الدكتور الطالب بويا ماءالعينين . باحث أكاديمي منذ أن أعلنت الأممالمتحدة وقف إطلاق النار بين المغرب وجبهة البوليساريو سنة (1991) تم اللجوء إلى مخطط تسوية أحاطت به مجموعة من الإكراهات، حالت دون تنفيذ البرنامج الأممي في الصحراء، ناتجة أساسا عن العراقيل المتعلقة بعملية تحديد الهوية ومن يحق لهم المشاركة في استفتاء تقرير المصير، إلا أنه ومع التأجيلات المتتالية عقدت الأممالمتحدة العزم على الدخول في مرحلة جديدة من التسوية بدأت بتعيين الدبلوماسي الأمريكي "جيمس بيكر" كمبعوث شخصي للأمين العام مكلف بملف الصحراء في 13 مارس 1997، هذا الأخير سعى إلى إيجاد حل لهذا المشكل ومحاولة الوصول إلى حل يرضي أطراف النزاع حيث عمل على إجراء مباحثات أدارها بنفسه في العديد من المدن الأوربية "كلشبونة"، و"لندن" وكذا "هيوستن" في الولاياتالمتحدةالأمريكية (1997)، ثم محادثات "برلين" في شتنبر 2000() . هذه المساعي توجت بما أصبح يعرف "بمشروع بيكر" الأول المعروف "بالاتفاق الإطار" سنة 2001، مما فتح الباب أمام خيارات وصيغ جديدة لهذا المقترح، كما هو الحال بالنسبة للنسخة الثانية من "مخطط بيكر" الذي ينص على إجراء استفتاء بعد انقضاء مدة معينة من الحكم الذاتي، بعدما كانت النسخة الأولى من "مشروع بيكر" تنص على الحكم الذاتي تحت السيادة المغربية. هذه التعقيدات كانت كفيلة بأن تدق آخر مسمار في نعش المساعي الدبلوماسية للدبلوماسي الأمريكي "جيمس بيكر" التي انتهت بالفشل، وبالتالي الاستقالة في يونيو 2004. وفي هذه السنة بالذات سيتولى هذه المهمة "ألفارودي سوتو" الدبلوماسي البيروفي المعروف، بصفته مبعوثا شخصيا جديدا للأمين العام "كوفي عنان" في الصحراء، غير أن هذا التعيين كان بمثابة قوس سرعان ما أغلق بتعيين الهولندي "بيترفان فالسوم"،() بسبب المآزق التي تتخبط فيها هذه القضية إلى الآن، والتي أدت بدورها إلى إنهاء مهام فالسوم نفسه(). ولاحتواء الإفرازات والتداعيات الناتجة عن التفاعلات السلبية للملف دوليا و الضغوطات التي يتعرض لها المغرب، بادر هذا الأخير في شخص ملك البلاد، إلى احتواء كل التطورات غير المرغوب فيها والتي من شأنها أن تحيل إلى أمور لا تخدم مصالح المغرب بخصوص قضيته الوطنية الأولى، حيث أعلن الملك في خطاب ذكرى المسيرة الخضراء في 6 نونبر 2005 عن المبادرة الملكية التي بموجبها يمنح حكم ذاتي لسكان الأقاليم الصحراوية حيث قال: "إن تشبثنا بمغربية صحرائنا لا يعادله إلا حرصنا على إيجاد حل سياسي تفاوضي للنزاع المفتعل حولها، يخول أقاليمنا الجنوبية حكما ذاتيا يضمن لسكانها تدبير شؤونهم الجهوية في نطاق سيادة المملكة ووحدتها الوطنية والترابية". هذه المبادرة الجديدة في الفضاء السياسي المغاربي، لاشك أنها نقلت الملف نحو فعل حركي ملموس عقب الركود الذي عرفته هذه القضية طيلة ثلاثة عقود ماضية، مما خلق تعبئة دبلوماسية مغربية واكبها تحرك دبلوماسي جزائري ساهم في إحياء وتغذية التوتر بين البلدين الجارين، يحركه هاجس الزعامة على المنطقة المغاربية. هذا الصراع/التوتر فسح المجال لتركز القوى الكبرى سياساتها نحو الشمال الإفريقي باعتباره مدخلا مهما إلى قارة لها فيها مصالح حيوية واستراتيجية هامة لما تنعم به من ثروات طائلة. بناء على هذا التقديم سوف أعمل على مناقشة هذا المبحث من خلال الحديث عن المبادرة المغربية القاضية بمنح حكم ذاتي للأقاليم الصحراوية، من حيث الإطار النظري للحكم الذاتي ؛ عندما نسلط الضوء على هذا المفهوم من منظور القانون الدولي، وبعض التطبيقات المتعلقة بهذا المفهوم (المطلب الأول) ، على أن أقف على بعض مضامين و تصورات الحلول الاستراتيجية الواردة في متن الصيغة المغربية للحل السياسي و الآفاق المستقبلية المرتبطة بتنزيل الحلول بما يتلاءم و الشرعية الدولية (المطلب الثاني ) . المطلب الأول : الحكم الذاتي من منظور القانون الدولي سوف نتحدث في هذا المحور عن الإطار النظري للحكم الذاتي نظرا لأهميته في توضيح و تحديد معالم مفهوم الحكم الذاتي(الفقرة الأولى) في حين سنتناول في (الفقرة الثانية) بعض النماذج التطبيقية لهذا المفهوم من خلال بعض التجارب هنا وهناك. الفرع الأول : الإطار النظري للحكم الذاتي الحكم الذاتي هو ترجمة للكلمة الإنجليزية « self-law » أي القانون الذاتي أو « self-govrnment » بمعنى الاستقلال الذاتي أو القدرة على الحكم الذاتي، أما لفظ autonomia أصله إغريقي « auto » الذي يعني ذات و « nomia » يعني القانون وفي معناه العام هو "القدرة على سن القوانين للذات أي أن يحكم الإنسان نفسه بنفسه"(). كما يمكن أن يفهم من كلمة Autonomia استقلال أو استقلال ذاتي، لكن الحكم الذاتي نجده في تعبير ميثاق الأممالمتحدة بمعنى « self-govrnment » ، وتعبير الحكم الذاتي هنا ليس له تعريف محدد، كما ليس له نموذج يمكن أن يقدم حلولا موحدة تصلح للتطبيق على كل الحالات وفي كل مكان، غير أنه يمكن أن يطلق على مستويات معينة من الاستقلال الذاتي قد يبدأ من مجرد لامركزية إدارية إلى دولة دون سيادة (Etat non souverain)، مشمولة بالحكم الذاتي، مرورا بالجهوية السياسية والفدرالية، لذلك فالخيارات المفتوحة أمام المغرب كثيرة والصيغ متعددة()، قد تسعف على خوض مفاوضات ماراطونية تحتاج لنفس طويل. ويذهب الفقيه الإيطالي « Giannini » إلى القول: إن المقصود "بالحكم الذاتي في الحقبة التاريخية المعاصرة التنظيمات ذات السلطة العليا، بمعنى أن الدولة تمنح –عن طريق قوانين خاصة بها- الهيئات الإقليمية التي تشكل جزء من نظامها بعضا من سلطاتها العامة". أما الدكتور محمد طلعت الغنيمي فيقرر أن "الحكم الذاتي هو النظام الديمقراطي للحكم يتولى فيه الشعب حكم نفسه"(). وعموما يمكن أن نجمل القول في معنى الحكم الذاتي "أنه كل نظام يوفر لجماعة ما كل الوسائل الضرورية، القانونية ، السياسية ، المؤسسية ، الاقتصادية والثقافية التي من شأنها أن تؤمن بقاء ونمو الشخصية الذاتية لهذه الجماعة مع مراعاة احترام الوحدة الترابية للدولة التي توجد بها"(). تلكم هي الصورة التعريفية العامة لمفهوم الحكم الذاتي والسقف الذي يوضع له، بغض النظر عما يثيره من ملاحظات تبنى على أساس أنه يجمع بين نقيضين الاستقلال وفي نفس الوقت التبعية. كما ظهر مفهوم الحكم الذاتي نتيجة بداية مرحلة تصفية الاستعمار، وخاصة في النصف الثاني من الأربعينيات والنصف الأول من الخمسينيات (من 1945 إلى 1955)، هذا المفهوم تم تضمينه في العديد من الوثائق خلال هذه الفترة من بينها ميثاق حلف شمال الأطلسي في 14 أغسطس 1941، و"مسودة" مشروع ميثاق الأممالمتحدة الذي أشرفت على إعداده كل من بريطانياوالولاياتالمتحدةالأمريكية عام 1943، وأولى الوثائق الخاصة بالأممالمتحدة لعام 1942، وكذلك مسودة الميثاق الأممي التي أعدتها الولاياتالمتحدة في يوليوز عام 1943(). وقد ارتبط هذا المفهوم على مستوى ميثاق الأممالمتحدة الذي أقر في العام 1945، استلهاما لهذه الوثائق، بالفصل 11 من الميثاق، وخاصة المادتين 73 و76، الذي يشير إلى مفهوم الحكم الذاتي، والتزام الدول الأعضاء في الأممالمتحدة الذين يضطلعون بإدارة أقاليم لم تنل شعوبها قسطا من الحكم الذاتي الكامل بمراعاة العمل على تنمية هذه الأقاليم، وشمل هذا الالتزام جانبين: الأول: كفالة تقدم هذه الشعوب، والثاني: إنماء الحكم الذاتي(). ولعل الغاية من هذا الإجراء إعادة ترتيب الصلة أو العلاقة التي كانت تربط بين الدول المستعمرة وتلك المستعمرة تماشيا مع ما أصبح يعرف بحق الشعوب في تقرير مصيرها ؛ حيث إن الحكم الذاتي في تلك الفترة اعترف به باعتباره شكلا من أشكال تطبيق تقرير المصير الداخلي وفيما بعد سيتطور إلى تقرير مصير خارجي (طلب الاستقلال). وقد جاء هذا المفهوم خصوصا في تلك الفترة، التي تزامنت مع نهاية الحرب العالمية الثانية، كاستجابة لثلاث تحديات: 1- التحرر من الاستعمار، 2- التعايش في إطار الاختلاف، 3- بروز تطور ديمقراطي واحترام حقوق الإنسان الفردية والجماعية. والفضل يعود طبعا للمواثيق الدولية والدساتير الأوربية بعد الحرب العالمية الثانية في بعض البلدان الأوربية التي أخذت بالجهوية السياسية كإيطاليا وبلجيكا وغيرهما في إطار تعميق الديمقراطية وإقرار تقرير المصير الداخلي، هذه التطورات ساهمت في بلورة وتحديد ما أصبح يعرف الآن في المملكة بمشروع الحكم الذاتي، الذي يروج له المغرب في هذه الأيام، ليكون متماهيا ومنسجما مع متطلبات المعايير الدولية للحكم الذاتي التي يمكن حصرها في أربعة معايير هي(): 1- ضرورة توفر سلطة تشريعية في الإقليم تتولى سن القوانين، ويتم انتخاب الأعضاء بحرية وديمقراطية. 2- توفر سلطة تنفيذية تكون مسؤولة أمام السلطة التشريعية. 3- سلطة قضائية خاصة بالإقليم يناط بها تطبيق القانون واختيار القضاة والمحاكم. 4- مشاركة السكان في اختيار حكومة الإقليم من دون أية ضغوط خارجية مباشرة، أو غير مباشرة، وضرورة توفر هذه السلطة على الصلاحيات والاختصاصات اللازمة والإمكانيات البشرية. الفرع الثاني : بعض نماذج تطبيق الحكم الذاتي إن للحكم الذاتي صيغا متعددة للتطبيق، وكل صيغة قابلة للتحسن والتطور لأنه ليس هناك صيغة كاملة وجامعة، على اعتبار أن القابلية للتطبيق تبقى مطبوعة بمدى احترامها للخصوصيات التي يتميز بها كل بلد عن الآخر مما يجعل هذا المفهوم مرنا وقابلا لأن يتعايش مع الظروف والحالات التي تفرضها أوضاع البلدان المعنية. كما أنه لابد من الاشارة الى أن المرونة التي يتسم بها مفهوم الحكم الذاتي عند التطبيق جعلت من الصعب إعطاءه تعريفا محددا ، وبالتالي ظل هذا المفهوم رهينا للتطور القانوني والتنظيمي الذي تعرفه مؤسسة الدولة، حيث أصبح ينتمي لدائرة القانون الداخلي أكثر من انتمائه لدائرة القانون الدولي، بمعنى أن اللجوء إلى المفهوم وصيغه المختلفة لمعالجة المشكلات داخل إقليم الدولة الواحدة، سواء تعلق الأمر بمتطلبات وضرورات اللامركزية الإدارية، وإفراد هامش أكبر للسلطة المحلية بعيدا عن العاصمة، بهدف إشباع تطلعات الطبقات السياسية والنخب في الأقاليم والمناطق، أو تعميق الديمقراطية وتوسيع هامش المشاركة السياسية في صنع القرارات، وتسريع وتيرة النمو والاستجابة للمشكلات النوعية المحلية(). وهكذا فتطبيقات الحكم الذاتي تختلف باختلاف الدول، وفقا لرؤية السلطة السياسية له، فتطبيقاته في العراق مثلا تختلف عن تطبيقاته في إسبانيا نظرا لاختلاف المذاهب السياسية والقانونية بين هذه البلدان. ففي العراق يرتكز الحكم الذاتي للأكراد على "قانون الحكم الذاتي لمنطقة كردستان" سنة 1974، باعتباره يعترف لهم ويقر بإنشاء سلطة محلية، في إطار الدولة العراقية، تمارس اختصاصاتها في الإقليم، بناء على خصوصية الروابط الثقافية والتاريخية التي تربط بين الأكراد، كما وضع هذا القانون صياغة جديدة لعلاقة الأكراد بالسلطة المركزية في بغداد على الصعيد التشريعي والتنفيذي والمالي والسياسي(). أما بالنسبة للتجربة الإسبانية، فقد تم اعتماد الحكم الذاتي كمفهوم محوري في معالجة قضية الأقاليم والمناطق والجماعات القومية في إسبانيا، هذا المفهوم الإسباني للحكم الذاتي يختلف إلى حد كبير عن مفهوم اللامركزية المعتمدة في فرنسا لمعالجة تنوع وظروف المناطق ومنحها قدرا أكبر من الصلاحيات في إدارة شؤونها(). وقد تم التنصيص في الدستور الإسباني لسنة 1978 على الحكم الذاتي، حيث تضمنت المادتان 148 و149 قائمتين للصلاحيات: أولاهما، صلاحيات الأقاليم المتمتعة بالحكم الذاتي مثل "كاتالونيا" و"الباسك" و"جاليسيا" و"الأندلس"، وثانيهما، صلاحيات الدولة المركزية. فبموجب الدستور إذن تتمتع هذه الأقاليم بسلطة تشريعية محدودة بنطاق الإقليم أو الجماعة المتمتعة بالحكم الذاتي، وتحتفظ الدولة بصلاحية إضافية في هذا المجال في حالة التعارض بين القواعد والنصوص القانونية الإقليمية والقومية(). كما تحتفظ الدولة الإسبانية، أي السلطة المركزية في مدريد بتقرير السياسة الخارجية وشؤون الدفاع والأمن وتقرير السياسات المالية العامة، و عقد المعاهدات سواء كانت اقتصادية أو عسكرية أو سياسية. وعلى غرار إسبانيا لم تتمتع العديد من الأقاليم الخاضعة للحكم الذاتي بالشخصية الدولية، فمثلا "بورتوريكو" الجزيرة التابعة للولايات المتحدة، تتمتع بالحكم الذاتي ،وليس لها حق تقرير الشؤون الخارجية والدفاع، كما ترتبط باتحاد حر بالولاياتالمتحدة على الرغم من أنها لا تشارك في الانتخابات الأمريكية لأن استقلالها دستوريا اتخذ بعدا أكثر وأبعد مدى. فمفهوم الحكم الذاتي في نطاق العلاقات الدولية والسياسية انقلب من علاقة داخلية بحثة بين الدول الاستعمارية ومستعمراتها إلى علاقة دولية، فهو تحول من وسيلة استعمارية غير مرغوب فيها إلى فكرة قانونية مشروعة منصوص عليها في العديد من الوثائق الدولية، أما في نطاق القانون العام الداخلي، لم يأخذ بعد وضعا ثابتا رغم تطبيقات عديدة له(). المطلب الثاني : المبادرة المغربية للحكم الذاتي وآفاق الحل إن المبادرة التي دعا لها المغرب بمقتضى خطاب الملك في 6 نونبر 2005، وخطاب مدينة العيون يوم 25 مارس 2006 ؛ بمثابة دعوة أخرى لكل الصحراويين إلى "التفكير الجاد والعميق بخصوص تصوراتهم لمشروع نظام الحكم الذاتي". كل ذلك ، لاشك في أنه يبرز رغبة الدبلوماسية المغربية في ضرورة إقرار حل سياسي تفاوضي للنزاع غايته تخويل الأقاليم الصحراوية حكما ذاتيا يضمن لسكانها تدبير شؤونهم الجهوية في حدود ما تسمح به السيادة المغربية، تجاوبا مع المتطلبات الدولية، وما يرافقها من ضغوطات، على هذا الأساس جاءت المبادرة ، كحصيلة لحوار معمق ومشاورات موسعة وطنية ومحلية ، فضلا عن اتصالات دبلوماسية مكثفة همت الدول الأعضاء في مجلس الأمن ودول غربية وعربية. هذه الاتصالات أثمرت تقديم المبادرة إلى الأممالمتحدة ومن خلالها إلى المجتمع الدولي بمعايير ومقومات تستمد من تجارب العديد من الدول الديمقراطية وتراعي الخصوصية المغربية والمحلية، مما أهل المجتمع الدولي ليكون أكثر اطلاعا على الملف، وأكثر تفهما لمطالب المغرب، لتخفيف الضغوط والسير بالمخطط نحو الأمام ؛ لما يتضمنه من مقترحات جريئة تضمنتها المبادرة المغربية، والتي سنتحدث عن بعضها (الفرع الأول) إضافة إلى آفاق الحل السياسي الذي يتبناه المغرب وما يثيره من إشكالات (الفرع الثاني). الفرع الأول : نظرة حول بعض ما جاء في المبادرة المغربية () إذا كان نظام الجهوية الموسعة أو الحكم الذاتي الذي يتصوره المغرب ويسعى إلى تطبيقه على أرض الواقع يراد له أن يضمن للصحراويين حقوقهم وكرامتهم، فإنه بالمقابل يراد له ضمان السيادة والوحدة الترابية. في هذا الخضم جاءت المبادرة لتمنح سكان الصحراء صلاحيات واختصاصات واسعة في الميادين التشريعية والتنفيذية والقضائية لتدبير شؤونهم المحلية وفق المبادئ والقواعد الديمقراطية. أما على المستوى الاقتصادي فإن التدبير لا يستوي إلا بخلق شروط تروم تنمية اقتصادية حقيقية من خلال التخطيط الجهوي وتشجيع الاستثمارات والتجارة والسياحة... يأتي ذلك تدعيما لاختصاصات جهة الحكم الذاتي التي يمارسها سكان الصحراء، داخل الحدود الترابية للجهة. إضافة إلى اختصاصات أخرى واردة في نص المبادرة المغربية متعلقة بميزانية الجهة ونظامها الجبائي. إلا أن الدولة تحتفظ باختصاصات حصرية تتعلق أساسا بمقومات السيادة حيث تحتفظ السلطات المركزية بالعلم المغربي، النشيد الوطني، العملة، الشؤون الدينية التي تستمد أساسها من إمارة المؤمنين، ثم الدفاع الوطني والسياسة الخارجية ، و كل مقومات السيادة الوطنية على كامل التراب الوطني ، بما في ذلك الأقاليم الصحراوية في الجنوب . فالدولة إذن ستمارس الصلاحيات التي ترى أنها لا يمكن أن تنقل إلى منطقة الحكم الذاتي بالصحراء ؛ نظرا لارتباطها بالصفات الرمزية للسيادة (). فالهدف على ما يبدو من مشروع قانون الحكم الذاتي ، هو إتاحة الفرصة لسكان المنطقة للاستفادة من خيار الجهوية السياسية كصيغة وسطية توفيقية تحقق غايات ووظائف نذكر منها(): * مراعاة الحقوق الأساسية لسكان المنطقة والتي تكمن في التعددية الثقافية وترسيخ الديمقراطية الحقة، بتوسيع دائرة المشاركة والممارسة السياسية في الأقاليم الصحراوية. * الوظيفة الاقتصادية والتنموية التي تقوم على مشاركة المواطنين الصحراويين بصفتهم المعنيين الأوائل بوضع وتنفيذ المشروعات الخاصة بمنطقهم. * الوظيفة الإدارية التي تتمثل في تخفيف الأعباء الملقاة على عاتق الدولة. * الوظيفية الاندماجية التي تخلق الوعي الاجتماعي والنضج السياسي. * الوظيفة التعاونية التي يسمح للدولة من خلالها، باعتبارها مؤسسة المؤسسات، أن تتدخل أو تقوم بنفسها بتلك المهام التي لا تستطيع المؤسسات الجهوية المحلية القيام بها بشكل مرضي رغم توفرها على موارد بشرية ومالية كافية. * فصل السلطات العمودي من أجل تحقيق رقابة وشفافية أكثر فعالية. هذه الغايات والوظائف تقودنا إلى القول ؛ إن هناك شروطا محددة لمضمون "الحكم الذاتي الجهوي" « autonomie régionale » في الصحراء، تعتبر ضرورية للتطبيق تهدف إلى تفادي قلاقل مستقبلية يمكن أن ينتج عنها عجز أو خلل في إدارة الإقليم، منها(): 1- ضرورة أن تبسط الدولة هيمنتها وقدرتها على مباشرة مهامها المستوحاة من روح المبادرة المقدمة كحل سياسي ، وخاصة في المجالات التي أشرنا إليها سابقا والتي تخص السياسة الخارجية، الدفاع الوطني، السياسات الداخلية، المالية العامة والشؤون الدينية المرتبطة بإمارة المؤمنين وروابط البيعة التي تأسست عليها الملكية الدستورية. 2- محاولة خلق قدر من التوفيق ما بين المركزية واللامركزية : أي التكييف السديد والوجيه للتدبير الذاتي الجهوي autogestion régionale للصحراء مع الإمكانيات التي تسمح بها المراقبة التي تقوم بها السلطة المركزية لتفادي فقدان سلطة الدولة. 3- تعميم وتوحيد نظام الحكم الذاتي في الصحراء على كافة التراب الوطني، هذه الفكرة من المتمنيات، بل ضرورة، في إطار السياسة الجهوية التي تسعى البلاد إلى إرسائها والتي تشكل أيضا مطلبا ملحا لكل الفاعلين السياسيين المغاربة. وعموما فإن توزيع الصلاحيات بين المركز والوحدات الذاتية يخضع للتأهيل و للتطور المستمرين انطلاقا مما تفرضه التجربة و إلحاح المتطلبات، ويبقى الضامن الأساسي لذلك هو القناعة الصميمية بالديمقراطية واللامركزية والتخلص من دعوات الانفصال والاستقلال ، ولعل نموذج الباسك وكاطالونيا لأحسن مثال على ذلك(). الفرع الثاني : المبادرة المغربية وآفاق الحل السياسي إن اعتماد المقاربة السلمية لحل النزاعات تجد أساسها في الفصل السادس من الميثاق الأممي الذي يدعو إلى الحل والتسوية السلمية للنزاعات ذات الطابع الدولي ()، ونظرا لكون الصحراء ليست بمعزل عن الإطار القانوني الدولي، فضل المغرب إخراج مقترحه إلى الوجود، باعتباره حلا سياسيا يجب أن يتحقق بموجبه الحوار والتفاوض والتفاهم . كان من الضروري أن يعلن الملك في نونبر 2005 عن المبادرة المبنية على حل توافقي يخول الأقاليم الصحراوية حكما ذاتيا في إطار نظام جهوي متقدم، وهو المشروع الذي بمقتضاه انطلقت حملة المغرب الدبلوماسية منذ بداية سنة 2007، قادها شخصيات مهمة في الدولة وقريبة من الملك(). أوكلت لها مهمة الترويج لحكم ذاتي يساير المعايير الدولية، ويمنح صلاحيات واسعة للساكنة المحلية في تدبير شؤونها، ويأخذ بعين الاعتبار خصوصياتها الثقافية والجهوية ، استلهاما للمبادئ الكبرى التي تقوم عليها المنهجية المغربية التي لاقت صدى إيجابيا واستحسانا دوليا . حيث إن المجتمع الدولي أصبح أكثر اطلاعا على الملف()، بفضل المبادرة المغربية التي تعتبر خطوة سياسية ذكية وذات مصداقية مكنت من قطع الطريق على كل محاولة لاحتكار الحل والحد من مناورات الخصوم، كما مكنت من طي كل المعالجات الارتجالية والعشوائية التي تم التعاطي معها سابقا بخصوص ملف الصحراء. وبذلك يمكننا -وفي إطار ما أسماه الدكتور "الحسان بوقنطار" بجيوبولتيك الحكم الذاتي ،(géopolitique de l'autonomie)، التي ترتكز على معيار تدخل العنصر الأجنبي- القول إن مقترح الحكم الذاتي الذي يتبناه المغرب يأتي كمخرج للمأزق على مستوى المعالجة الدولية، لكونه يستجيب لتوجهين: أولهما : أنه في كل صراع دولي ليس هناك غالب واحد يمكن أن يستأثر بكل شيء، مهما كانت شرعية حقوقه بناء على قاعدة لا غالب ولا مغلوب. وثانيهما : أن هذا الحل يعتبر أن القضية يمكن أن تحل على أساس أنه لا إلحاق ولا انفصال، بل هناك وضعية خاصة تسمح للسكان بتدبير شؤونهم اليومية دون الارتقاء إلى شخصية دولية منفصلة. وتبعا لذلك، فالأمر يتعلق بنظام خاص بالمناطق الصحراوية ، ينبغي أن ينال قبول المنتظم الدولي، اعتبارا بأن مجلس الأمن، وهو يتحرك في إطار الفصل السادس من الميثاق الأممي، يرى أن الهدف الرئيسي هو الوصول إلى حل متفاوض عليه ومقبول من كافة الأطراف، وأن الأمر في حالة قبول المقترح يعني نظاما نهائيا في صيغة حل سياسي دائم وليس انتقالي()، لطالما اصطدم بعدة كوابح (freins) ظلت تحول دون إمكانية بروز المشروع/الفكرة على الساحة الدولية، منها : أولا: البيروقراطية الأممية الموجودة في الصحراء التي تسعى إلى تأبيد استقرارها وتوسيع مجالات اختصاصها. ثانيا : غياب إصلاحات حقيقية في الجزائر من شأنها أن تؤدي إلى إعادة النظر في النظام السياسي الجزائري وتغيير سياساته إزاء المغرب، منذ 1960. هذان العاملان، وخاصة العامل الثاني ظل يحول فعليا دون إمكانية السير إلى الأمام بالحل السياسي المغربي(). إن المبادرة المغربية ، وإن كانت لم تعرف طريقها إلى التطبيق، فإنها مع ذلك تطرح عدة إشكالات تجعل تدبيرها لا يخلو من صعوبات فرضتها تحديات عدة، ونخص بالذكر، الإشكالية المطروحة على المستوى الوطني. حيث إنه أمام وجود دولة ممركزة كالمغرب، فإن هذه المبادرة بمثابة ثورة على الطابع المركزي التقليدي للدولة، وهنا يطرح التساؤل حول مدى إمكانية نجاح التوفيق بين نظام حكم ذاتي خاص بالصحراء واستمرار المركزية المترسخة. هذا الأمر يتطلب بالنسبة للدولة الأم وضع كوابح تحول دون استعمال الحكم الذاتي كمجرد ذريعة لتحقيق تطلعات استقلالية. مما يتطلب الحسم في بعض القضايا الجوهرية من قبيل الحسم في السيادة الوطنية من خلال وجود شخصية دولية وحيدة للدولة، ثم توزيع الاختصاصات بين الدولة والجهة المعنية بشكل يرفع الالتباس والغموض. هذا اللبس ينسحب أيضا على إحدى النقاط الشائكة في المبادرة المغربية، متعلقة بكيفية تدبير الثروات واستغلالها والاستفادة منها وخاصة الصيد البحري، وقد لاحظنا كيف أن خصوم المغرب في أوربا حاولوا عرقلة اتفاقيات الصيد في مراحل زمنية مختلفة ،بدعوى أن المغرب ليس مؤهلا من وجهة نظر القانون الدولي للاستفادة من المداخيل الناتجة عن الصيد في المناطق الداخلية في الصحراء باعتبارها منطقة نزاع (). كما أن هذه المبادرة جاءت لتقترح حلا تفاوضيا (أو كما نقول حلا سياسيا) في الوقت الذي رفضت فيه الأطراف الأخرى المبادرة المغربية جملة وتفصيلا، فجبهة البوليساريو أعلنت رفضها المطلق، كما هو الشأن بالنسبة للجزائر التي صرح رئيسها عبد العزيز بوتفليقة لصحيفة "الباييس" الإسبانية قائلا: "إن أي حل أحادي الجانب لن يكتب له النجاح، وحده الاعتراف بحق الشعب الصحراوي في تقرير المصير يمكن أن يحل المشكل"(). الخاتمة ويبقى التساؤل مطروحا كيف يمكن للمبادرة أن تمثل حلا نهائيا في الوقت الذي يربط فيه المجتمع الدولي في بعض قراراته أي حل للتفاوض بتمكين سكان الصحراء من تقرير مصيرهم(). وهنا أيضا يبقى التساؤل قائما حول ماهية تقرير المصير؟ الذي ما زال يخضع لتأويلات أطراف النزاع، فإذا كان يعني بالنسبة للمغرب قطع الطريق على الاستقلال من خلال الحكم الذاتي، فإنه بالنسبة للبوليساريو يعني الاستقلال ولا شيء غيره. حيث انه و في ظل هذه التأويلات و التجاذبات التي يبدو أنها ستطول ؛ أصبح من الواجب على المغرب تركيز جهوده عاى تنمية الأقاليم الجنوبية ، خاصة بعد اعتماد الجهوية كخيار تنموي استراتيجي ، وتوجيه هذا الورش نحو الاجابة على المعضلات و الاشكالات التنموية و الاجتماعية المطروحة على مستوى الجهات الجنوبية التي مازالت تغذي تلك العلاقة السببية بين الفوارق الاجتماعية و الترابية من جهة ، وبين الاحتجاجات التي تعرفها المنطقة بين الفينة و الاخرى .