وأخيرا كشف سر مشاع. كان الجميع يعرفه جيدا ويفهم خلفياته. إنه سر ترشح نيكولا ساركوزي إلى الانتخابات التمهيدية لحزب «الجمهوريين». الخطوة التي تهدف إلى تعبيد الطريق له للعودة إلى قصر الإليزيه. القرار الذي سيوضح ملامح اللعبة السياسية الفرنسية انطلاقا من مقولة أصبحت تفرض مفعولها بقوة، وهي أن نتائج السباق الرئاسي الفرنسي ستلعب أطوارها في تمهيديات حزب الجمهوريين. سر مشاع لأن الرأي العام الفرنسي، كان يعي جيدا أن الرجل لم يستقيل لا من الحياة السياسية بعد هزيمته أمام فرنسوا هولاند، ولم يتخل عن طموح العودة التي يريدها مظفرة إلى أعلى المسؤوليات في فرنسا. ومع ذلك كانت هناك عدة تساؤلات حول قدرته على العودة لا علاقة لها برغبة نيكولا ساركوزي الدفينة و المعلنة، بقدر ما كانت تخضع إلى الانعكاسات السلبية لسلسلة الفضائح القضائية، والتي كان من المرتقب أن تلقي بظلالها القاتمة على مشاريع السياسية. ويجمع المراقبون على اعتبار أن ساركوزي يعيش نوعا من المعجزة، بعد أن استطاع الإفلات من العقوبة القضائية التي يمليها تورطه المتعدد في فضائح سياسية. نيكولا ساركوزي اختار الإعلان عن مشروعه هذا بطريقة مميزة تختلف تماما عن المقاربة التقليدية التي اتبعها خصومه في اليمين أو اليسار. عادة ما كانت وسائل الإعلام تستضيفهم في استديوهاتها أو عبر تنظيم تجمعات جماهيرية للكشف عن نواياهم ولإطلاق حملاتهم. نيكولا ساركوزي سلك طريقا مميزا. فهو كتب كتابا عنونه «كل شيء من أجل فرنسا» ووزعه على وسائل الإعلام الفرنسية، ضمنه أفكاره ومشاريعه والحلول التي يقترحها لمعالجه الأزمات التي تعيشها فرنسا. من بين إيجابيات هذه الخطوة، أنها خلقت المفاجأة الإعلامية حيث تحول التركيز الإعلامي كله على مناقشة مضامين الكتاب لمعرفة الجديد الذي جاء به نيكولا ساركوزي. ومن ثمة قد يكون قد نجح نسبيا في استقطاب الأضواء. وفي خضم هذا الإعلان السياسي الهام لنيكولا ساركوزي ظهر استطلاع للرأي يحمل نتائج مخيبة للآمال للمرشح ساركوزي حيث غالبية الفرنسيين بنسبة ثمانية وسبعين في المئة ترفض عودته إلى مقاليد السلطة. في هذه الخطوة يواجه نيكولا ساركوزي عدة عقبات. الأولى تكمن في المعارضة الشرسة التي يواجهها داخل حزب «الجمهوريين»، والتي يجسدها رجال مثل فرانسوا فيون، الآن جوبي وبرونو لوميير … هؤلاء شيدوا حملتهم الانتخابية على منطق محاربة نيكولا ساكوزي على أساس أن الفرنسيين جربوا كل الحلول التي يقترحها، وأنهم في حاجة إلى وجوه جديدة وأداء جديد، ويعيبون على ساركوزي أنه يريد تقليد اليمنين المتطرف وأن يتخلى عن إرث الجمهوريين العريق. وستشكل النقاشات الساخنة التي ستحتضنها هذه الانتخابات التمهيدية في شهر نونبر المقبل مناسبة لتفجير التناقضات الداخلية وكشف المستور. والعقبة الثانية نجدها في الرأي العام الفرنسي الذي يرفض عبر استطلاعات الرأي أن تعاد أمامه مباراة عام ألفين واثني عشر عندما تبارز الرجلان، هولاند وساركوزي، وانتهت المعركة بهزيمة اليمين وانتصار اليسار. الرسالة الأساسية التي يريد نيكولا ساركوزي إيصالها إلى الفرنسيين، أنه تغير شخصيا. ولم يبق ذلك الرجل السياسي الذي يرتجل قراراته بحثا عن أنجع الحلول للأزمات الفرنسية. ويريد ساركوزي أيضا زرع قناعة لدى الفرنسيين أنه استغل سنوات المعارضة التي عاشها في عهد هولاند لبلورة مقاربة سياسية من شأنها أن تجد حلولا للأزمات الاقتصادية الأمنية والهوياتية التي تعيشها فرنسا. وفي هذا الشأن، وانطلاقا من الأفكار التي اقترحها ساركوزي في كتابه، يقول المراقبون أنه حاول تبني أفكار وحلول تنتمي إلى القاموس السياسي للجبهة الوطنية وعادة ما يطالب اليمين المتطرف بتطبيقها، خصوصا فيما يخص الإجراءات الأمنية لمحاربة الإرهاب. حيث يحلم ساركوزي أن يعيد الاستراتيجية التي كانت أوصلته لقصر الإليزيه عام 2007. ويعول ساركوزي في عملية إنجاح عودته السياسية في ذلك على عنصريين أساسييين. الأول يكمن في رفض الفرنسيين المستميت لفرانسوا هولاند، كما تظهر ذلك استطلاعات الرأي والتحديات الخطيرة التي يواجهها هولاند في بسط نفوذه على عائلة اليسار. والعنصر الثاني رهانه على أن الفرنسيين لن يتجرؤوا على انتخاب زعيمة التطرّف السياسي مارين لوبين رئيسة للجمهورية. دول المغرب العربي تتابع عن كثب تداعيات المشهد السياسي الفرنسي. وحتى وإن لم تعبر أي عاصمة علنا عن خيارها المفضل احتراما للطقوس الدبلوماسية، توجه الجزائر انتقادات مباشرة ولاذعة لنيكولا ساركوزي بسبب مواقفه الداعمة لمغربية الصحراء وصداقاته المغربية، بينما تنظر الرباط إلى أن الظرفية الدبلوماسية الراهنة وحيثياتها الأمنية والاقتصادية أفشلت جهود ساكن قصر الإليزي الاشتراكي فرنسوا هولاند في إعادة كتابة توازنات جديدة في المحاور التي تربط باريسبالرباطوالجزائر وتونس تكون أقرب إلى حاكم قصر المرادية. ومع اقتراب موعد انطلاق حملة الانتخابات الرئاسية سيدخل المرشحون كيفما كانت هويتهم في سباق مع الزمن لمحاولة استمالة الرأي العام الأوروبي واستقطاب دعم طبقته السياسية. وسيطفو على السطح الخيار المفضل لكل عاصمة وفق مصالحها وأجندتها الوطنية.