بدأت علاقتي بالجزائر بطريقة غريبة، و في وقت مبكر من طفولتي، أول رحلة الى حدود الجزائر كانت مع الكشفية الحسنية المغربية، كان عمري وقتها خمس أو ست سنوات، و المخيم كان في جوهرة متوسطية ساحرة اسمها السعيدية، و كنا سعداء فعلا بالسفر، رغم أنه كان متعبا جدا، و طويلا جدا، القطار الى وجدة ثم الحافلة الى المدينة الصغيرة النائمة في حضن المتوسط، و التي تستيقظ كل صيف لتعري عن مفاتنها حتى تخطف الألباب و تأخد الأحباب بالأحضان في بساطة و جمال غير متكلف. ما أثار انتباهي وقتها، و هو شئ سيتكرر مع مرور السنوات، بعد أن أصبحت السعيدية هي حجنا الصيفي الذي لا يعلى عليه لفترة غير قصيرة، هو هذه الرغبة التي كانت لدى مجموعة من الكشافة في الذهاب للسباحة قرب الحدود، و كنت أنا بفرح طفولي، و لكن أيضا بفضول الصغار، و قد كنت شبلا ساعتها، أتبعهم، أراقبهم، ألاحظ سلوكاتهم، أرمق سعادتهم بتصرفاتهم المتهورة، خصوصا عندما يمعنون في الاقتراب من السياج بتحدي برئ، كما لو أن شيئا يجذبهم كالمغناطيس، كنت أراهم يسبحون و هم يشاهدون شبابا مثلهم في الجانب الآخر يفعل نفس الشئ، كما لو كانوا يشاهدون أنفسهم في المرآة. بعد هذا اللقاء الأول بالجزائر، كانت حكايات الوالد عن دول المغرب الكبير التي زارها غير مامرة، كان يتحدث عن الجزائر بحب، و يقول لي انها كالجميلة التي اغتصبها أهلها، كان يتحدث بحرقة، لم أكن أحسها في كلامه حين الحديث عن ليبيا و كيف هرب منها الكتاب الأخضر الشهير، أو عندما كان يحدثني عن الشابي و حشاد و تونس الخضراء. بعدها كان لقائي بالجزائر عبر أحلام.. مستغانمي، القلم الجميل و الحس الجميل و الوجه الجميل، ثم واسيني و ياسمينة و بقية البقية.. بمرور الزمن، كانت دائما تحضر في ذهني تلك المرآة اللعينة التي تفسر بالنسبة لي علاقة الشعب المغربي و أنا منه و لم أختر، بالشعب الجزائري، و قد كان ممكنا أن أكون جزائريا، لكنها الأقدار حين تكون لطيفة بالمرء. عندما تشاهد نفسك في المرآة، فانك تشاهد صورة منك، لكنها معكوسة.. بالنسبة لي، الشعب الجزائري هو الشعب المغربي.. لكن بصورة معكوسة. لقد لعب التاريخ لعبته معنا كما تلعب المرايا مع وجوه البشر، لاحظ معي أن المغرب حافظ على استقلاله لمدة قرون مديدة، فيما الجزائر ظلت مستعمرة لقرون عديدة.. تابع معي أن الاستعمار الفرنسي للجزائر دام قرابة ال140 سنة، و قد أخذ المشعل من الاستعمار التركي الذي لبس لباس الخلافة الاسلامية المفترى عليها قرونا، و ما هي الا أموال و غنائم و جواري و سبايا و دايات و بايات، فيما ظل المغرب مستقلا يقاوم الى أن سقط في سلطة الحماية كاخر دولة اسلامية تستعمر، و حتى في الاستعمار اختلف المغرب عن الجزائر، لسخرية الأقدار، فأرادت فرنساالجزائر فرنسية، و أراد من خططوا لدخول المغرب الحفاظ على هيكل الدولة المغربية و في قلبها نظام المخزن، كان لويس هوبير كونزالف ليوطي يرى في المغرب الملكية التي فقدتها فرنسا و قد كان ملكيا شرسا، في الوقت الذي كان الفرنسيون في الجزائر ينحتون قيم جمهورية فرنسية في تربة غير صالحة. بعدها يستمر التاريخ في عكس مصير الشعبين، فتقوم فرنسا التي كانت تظن أن الجزائر ستبقى لها الى الأبد باقتطاع أراضي شاسعة من الصحراء الكبرى في الجنوب لم تكن جزائرية أبدا حين دخلت للبلد أول مرة، و اقتطعت أراضي من تونس و ضمتها للجزائر الفرنسية، و بطبيعة الحال لم تنس قبل أن تفرض الحماية على المغرب اقتطاع صحرائه الشرقية بتندوف و القنادسة و بقية المناطق المغربية لتلحقها قسرا بالجزائر. المشكلة أنه بعد الاستقلال، لم يجد المغرب، و قد كان امبراطورية ممتدة لفترات طويلة من اسبانيا الى نهر السينغال، صعوبة كبيرة في حكم أراضيه و لو ناقصة، في المقابل، ورث الجزائريون مساحات شاسعة لم تكن لهم لولا فرنسا، كما لم تكن لهم خبرة المخزن الطويلة في حكم بلاد مترامية الأطراف، و من هنا فشل الطغمة العسكرية الجزائرية في حكم الجزائر، النموذج اليعقوبي الفرنسي مرتبط أشد الارتباط بالارث الاستعماري، و يوم تفكر الجزائر في الجهوية ستكون قد حكمت على نفسها بالتفكك، و من هنا سر القبضة الأمنية ل DRS، و معارضة الحكم الذاتي المغربي، لأنه باب خير على المغرب، و لكنه باب جهنم على الجزائر في القبايل كما مع الطوارق كما مع بقية الجهات. هذا لا يعني أن النموذج اليعقوبي لم يطبق في المغرب، لكن المخزن له تقاليد سابقة على هذا النموذج فيما يخص الجهات و التعامل مع الخصوصيات المحلية و الجهوية، و الحكم الذاتي فيه لن يكون نبتة حائطية. مفارقات الأقدار سوف تتعمق مع الحسن الثاني، فقد كان قمة في الذكاء و مثقفا كبيرا و ابن أسرة عريقة، عكس حكام الجزائر، سيختار الحسن الثاني العالم الحر، اقتصاد السوق و التعددية الحزبية، و سيختار بوخروبة الاشتراكية و الحزب الوحيد و حكم العسكر. سينتصر الحسن الثاني رحمه الله في حرب الرمال و سينظم المسيرة الخضراء بدهاء و تصميم و تخطيط الموهوبين، سينهزم بومدين و سيصعد بمسيرة مضادة سماها المسيرة الكحلة لطرد 350000 مغربي من الجزائر ردا على استرداد المغرب لصحرائه، مع أنه كان يقول أن لا أطماع للجزائر في الصحراء، و قد كان يكذب. فلاحة وصناعة وسياحة في المغرب، و اقتصاد فاشل في الجزائر، تطور سياسي و مساحات من الحريات الفردية و الجماعية في المغرب مع طمع مشروع في المزيد، على النقيض في الجزائر، عشرية سوداء و حكم أجهزة في الخفاء و اغلاق للحقل السياسي و المدني. يمكن أن نستمر في ذكر الأحداث و التاريخ في المغرب و صوره المعكوسة في الجارة الجزائر الى ما لا نهاية.. ألم أقل لكم انها المرآة اللعينة ?.. كثيرون يقولون في خفة و تنطط أننا و الجزائريون شعب واحد، لا.. لسنا شعبا واحدا، الشعب الواحد يكون له تاريخ واحد و اختيارات واحدة و رموز واحدة، في حين أن رموزنا مختلفة و اختياراتنا بعيدة عن اختياراتهم بعد الشرق عن الغرب أو قل بعد السماء عن الأرض، و تاريخنا كما رأيتم شكل تاني، لا يمتلكه الجزائريون، لذلك أقول.. لا.. لسنا شعبا واحدا، و هذا لا يعني أننا نكره الشعب الجزائري، فليس شرطا أن يكون الجزائري مثلنا كي نحبه، عليه فقط أن يتوقف عن قول أشياء عبيطة عندما يسمع مثلا بقرار المغرب تأجيل الكان، من قبيل : خافو منا!! خافو منا!!.. فعلى ما أتذكر، و الى حدود 2010 كان آخر فوز للمنتخب الجزائري على نظيره المغربي سواء في لقاء رسمي أو ودي قبل 30 سنة !!، كما أن المباراة الأخيرة بينهما عرفت فوزا ساحقا للمنتخب المغربي بأربعة أهداف.. لصفر..