بالموازاة مع لقاءاتها بالأحزاب السياسية والفعاليات النقابية، فتحت اللجنة المكلفة بالنموذج التنموي منصاتها على وسائل التواصل الاجتماعي لعموم المواطنين قصد إبداء ملاحظاتهم واقتراحاتهم بخصوص النموذج التنموي المنشود. المناسبة، إذن، قد تكون فرصة لنقاش عمومي يشارك فيه المغاربة مؤسسات وأفراد، ومناسبة لتحقيق تشاركية فعالة عوض هذا التنابز الذي نلقاه يوميا بدون تأسيس. اللحظة المغربية حساسة جدا وذات أهمية كبرى لأنها ترتبط بالتأسيس لمرحلة جديدة في سبيل تحقيق مجتمع العدالة والكرامة. فهل سيتحقق ذلك بالفاعلية المطلوبة؟ لابد من الانطلاق من كون الأمر يتعلق بوطن. والوطن هنا ليس مجرد رقعة جغرافية لتجمع سكني، بقدر ما يعني انتماء لهوية ولحضارة ولتاريخ. والمرحلة تاريخية سيكون لها ما بعدها، سواء بنجاح ينخرط فيه الجميع، أو بتفويت، لا قدر الله، لمناسبة زمنية سيحاسب فيه الجميع في المستقبل القادم. النموذج التنموي المنشود هو جملة من القطائع، وتغيير لبعض مكونات الآلة التي لم تعد تشتغل بشكل يساير التطورات المجتمعية والتغيرات الزمنية بما تحمله من ثورات في التقنية وأساليب العمل. لا يمكن تحميل لجنة النموذج التنموي وزر كتابة دليل سيفك كل عقد البلد، فهي لا تملك ولن تملك عصا سحرية تهش بها على البلد فيتغير كل شيء. هي فرصة أخرى فقط لا يجب إهدارها، ومناسبة للمغاربة في التأسيس لدخول الزمن المعاصر في العديد من المجالات. هنا تأتي ضرورة النقاش العمومي. لا يمكن لعاقل أن ينكر ما بلغه المغرب من تطور في مجموعة من المجالات. ولا يمكن إنكار ما تحقق، لكن الممكن أحسن مما تحقق لا محالة. لكن أيضا لا يمكن إنكار حجم المشاكل التي يتخبط فيها المغرب. وهي مشاكل تتعلق بالمؤسساتي وبالعلاقات المجتمعية وبالانتماء والمواطنة التي تتصل أساسا من أخذ وعطاء. هناك مشاكل اجتماعية تتعلق بعيش الناس أولا وبوجودهم. وهناك ثقة مفقودة في جملة من المؤسسات وفي الساسة والسياسيين. وهناك هدر للزمن بانتظارية غير مفهومة. وهناك حيف وغياب عدالة مركزية ومجالية. وهناك شوائب عالقة من فساد وغش واستغلال. وهناك تفاوت طبقي خطير بين قلة تملك كل شيء وأغلبية تصارع الأيام من أجل قوتها اليومي. وهناك خلل في الحكامة. وهناك تأفف في كل موقع اقتصاديا كان أو ثقافيا أو رياضيا. وهناك رغبة من الجميع في التغيير. كل هذه الأشياء يمكن أن تكون حافزا على الانخراط بجدية وفاعلية وأمل في المستقبل. لكن أيضا هناك أشياء يجب أن تتحدد بكل الوضوح التام وتسمي الأشياء بمسمياتها. المغرب، اليوم، ليس في حالة ميئوس منها، لكن هذا لا ينفي حجم المشاكل وتعقيداتها، وهذا موجود في كل التقارير الدولية والوطنية التي درست المغرب. يبقى الحل بيد المغاربة في خلق المناخ الملائم والصالح لهم. طبعا هناك مسؤوليات خاصة بكل جهة. الدولة عليها تحملات لا يمكن أن تتنصل منها. وهناك التزامات عليها أن تتحملها بكل ما تتطلبه من إمكانيات مادية وبشرية. الدولة لا يجب أن تنفض يدها من قطاعات اجتماعية تعتبر أولويات في العيش من تحملات اجتماعية في الصحة والتعليم مثلا. كما تتحمل مسؤولية خلق المناخ الملائم للاستثمار ولصيانة المؤسسات والسهر على تطبيق القانون وخلق آليات للمراقبة والمتابعة والتقييم. والمجتمع بكل مكوناته مطالب بأن يسهر على إيجاد آليات التطور والمشاركة والمساهمة في السياسات العمومية ومراقبتها وفرض المحاسبة بخصوص تحسينها وخدمتها للصالح العام. كل هذا يتطلب ثورة ثقافية تقوم على حب الوطن وخدمته والإصرار على اشتغال المؤسسات من هذا المنطلق أي خدمة الصالح العام. المرحلة تتطلب الوضوح والشجاعة والاشتغال بعيدا عن التأفف والعدمية والانتقاد السهل. هو المغرب الذي نريده والذي نرغب في أن يقوم على قيم واضحة للجميع انطلاقا من مجتمع الديموقراطية وحقوق الإنسان. ديموقراطية تنتفي فيها القبلية والدموية والمحسوبية والبيروقراطية القاتلة، ويحتكم فيها الناس إلى القانون. ديموقراطية تكون فيها القوانين مسايرة لتطور المجتمع ولتطورات العصر. وحقوق الإنسان كما هي متعارف عليها دوليا انطلاقا من المرجعيات الدولية الموجودة في هذا الصدد. ما ستقوم به لجنة النموذج التنموي وبمشاركة الجميع لن يكون سوى إيجاد المنهجية اللائقة لتحقيق دولة المؤسسات ودولة الديموقراطية التشاركية، لكن انطلاقا من قيم الديموقراطية كما هي معروفة، وليس ديموقراطية صناديق الاقتراع الشعبوية. المرحلة، إذن، يمكن أن تبين مفترق طرق المغرب، ويمكن أن تكون اختيارا لمغرب ممكن يعيش فيه الناس باختلاف وتسامح وبحقوق مضمونة، لكن أيضا بتنمية تحقق للمغرب مكانته الوطنية والإقليمية والدولية.