عبد الله الحامدي: الحراك العربي انزلق إلى حروب أهلية والمغرب أعادني إلى مقاعد الدراسة توطئة: عبد الله الحامدي شاعر يأتينا من أقاصي الجرح العربي، محملا بأحلام البسطاء المرهفين والحالمين بالقصيدة، وقدرتها على ترميم تشظي الذات الشاعرة، في زمن متناقض ومزاجي كالريح، ولأنه آمن بالشعر أسوة بالصعاليك، يعتبره فعلا إنسانيا جماليا حرا، لذلك تبدو نصوصه وفية لهذه الحرية اللاهثة خلف الجمال فقط، متحللة من شروط شعرية المعيار التي مارسها الشعراء في أزمنة ليست بالضرورة أزمنته، منذ مرحلة الطفولة وهو يجتهد لفك أسرار الشعر، ومازالت محاولته متواصلة لاستيعاب أراضيه النائية وغير المكتشفة. في هذا الحوار يستعيد الشاعر السوري عبد الله الحامدي، طفولته الشعرية، وانشغالاته، والحراك الثقافي السوري، وقضايا أخرى يجليها الحوار التالي: الشعر وطقوسه * ما الذي تفعله راهنا؟ وما الذي يشغل أفقك شاعرا وإنسانا؟ ** كل ما أفعله خارج الشعر حاشية والشعر هو المتن، لكنه متنٌ يتسع للحياة بأسرها، الشعر فعل إنساني جمالي حر، فلا شعر بلا حرية، لذا فإن قصيدتي تمثل بالنسبة إليّ حريتي القصوى التي لا أساوم عليها، إنها الشيء الوحيد الذي أختاره دائما بلا إكراه.. وأجد نفسي منشغلا إلى حد الرعب بانهيار الشعر أمام سيول الركاكة والكلام الفارغ المعاد تدويره في الإعلام بكل أنواعه، الأصيل منه والبديل، وكأننا نتعرض اليوم لطوفان جديد، وليس أمامنا سوى ركوب سفينة النجاة، التي هي الشعر. * الانتساب إلى شجرة الشعر دوما يرتبط في بداياته بالارتباك والخجل. هل تتذكر أولى خطوات هذا الانتساب؟ ** كان ذلك في مرحلة الطفولة، لم أكن أفهم الشعر، أخذت غصنًا يابسًا ورحت أكتب به أولى أبياتي الشعرية على تربة رطبة بعد هطول المطر في الربيع، ومنذ ذلك الحين وأنا أحاول أن أفهم الشعر دون جدوى، وأنا سعيد بذلك فقد منحني بالمقابل شعورًا عارمًا بالجدوى. * البدايات الشعرية تلتصق دوما بالنص الغائب/ أو بنصوص غائبة مرتبطة بالمقروء. كيف كانت علاقتك بهذا النص الغائب؟ وهل ثمة أسماء شعرية أضاءت متخيلك الشعري؟ ** أول قصيدة ارتبطتْ بي أو ارتبطتُ بها عفويًا يقول مطلعها "العينُ بعد فراقها الوطنا/ لا ساكنًا ألِفتْ ولا سكنا"، ولو بقي شاعرها السوري خير الدين الزركلي حيًا إلى عصرنا هذا لبكى وسحب تلك القصيدة من التداول، حيث أصبح الوطن موحشًا، والبقاء فيه نوعًا جديدًا من الانتحار، والسؤال هل هناك شعراء آخرون عاشت قصائدهم في الذاكرة وكأنها كتبت اليوم؟ نعم، وهم كثر، بحثت عنهم فيما بعد شرقا وغربًا، من المتنبي إلى لوركا، ومن نزار قباني إلى بوشكين، ومن وولت ويتمان إلى مولانا جلال الدين، ومن سان جون بيرس إلى ابن عربي، كانوا أسماء فعلا وصاروا أصدقاء لي يرافقونني دوما، ويظهرون لي في البيت والمقهى والقطار والمكتب والشارع دون موعد في كثير من الأحيان. * هل ترتبط الكتابة لديك بطقوس معينة بالضرورة؟ ** القصيدة تحضر وتُحضر معها طقسها. في مدار التراجيديا السورية * أنت معدود على جيل الحساسية الجديدة في الشعر العربي. كيف تنظر إلى تجربتك من منظور القارئ؟ وهل الراهن فعلا يتسع لمقولة موت الشعر؟ ** الشعر لم يمت، ولن يموت إلا بفناء البشرية، المشكلة ليست في الشعر بل في جموع الدخلاء عليه، والقراء الذين صدّقوهم، كان الله في عون القارئ "الجميل"، وهو يخترق كل هؤلاء ليصل إليّ. * بلا شك تتابع الحراك الثقافي الموازي للحراك السياسي في سورية، إلى أي حد استطاع الشعر أن يواكب التحولات التي يعيشها المجتمع السوري؟ ** لم يعد حراكًا الآن، إنها الحرب الأهلية بكل ما تحمله الكلمة من معنى، سورية اليوم جهنم أرضية، بعدما كانت جنّة نسعى إلى تأثيثها بالحب والحرية ومزيد من الجمال، كان الشعر هاجسًا يوميًا لدى شرائح واسعة من الشعب السوري، أما اليوم فهو يتبخر مع الأرواح نحو السماء في مشهد تراجيدي مذهل إلى حد الأكذوبة. * تقول في إحدى نصوص ديوانك الأخير: (أجيل النظر في سمائك يا عامودة/ من أين تأتيك الغيوم؟/ والطيور المهاجرة طوال العام). ما الذي تمثله لك مدينتك الصغيرة عامودة؟ ثم من أين تأتيها الغيوم والطيور المهاجرة؟ ** لو كنت أعلم لما تساءلت.. لقد حاول علماء البيئة والمناخ الإجابة عن مثل هذه الأسئلة، التي لم تقنع أبناء عامودة، فهاهم يهاجرون إلى شتى بقاع الأرض، لاسيما هذه الأيام، حتى وصلوا إلى القطبين الشمالي والجنوبي لمعرفة السبب، أهالي عامودة فضوليون مثل الطيور المهاجرة أو العكس هو الصحيح! * أصدرت ثلاث مجاميع شعرية إلى الآن. ما الذي قدمته إليك شعريا ووجوديا؟ وهل تؤمن بأن القصيدة قادرة على تغيير قناعات العالم؟ ** الشعر يغيّر العالم بالفعل، فالشعراء يرممون خرابه فيما "الزعماء" يواصلون هدمه، بمساعدة تجار الحروب وسماسرة السياسة، أما دواويني فهي محاولة مني لتغييره. * تراهن نصوصك الشعرية في خلق عوالمها الشعرية على بساطة اللغة، وعلى الاحتفاء بالذات وتشظي العالم والطبيعة والإنسان. علي أيِّ قارئ تراهن وأنت تكتب هذه النصوص؟ ** العبقرية في البساطة، الشاعر الحقيقي والقارئ الذكي يعرفان ذلك، المسألة لا تحتاج إلى رهان، الشعر في النهاية ليس مقررًا إجباريًا، إنه حصة فراغ يرتاح فيها القارئ إن أحب، لكنه يخرج منها مشحونًا بشرارة الإبداع والمعرفة. الصحافة والشعر * أدرت ملحق "الشرق الثقافي" لصحيفة الشرق القطرية لمدة زمنية، ثم توقفت التجربة، هل توقف تجربة ملحق الشرق الثقافي مرتبط بالوضع الثقافي العربي، حيث الثقافة والإبداع آخر الأمور المفكر فيها؟ ** ملحق "الشرق الثقافي" توقّف لكي يتحول إلى مجلة ثقافية شهرية اسمها "أعناب"، ومن تابع تجربة الملحق وانتظار القراء له أسبوعيًا، في الوطن العربي وفي شتى المهاجر بالعالم، يمكنه تخمين ماهية الثمرة الجديدة، نحن لا نراهن على الوضع الثقافي العربي، ولن نتباكى عليه، نعرف ما نحن فيه ولكننا نعرف أيضا أن الثقافة قلعتنا الوحيدة المتبقية. * كيف تقرأ الإشعاع الإعلامي في الخليج العربي عموما؟ ودولة قطر تخصيصا؟ قطر والخليج العربي جزء من وطننا العربي الكبير، هذا ما أنا مقتنع به، بعيدًا عن الشعارات التي امتطاها الحكام والسياسيون والمنافقون تحت يافطات قماشية وخشبية، أنا مؤمن أن ماضينا واحد ومستقبلنا واحد، لا أتحدث عن عرق عربي، بل عن ثقافة عربية أسهم فيها مبدعون من شتى الأعراق والمشارب والاتجاهات، منذ صدر الإسلام والعصور التالية الأموية والعباسية والعثمانية وصولًا إلى العصر الحديث، فنجد أعلاما من الفرس والأتراك والأكراد والأمازيغ والنوبيين وسواهم، سواء من كتب منهم باللغة العربية أم بلغته الأم وكانت العربية وعاء لثقافته، لا توجد ثقافة في الدنيا نقية وصافية ومعقّمة من الثقافات الأخرى،وقد نجحت الطفرة الإعلامية الخليجية بالتوازي مع** الطفرة النفطية في استقطاب الإعلاميين العرب من مختلف الأقطار والاتجاهات الفكرية والإيديولوجية، ولاسيما في الفترة التي سبقت مجيء "الربيع العربي"، الذي تحوّل أو تم تحويله عمدًا إلى خريف كئيب، لأسباب كثيرة، لعل أهمها من وجهة نظري محاولة ركوب موجة الثورات من قبل تيارات وجماعات بعينها، متطرفة ومستبدة، مع أن بارقة الأمل العربي هذه ولدت شعبية وتمخضت عن حراك اجتماعي مدني سلمي، ولكن حدث ما حدث، والآن سوف نحتاج عمرًا آخر لكي نعود إلى حالة الوئام الحضاري من جديد. * في ظل واقعنا العربي المتسم بالحروب المجانية، وإغلاق الحدود، وارتفاع وتيرة الإقبال على الوجبات السريعة والهواتف الذكية؟ هل تراهن على الشعر في تغيير الراهن الحياتي والإنساني؟ ** بالطبع، وهذه مسؤولية الشعراء التي يتحملون وزرها طوعا، فالشعر يجعل للحياة معنى وسط فوضى الشكليات وحالة الاستلاب التي أشرت إليها. * تواصلت مع المغرب، لإكمال الدراسات العليا، كيف تقرأ المغرب ثقافيا وشعريا؟ ** ما قدّمتْهُ لي المغرب لن أنساه ما حييت، أعادتني إلى مقاعد الدراسة والطفولة والطبيعة، المغرب سحرتني بكل ما فيها، مدنها وناسها وأجوائها الثقافية والشعرية، ثمة قصيدة لي اسمها "طنجة" منشورة في ديواني الأخير "الرهوان" تجيب عن هذا السؤال، وأختار منها هذا المقطع: "هل أنا أولُ العاشقين هل أنا آخرُهم؟ بين عطرين: زهرةِ الأقحوانِ وطنجةَ أو طنجةَ وزهرةِ الأقحوانِ لا تغاري يا جميلتي الخضراءَ فكلُّ قمرٍ لا يشبُهكِ يغرقُ في البحرِ وكل بحرٍ لا يغتسلُ بكِ صحراءُ!". حاوره: عبد الهادي روضي