الدعامات الأساسية المبررة لغزو دولة واستمرار احتلالها. لقد ابتعدنا كثيرا جدا عن السفطائيين اليونان وحجاجهم الذي على الأقل كان يستثير العقل ويحفز حاسة النقد، لنجد أنفسنا في عصر التسويق الذي يتحدث عن البيع في كل مناحي الحياة: بيع سلعة، بيع منزل, بيع رأي , بيع رئيس لناخبين. في عالم تحكمه هذه المفردات تصبح الغاية فيه استقطاب الزبون لا إقناع القرين، ويصبح الشعار: “الغاية تبرر الحكاية”.