لم يسبق لبيان صادر عن حزب سياسي أن تعرض للسخرية والاستهجان مثلما تعرض له بيان المجلس الوطني لحزب العدالة والتنمية. الحزب يوجد في وضعية حرجة سياسيا وإيديولوجيا، وكي يتفادى الانفجار كان عليه أن يسير فوق الألغام دون أن يفجرها، لكنه كسر البيض مع ذلك حتى وهو يحاول أن يمشي الهوينى بين تناقضاته. أفترض أنه كان أمام القيادة نقطتان شائكتان تحتاجان لحسم تفاوضي ولتسويات مع القواعد الغاضبة: المؤتمر الاستثنائي والموقف من «التطبيع»، النقطتان معا تضعان الحزب في نقطة تماس مع الدولة: المؤتمر الاستثنائي قد يؤدي إلى زعزعة موقع رئاسة الحكومة، والموقف من «التطبيع» يطرح ازدواجية الحكومة والحزب. والظاهر أن القيادة لعبت مع قواعدها لعبة «اعطيني نعطيك» حين اختارت الإمساك بزمام هاتين النقطتين وتركت الباقي لحرية التصرف والارتجال في رحاب برلمان الحزب وقواعده الثائرة. وبالفعل استبعدت نقطة المؤتمر الاستثنائي وخرجت القيادة من دورة المجلس الوطني دون أن تكون هناك إدانة صريحة ل«التطبيع». واختار الحزب صيغة ملتبسة زادت وضعيته التباسا حين قال إنه: «ينبه لمخاطر الاختراق التطبيعي على النسيج السياسي والاقتصادي والاجتماعي والثقافي لبلادنا». وفي الواقع هذه العبارة تفضح تناقضات الحزب، فما يسميه ب«التطبيع» وهو في الواقع استئناف للعلاقات، هو أمر عادي حدث قبل اليوم في 1995 ثم توقف في 2000 واستؤنف في 2020 وقد يتوقف غدا... لكن الجديد في المسألة هو أن هذا «التطبيع» تم في ولاية حكومية يقودها الإسلاميون، والاتفاق وقع عليه رئيس حكومة هو في نفس الوقت أمين عام حزب إسلامي... إنها لمفارقة حقا أن الحزب الذي تم اختراقه يحذر الناس من أن يتم اختراقهم!! أزاحت هذه الصيغة التوافقية الإحراج عن القيادة الحزبية التي كانت تخشى موقفا يدين «التطبيع» صراحة. وفي المقابل سلمت ل«ثوار» الحزب مزيدا من الهدايا، ومنها هذه الفقرة: «يعبر أعضاء المجلس الوطني عن إدانتهم لحملات التشهير والمس بالحياة الخاصة للأفراد واستهداف شخصيات عمومية ومناضلين سياسيين وحقوقيين في انتهاك واضح للحريات الفردية ومس فج بحقوق الأفراد ومعطياتهم الخاصة». وهنا أيضا يسقط الحزب وهو يبحث عن ترضية الخواطر في تناقضات قاتلة: ما لم يقله البلاغ صراحة ونستنتجه منه ضمنيا انطلاقا من طبيعة بعض القضايا التي يتحدث عنها، هو أن الجنس خارج الزواج والعلاقات الجنسية الرضائية والمثلية الجنسية هي من صميم الحريات الفردية التي لا دخل فيها لأحد حسب برلمان البيجيدي. (هذه لوحدها ثورة بعد ثورة الموقف من «التطبيع»). وحين تكون عضوا في «نادي المناضلين»، فإن الممتلكات المتحصل عليها من أموال يشتبه في أنها مشبوهة وتقع تحت طائلة القانون الجنائي تعتبر معطيات خاصة مشمولة بالسرية والحماية!! وبعد ترضية قواعد الحزب في وسائط التواصل الاجتماعي، وترضية مريدي عبد العالي حامي الدين، الذي وجد لنفسه أيضا موقعا في البلاغ يريد تحصينه من المتابعة في جريمة قتل، ينتقل بين المجلس الوطني نحو توسيع لائحة الزبناء بأن ضم إليها لوبي المنتخبين الجماعيين والجهويين. كي يرضي هؤلاء يطلق الحزب النار على رجال السلطة، ويتجاهل أن هؤلاء يوجودون تحت سلطة رئيس الحكومة الذي ينص الدستور على أن الإدارة توجد تحت تصرفه. كماأنه يظلم ولاة وعمالا ذنبهم الوحيد هو تصحيح منزلقات قانونية ومسطرية سقط فيها رؤساء بيجيديون هواة. وتتواصل لعبة اعطيني نعطيك، حين يقول المجلس الوطني في فقرة أخرى: «يدعو المجلس الوطني إلى إطلاق مبادرة سياسية لمزيد من تعزيز مناخ الثقة وتوفير الأجواء المناسبة لبث نفس سياسي وحقوقي جديد يرمي إلى إيجاد الصيغة المناسبة لإطلاق سراح المحكومين على خلفية الاحتجاجات الاجتماعية والصحافيين المعتقلين»، وهذه الفقرة لوحدها فضيحة في المتاجرة السياسية بقضايا البشر والركوب على القضاء وغيره لتحقيق غايات سياسية توافقية داخلية من جهة، وحسابات انتخابية نفعية من جهة ثانية. ونحن متأكدون لما نقول إن البيجيدي يستعمل قضايا المعتقلين في حساباته الخاصة، بلاغ المجلس الوطني ليوم 13 يناير 2019 لم يتطرق نهائيا لهذه النقطة رغم أنها كانت مطروحة في ساحة المطالب، واكتفى بثلاث فقرات ترفض متابعة حامي الدين وفقرة تتضامن مع مسلمي الروهينغا، وفي بيان المجلس الوطني ليوم 16 نونبر 2018 لا نجد أي مبادرة من هذا القبيل بل فقط إشادة بالعفو الملكي عن معتقلي الحسيمة. ما يعني أن الحزب لم يستل ورقة المعتقلين على خلفية أحداث اجتماعية والصحافيين إلا بغاية المزايدة السياسية في سياق «التطبيع» وحروب منتخبي الحزب مع الولاة والعمال. في الواقع ليس المغرب من يحتاج «إلى إطلاق مبادرة سياسية لمزيد من تعزيز مناخ الثقة وتوفير الأجواء المناسبة لبث نفس سياسي وحقوقي جديد» بل البيجيدي هو أن يحتاج لمبادرة من هذا القبيل بعد أن فشل حواره الوطني الداخلي في تصفية الأجواء بين أطراف النزاع داخله، ويوم يتجاوز البيجيديون تناقضاتهم وتطاحناتهم الداخلية، سنكون أمام بيان سياسي لن يكون محشوا بتناقضات ومزايدات جعلت الحزب مسخرة بين الناس بدل أن يكون مفخرة لمناضليه. وفي انتظار أن يطلق الحزب هذه المبادرة السياسية التصالحية الداخلية، ندعو أطراف النزاع داخل البيجيدي إلى ضبط النفس لتفادي السقوط في مزيد من الفدلكات المثيرة للاشمئزاز والسخرية معا.