لانهم اعتادوا المكوث في الهامش والانزواء بعيدا عنا، رسموا عالمهم الخاص ، ونسجوا فضاءات اعتبرناها نحن نقطا سوداء، نرمي فيها ازبالنا ونفاياتنا ونحذر اطفالنا من المرور بمحاذاتها. عالم بنوا فيه قصورا سحرية، باحلام وردية.سكنوا فيها وأثثوها بخيالهم المفرط في المثالية بالورود والازهار، توهجت منها افراحا ومسرات لانراها باعيننا .المجردة. هم بالنسبة لنا متسكعون، مشردون، ذو سوابق، معتوهون ومزعجون، يشكلون مصدر ازعاج دائم للمواطنين "الصالحين" الذين يتجرؤون على اقتحام خلوتهم.هذه الخلوة المسيجة بمتاريس صنعوها بانفسهم بمثانة كخيوط العنكبوت ،شكلت حاجزا لكل من سولت له نفسه الاقتراب منهم. هذه الحدود المحروسة ،استطاعت (أحداث أنفو) اقتحامها من أجل الدنو من هذه الفئة المهمشة، ومشاركة اصحابها هذه "المتعة" الافتراضية وفك طلاسيم عالمهم السحري والتواصل معهم وملامسة احتفالاتهم اليومية داخل زاويتهم وتسليط الضوء على حياتهم وعيشهم وكسر تلك الحواجز التي في اذهاننا وتمديد المسافة التي تفصلنا وتبعدنا عنهم. لم تكن مهمة الاقتراب منهم بالسهلة،إذ احتاج الجلوس معهم اختيار الوقت المناسب،واستغلال حاجتهم للمال من اجل توفير بعض القنينيات من الكحول كلوجيستيك ضروري لتاثيت الخلوة. بالاضافة الى ضرورة تحسيسهم بالامان والاطمئنان واستعمال لغة قاموسهم الخاص. طبعا هناك شروط واتفاقات ضرورية، التزمنا بها وتطبيق جميع بنودها.كان اولها عدم تقديم النصيحة،عدم ذكر الاسماء الحقيقية،عدم طرح كثير من الاسئلة وابقاء الجلسة عفوية،يطبعها الارتجال. وبالفعل ،خضعنا لكل شروطهم على مضض،حتى يتسنى لنا الغوص في اغوار حياتهم الخاصة ومعرفة مايخبؤونه من اسرار وخبايا دفينة وفك رموز عالمهم هذا. في اول الامر لاحظنا مواقف غريبة احرجتنا واربكت حساباتنا،بعدما قام احدهم باعتراض سبيل احد المارة وطالبه بمساعدته ببعض النقود لاستكمال ثمن شراء قنينة كحول، وهو مادابوا على القيام به كل يوم ،قبل بداية الجلسة"الخلوة". انطلاقا من هذا الحادث بدا حوارنا حول الاكراهات المالية وضيق الحال وكيف يدبرون امورهم لتغطية مصاريف الكحول والتغذية والتدفئة ان كان الطقس باردا. "خلوة" اصحابنا غالبا ماتكون باماكن مناسبة،مظلمة وبعيدة عن انظار الناس .يختارونها بكل دقة ،تجنبا للاصطدام مع رجال الامن واعوان السلطة. من خلال النقاش العفوي، اتضح ان المواضيع التي يتناولونها تتكرر يوميا.تبتدئ عادة بالحديث عن الامور العامة لتنتقل الى ماهو شخصي، فيشرع كل واحد في استرجاع شريط الذكريات والماضي، مستعرضا اهم المحطات التي مر بها، قبل دخوله الى عالم التشرد والتسكع .وهكذا وعن طريقة "الفلاش باك" تستحضر صور الماضي ،ممزوجة بماسي واحزان، يرويها كل واحد حسب طريقته، فتختلط القهقهات بالدموع والصراخ تارة، قبل دخول الجميع في صمت رهيب لمدة طويلة،ثم اعادة استحضار النقاش ثانية . حالات نفسية مهزوزة ومؤثرة تطفو على السطح. لتتولد مسرحية دراماتيكية، شخوصها مواطنون كانوا بالامس يعيشون في ظروف جيدة، تحولت حياتهم الى ماسي، ونكون نحن المتفرجون على ادوارهم. مسرحية لن يسدل ستارها ابدا، مادامت القصة لم تنتهي بعد،ومادامت الظروف الاجتماعية والاقتصادية هي،هي. ننصرف نحن الجمهور الى حال سبيلنا ويبقى الممثلون على ركح المسرح، يؤدون هذه الادوار في قالب حزين، يتحول الى تيهان وفقدان للبوصلة، عندما تلعب الخمرة على عقولهم. قصص هؤلاء الاشخاص تختلف حسب الظروف، لكنها تلتقي فيما بينها خلال هذه الخلوة. عندما تكلم علي، مبتدئا قصته باهات، دخل اصحابه في صمت وسكون رهيبين وبدا على محياهم نوع من التعاطف معه، رغم انهم سمعوا حكايته مرات متعددة. علي هذا يبلغ من العمر حوالي 59 سنة، ابتدات قصته عندما حالفه الحظ خلال السبعينات وحاز على جواز سفر،فتح له الباب على مصراعيه للسفر الى ليبيا والعمل هناك. حصوله على هذه الوثيقة المهمة في ذاك الوقت،كان من باب المستحيلات. سافر الى هناك وبقي ثلاث سنوات،استطاع خلالها توفير مبالغ مالية مهمة،شجعته على العودة الى بلده المغرب،حيث حل بمدينة سطات،مكان ولادته.وبعد اسابيع من تعب السفر وزيارة الاحباب والاقارب، بدا يبحث عن رفاق الطفولة الذين رحبوا به واستضافوه بضعة ايام داخل خلوتهم، قبل ان يرد لهم الجميل،ويقوم بدور المضيف ويتكلف بتغطية مصاريف الجلسات باحدى الملاعب المشهورة بمدينة سطات(تيران الحلفة). هذا الفضاء التاريخي الذي ازيل نهائيا من مكانه اليوم، كان بمثابة ماوى وملجا،يحل به اصحابنا عند مغيب الشمس، ويحتضن الشباب الذين يزاولون كرة القدم نهارا، ليحتفظ بطابعه الرياضي،حيث تخرج منه لاعبون مشهورون،مثل بدة، مسلم، بنعلي، قنديل، فكيري، فلاحي، رضواني، سيبة، بهلاوي، الزعيم وغيرهم من اللاعبين المرموقين الذين اثتوا فريق النهضة السطاتية . استمر صاحبنا علي في تحمل مسؤولية مصاريف ومتطلبات الجلسة،واصبح الممول الرسمي،وصاحب الفضل على الاخرين.في يوم من الايام،عندما لعبت الخمرة بعقله وفكره،احس بالفخر،وبدا يسرد ويحكي مغامراته التي قام بها بليبيا واخرج جواز سفره الذي كان يساوي ذهبا انذاك ،من اجل التباهي،قبل ان يطلب منه احدهم منحه اياه لكي يتفحصه وقام بتمزيقه امام ذهول واعين الجميع،شعر معها علي بال"الحكرة"، لتتحول الجلسة الى حلبة عراك دامي، اختتم داخل بهو مصلحة الامن. بعدما تم الافراج على الجميع،وجد علي نفسه بدون جواز سفر من اجل العودة الى مكان عمله بليبيا ودخل في ازمة نفسية معقدة،فقد معها توازنه العقلي وصار يطوف ويتجول بشوارع ودروب مدينة سطات،ينطق كلاما غير مفهوم.وفي كثير من الاحيان كان يمس بمقدسات الدولة،الى ان تم اعتقاله والحكم عليه،ليقضي عقوبة حبسية،حالت دون حصوله على جواز سفر ثاني،ويمكث بمدينة سطات بعد خروجه من سجن عين علي مومن الفلاحي،ثم يقرر الالتحاق بهؤلاء المهمشين والمتسكعين،ويجد صعوبة كبيرة في ايجاد مايسد به رمقه. هذه اذن هي قصة علي يكررها كل يوم وتجد طريقها الى وجدان وقلوب رفاقه الذين يقومون بمواساته ومطالبته بنسيان كل هذه الماسي الاليمة والاستمتاع معهم باجواء الخلوة. عبد الواحد هو الاخر يستغل سكوت علي وينطلق في سرد حكايته المؤلمة التي ابتدات منذ قدومه الى المغرب قادما اليه من ايطاليا.وبعد مرور بضعة اسابيع،بدا يتردد على احدى الحانات،يمكث بها حتى الساعات المتاخرة من الليل.هذه الحياة الجديدة،اعتاد عليها عبد الواحد لمدة طويلة،الى ان فقد السيولة المالية،ليقرر الرجوع الى بلاد الغربة.لكن وفاة والده اجل ذلك،وبعده لبت والدته نداء ربها،ليصير صاحبنا وحيدا ويدخل في مرحلة حزن عميق،اثر عليه كثيرا،قبل ان ينزوي ويفقد توازن النفسي بعد مرحلة اكتئاب حاد،دفعه الى القيام بعادات غريبة ،انتبه اليها الجميع،حيث بدا يرتدي ملابس غريبة، ويقوم بحركات اثارت استغراب المحيطين به، اشرت على دخوله الى مرحلة التيه،فقد معها اتزانه ،فصار يتردد على الحانة من دون مصاريف،تعرضه دائما للاهانة والطرد . امام هذا الوضع الجديد،قرر عبد الواحد اتخاذ "تيران الحلفة" مأوى له ويلتحق باصدقائه، يتعاونون على ايجاد بعض الدراهم لاقتناء قنينات خمر وكحول، نسي معها الرجوع الى ايطاليا. هذه بعض من حكايات وقصص هؤلاء المشردين والمتسكعين،التي كان لها الوقع السلبي على حياتهم،وجعلتهم يعيشون ظروفا غير عادية،بعدما كان لهم دخل مالي قار ووجدوا انفسهم داخل متاهة معقدة لم يتمكنوا من الخروج منها الى حد الان. جلسة مع اصحابنا دامت ساعات،لم نحس بها بالملل،انسجمنا وتفاعلنا مع اطوارها بحزن والم شديدين.لكن هناك مواضيع اخرى اثارت اهتمامنا .كان اهمها النقاش الذي دار حول السياسة الداخلية والخارجية، ومايدور من قضايا الارهاب والعنصرية وماتقوم به امريكا وروسيا بالعالم العربي والاسلامي وكذا دخول صدام حسين الى الاراضي الكويتية والحرب العراقية الايرانية وقضية فلسطين وبطولات ياسر عرفات التي اربكت اجهزة المخابرات الاسرائيلية والوضع بليبيا والقدافي والربيع العربي ،رجوعا الى الانتخابات والاحزاب السياسية المغربية وعلاقة المغرب بالجزائر ومايكنه عسكرها من حقد واختلاقه لازمة الصحراء بصنعه لكيان وهمي اسمه البوليساريو. كما عرج النقاش على الرياضة وخاصة كرة القدم والفرق الوطنية وبالخصوص فريق نهضة سطات وامجاده ولاعبيه وفترة ادريس البصري لما كان وزيرا للداخلية. نقاشات وحكايات تنتهي في الغالب بسباب وتشابك بالايادي واحتكاكات جسدية، سرعان ماتنسى في اليوم الموالي وترجع الامور الى نصابها. كل واحد من هؤلاء المهمشين يستفيق على وقع نهار جديد بلا اهداف ولامرامي. يتوقون الى عيش بسيط غير عيشنا،لايطمعون فيه بالرفاهية والكماليات.لايريدون سوى مايسدون به رمقهم ، حتى ينسوا قساوة الحياة. هؤلاء الاشخاص يحتاجون لرعاية واهتمام لاخراجهم من هذا العالم المظلم، المليء بالرتابة والملل. هم محتاجون ايضا الى مبادرات شجاعة لاحتضانهم والاستماع اليه من خلال وضع مركز للرعاية والاستماع رهن اشارتهم. حسن حليم