في خطاب ثورة الملك و الشعب لهذه السنة، رسائل بليغة على أكثر من صعيد، و قد حلل المحللون و ناقش الخبراء أغلب مواضيع الخطاب، لكن دعونا اليوم نتحدث عن جملة في شكل تساؤل لم يتوقف عندها الناس كثيرا، و قد جاءت في خضم استنكار عاهل البلاد مد الجهل الطافح الذي ابتليت به هذه الأمة الاسلامية، فأصبحت غير قادرة على انتاج شيئ أكثر من التطرف و التشدد و الارهاب. هل يقبل المنطق بأن من يستمع إلى الموسيقى ستبلعه الأرض؟ طبعا المنطق لا يقبل هكذا أمور، لكن ليست هذه وحدها، ثقافتنا الدينية مليئة بالخرافات و الأكاذيب و الأساطير و الخزعبلات، فالقضية لا تشكل استثناء على هذا المستوى. الحقيقة أن كثيرا من ملامح الدين الذي وصلنا في القرنين الأخيرين خصوصا، تعطي الانطباع على أنه دين جديد، صنعته "مدرسة" فقهية واحدة في مكان واحد، ثم انتشر هذا الدين الجديد في الخمسين سنة الأخيرة انتشار النار في الهشيم ب"فضل" أموال الريع التي صرفت على "الدعوة" و البعثات و الفضائيات و الجماعات.. الخ الخ الخ.. من "ابداعات" هذا الدين الاسلامي الجديد، اقتصاره على القول بحرمة الموسيقى و الغناء ب"الاجماع"، حتى و نحن لا ندري من أين جاء هذا "الاجماع" المفترى عليه، و الذي لا يمكن أن يتحقق واقعا و منطقا و عقلا في أي قول و فعل، حتى قال الإمام أحمد: ما يدعي فيه الرجل الإجماع فهو كذب، من ادعى الإجماع فهو كاذب، لعل الناس اختلفوا ما يدريه!، و قد توفى النبي صلى الله عليه وسلم، وأصحابه يبعد الواحد منهم عن الثاني آلآف الكيلومترات، و لم يكن هناك هاتف نقال، و لا أقمار اصطناعية للتواصل، و لا فضائيات، و لا فاكس، و لا رحلات بالطائرات، فكيف سيتحقق الاجماع و الناس لا تستطيع أن تسمع لبعضها البعض حينا في الأمور المستجدة، فضلا عن اختلاف البيئة و الظروف؟ في الموسيقى و الغناء كانت أقوال العلماء أربعة أقسام، فرقة استحسنت، أي استحبت، وفرقة أباحت وفرقة كرهت وفرقة حرمت، لكن لماذا وصلنا فقط صوت التحريم؟ لأن صوت التحريم مدعم ماليا و تنظيميا بآلة جبارة، و قد صرفت على كتب التحريم و منطق التحريم المليارات، و كونت "علماء" و "خطباء" و وعاض" و "دعاة" على هذا النحو، و قد سيطرت بفعل تواطؤات دولية و وطنية حتى استبدت و فشت و انتشرت. كم من الخطباء و الأئمة المغاربة الذين نقول انه يتم "تكوينهم" على التسامح و النسبية و التاريخ، مطلع على كتب مثل "إبطال دعوى الإجماع على تحريم مطلق السماع" أو "إيضاح الدلالات فى سماع الآلات" أو "بوارق الإلماع فى تكفير من يحرم السماع".. على سبيل المثال لا الحصر؟ كم واحد منكم سمع يوما اماما خطيبا مغربيا يصعد المنبر ليقول للناس ان الموسيقى حلال طيب؟ أظن و لا واحد!! من الرائع أن يكون قائد من قادة بلاد المسلمين متنورا، لكن اذا كان شعبه يسمع كل أسبوع في عشرات الآلاف من المساجد قول غير المتنورين، فاننا لن نغير كثيرا من واقعنا، و الخراب الذي لحق الدول الاسلامية التي لم تحل هذا المشكل، ف"حلت" بها لعنة الجهل و التطرف، سيلحق بنا، و لو بعد حين.. في التاريخ الاسلامي، كان هناك من الصحابة من يحب الموسيقى و الغناء، و نفس الشئ يقال عن كثير من العلماء التقاة، و الخلفاء و أمراء المؤمنين، فلماذا غاب عنا هذا التاريخ؟ و من غيبه عن قصد؟ سنورد بعض الأمثلة حسب الحيز هذا الأسبوع عن صحابة كرام و علماء أجلاء و خلفاء و أمراء، كانوا يحبون الموسيقى و الغناء، و لم يستنكر عليهم جاهل هذا الأمر.. حمزة بن عبد المطلب، الذي ثبت في صحيح مسلم (4/658) أنه كان عنده قينة تغنيه، و القينات هن المغنيات. عبدالله بن الأرقم كان يرفع عقيرته ليغني، ولم يكن في زمنه من يخشى الله أكثر منه حسب كثير من الروايات (البيهقي بإسناد صحيح (225/10)). حسان بن ثابت كان يسمع جاريتين تغنيان بشعره عند ابنه عبدالرحمن ويبكي تأثرا. عبد الله بن جعفر، صحابي جليل، بايع النبي صلى الله عليه وسلم، هو وعبدالله بن الزبير، رضي الله عنهما، هو ابن جعفر الطيار بن أبي طالب، عمه الإمام الخليفة علي بن أبي طالب، رضي الله عنه، و قد زوجه الإمام علي ابنته وابنة السيدة فاطمة زينب، وكان عالماً فقيهاً ورعاً واسع المعرفة، وكان يصوغ الألحان لجواريه (ملحن بلغة زماننا) ويسمعها منهن على أوتاره في زمن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب ومعاوية بن أبي سفيان رضي الله عنهم جميعاً. عبد الله بن الزبير برواية البيهقي وابن دقيق العيد بسنديهما عن وهب بن كيسان: سمعت عبد الله بن الزبير يترنم بالغناء وقال عبد الله: ما سمعت رجلاً من المهاجرين إلا وهو يترنم. و الأثبات من أهل التاريخ كتبوا أنه كان لعبد الله بن الزبير جوار عوادات، أي يضربن العود، عازفات. و قال لابن عمر بأن العود ميزان توزن به العقول، و هذا يعني ما وصل اليه الطب الحديث من أن الموسيقى تصلح نفسية الانسان و عقله و تهذب سلوكه. معاوية بن أبي سفيان، ذكره ابن قتيبة في كتاب "الرخصة"، أنه دخل على عبد الله بن جعفر يعوده، فوجد عنده جارية في حجرها عود فقال: ما هذا يا ابن جعفر؟ قال: هذه جارية أرويها رقيق الشعر فتزيده حسنا، قال: فلتقل، فحركت العود وغنت شعرا، فحرك معاوية رجله فقال له عبد الله: لم حركت رجلك؟ فقال: إن الكريم لطروب. وروى ابن قتيبة بسنده: أن معاوية سمع عند ابنه يزيد الغناء على العود فطرب لذلك. كما أن المغيرة بن شعبة رضي الله عنه، حامي رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يبيح السماع. و من العلماء سنكتفي بذكر أشهرم فنا، و الا فهم بالعشرات، و هذا العالم الجليل هو عبدالعزيز بن الماجشون، عالم المدينة زمن الامام مالك رضي الله عنه، فقيه الأمة، من جلساء عمر بن عبدالعزيز وعروة بن الزبير، رحمها الله، من التابعين، ثقة، روى له أصحاب الصحاح والسنن ومنه البخاري في صحيحه، ومسلم في صحيحه، وابن ماجه في سننه، وغيرهم، من أتقى الرجال، وأعرفهم في الدين والعلم والرواية والحديث، قال مصعب بن عبدالله الزبيري: "كان يُعلّم الغناء (يعني يدرسه)، ويتخذ القيان (يعني المغنيات) ظاهراً من أمره في ذلك" أي بالعلن، قال: "وكان أول من علم الغناء من أهل المروءة"، أي أول عالم دين يعلم الغناء علانية على رؤس الأشهاد. من الخلفاء و أمراء المؤمنين نجد الخليفة عبد الملك بن مروان (86ه)، وكان موسيقياً وملحناً عازفاً بأنواع الغناء، يشجع الموسيقى وأهلها. الخليفة سليمان بن عبد الملك (99ه)، وكان رفيق دربه ومساعده ومستشاره الخليفة الرباني عمر بن عبدالعزيز، وكان سليمان وراء تعيين عمر خليفة بعده. وأقام سليمان المسابقات بين المغنيين وأجزل لهم العطاء (نوع من ستار أكاديمي او ذوفويس في ذلك العصر). كما حظى الموسيقيون بالتقدير في عهد يزيد بن عبد الملك (105ه). الخليفة الوليد بن يزيد (126ه) كان يضرب العود ويوقع بالطبل والدف وكان عالماً بصناعة الألحان وله فيها أصوات مشهورة. الخليفة المتوكل العباسي (247ه) وكان موسيقياً، وروى أنه كان أحذق من غنى وضرب على العود في وقته.. أمير المؤمنين العادل المجاهد هارون الرشيد (193ه)، وكان أشهر الخلفاء في دعم الفن في مملكته التي حكمت نصف الأرض، وفي زمنه صار للفن احترام، فخرج زرياب، صاحب الفن الموسيقي الراقي، والذي صدره لأوربا بعد هجرته إلى الأندلس، وهو أول من أضاف للعود وتراً خامساً. كما أن أخت أمير المؤمنين "علية بنت المهدي"، كانت أديبة، شاعرة، عارفة بالغناء، والموسيقى، رخيمة الصوت، وذات تقوى، ومناقب، حافظة لكتاب الله. كانت لا تغني إلا زمن حيضها، فإذا طهرت أقبلت على التلاوة، إلا أن يدعوها الخليفة أمير المؤمنين للغناء فتلبي طلبه. و الغناء من الأمور التي أضافها الله لعباده في الجنة لحسنها، قال تعالى: (فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَهُمْ فِي رَوْضَةٍ يُحْبَرُونَ) (الروم/15)، أي يغنون. و خلاصة القول قول أورده الإمام أبو حامد الغزالي في كتابه إحياء علوم الدين: "من لم يحرّكه الربيعُ وأزهاره، والعودُ وأوتاره، فهو فاسدُ المزاج ليس له علاج"، ولذلك أنا لا أستغرب من حال الأمة الاسلامية اليوم و قد أخدت أمور دينها من "فاسدي المزاج"، حتى أفسدوا عليها دينها و دنياها.. فيما لم يعد ينفع معه علاج!!..