بعد أن عجزت المحاكم العمومية، عن فك «اوحايل» المتقاضين من عموم الشعب و«أيها الناس»، وأصبحت سمتها المميزة تراكم الملفات والقضايا، مع مواجهة المتقاضين بمنطق «سير حتى...»، جاء البديل في شكل محكمة غيبية، لا يتوان قاضيها الأكبر في البت بسرعة خارقة، في مجمل القضايا، التي يتم عرضها أمامه. المحكمة المذكورة، لا تتطلب كثير تكاليف، ولا أتعاب جهاز محاماة، بل تكفي ذبيحة «تيس» أسود، تراق دماؤه على مذبح «سعادة» القاضي، ليأتي الحكم الفصل، وترد الحقوق لأصحابها. عقبة وحيدة كأداء، تقف في وجوه المواطنات والمواطنين، الراغبين في رفع تظلماتهم أمام هذه المحكمة «الخاصة جدا»، وهي ضرورة قطع مسالك وعرة، ومنعرجات خطيرة بين جبال الأطلس، للوصول الى سفح جبل توبقال أعلى قمة جبلية بالمغرب، حيث مقام «رئيس المحكمة الأعظم». «سيدي شمهروش»، أو «ملك ملوك الجن» كما يلقبه مريدوه والمشرفون على محكمته، مازال حيا يرزق، بالرغم من مواراة جسده الثرى، وتلك إحدى معجزاته الخارقة، ويحرص أشد الحرص، على متابعة مجريات كل المحاكمات التي تتم بمحكمته «الموقرة»، ويترأسها بالتناوب سبعة من ملوك الجن الشداد الغلاظ، المؤمنين برسالة سيدنا محمد، كرسول لله وخاتم الأنبياء والمرسلين، ما يجعلهم محصنين ضد أي انحراف في أحكامهم، حيث لاتأخذهم في الله لومة لائم، لتبقى أحكامهم بذلك بعيدة كل البعد، عن كل سلبيات وافات محاكم البشر ،من رشوة ومحسوبية، وهذا «باه صاحبي». ليست كل القضايا طبعا، مفتوحة في وجه المتقاضين، حيث تختص محكمة «سيدي شمهروش»، في نوعية خاصة من القضايا، وهي تلك المتعلقة بالقضايا العالقة بين الإنس والجن. ولأن قاضي قضاة المحكمة المذكورة، قد أوقف عمله على المسلمين دون غيرهم، من أتباع باقي الديانات السماوية، فانه يمنع على غير أتباع عقيدة النبي محمد(ص) الولوج لفضاءات المحكمة، وبالتالي على كل أجنبي الاحتفاظ بمسافة بينه وبين أعتاب محكمة «سيدي شمهروش». كل معالم المكان، تحيل إلى غرائبية الفضاء، فعلى مقربة من قبة نحتت تحت الصخر، يتوسطها ما يشبه الضريح، مغطى بأثواب خضراء، يتموقع مذبح بالهواء الطلق، تجلله آثار دماء قديمة وحديثة، تشير إلى القرابين التي تم تقديمها، كأتعاب من المتقاضين للقيمين على المحكمة. منطقة أمليل الهامشية، والتي تبعد عن مراكش بحوالي 50 كيلومترا، وبعد أن حظيت بشرف احتضان فضاء المحكمة الخاصة، ل«سيدي شمهروش»، أصبحت علامة مميزة، تعرف توافد العديد من الزوار والمتقاضين الذين ينحدرون من مختلف مناطق الحضرة المراكشية، تلمسا لحكم عادل، يفصل بينهم وبين بعض «الجان» الذين تخطوا حدود اللياقة، وتطاولوا على أجساد وأرواح بشرية، دون وجه حق. فضاء غرائبي بامتياز، إن على مستوى تموقعه وسط صخور نتئة بسلسلة جبال الأطلس، أو على مستوى طبيعة الطقوس والعادات، المعمول بها بهذا المكان، أو حتى على مستوى طبيعة القضايا المعروضة على أنظار قضاة المحكمة من الجن السبعة، الذين يتولون الأحكام، تحت أنظار رئيس المحكمة «سيدي شمهروش». وعلى ضوء الشموع المتناثرة بقبة «ملك ملوك الجن»، تتهاوى الأجساد البشرية، وهي قي حالة صرع، وألسنتها تلهج بأصوات مختلفة، بكلمات غريبة وغير منسجمة، وحدهم قضاة المحكمة، من يفهم دلالاتها ومعانيها، كما أنه من العادي جدا أن تتحدث المراة بصوت رجل خشن، وأن يتحدث الرجل الذي لم ينل حظه من التعليم بالمدارس العمومية، بكلمات مسترسلة من لغات أجنبية مختلفة، قد تمتد إلى لغة الهندوس والأباش البائدة. غالبا ما تكون المحاكمات مصحوبة، بتقلبات جوية ومناخية، تعصف خلالها الرعود، ويقصف البرق، وفي ذلك إشارة إلى أن القضاة يستلهمون أحكامهم العادلة، من عوالم غيبية، وحدهم القيمون على المكان، من يعلم تفاصيلها ودقائق تجلياتها، لتبقى بذلك محكمة «سيدي شمهروش»، إحدى أهم المحاكم بالحضرة المراكشية، التي لا تتطلب أحكامها استئنافا ولا نقضا، بالنظر لعدالته، وقبول جميع الأطراف المتقاضية بصوابية أحكامها. مراكش: محمد موقس